في تلقّي الأفكار التطورية عربيًا (مراد دياني)
شكّل السياق النهضوي العربي للنصف الثاني من القرن التاسع عشر أرضيةً خصبة وفترةً مناسبة لتلقي الأفكار التطورية التي حظيت بقبول شريحة من مثقفي النهضة وجدوا فيها ضالّتهم؛ فقد كانت تحمل في أعينهم معاني “النهضة” في مقابل “الانحطاط”، و”التقدم” في مقابل “الجمود”، وفصل “المنظور العلمي المادي” عن “المنظور الديني الروحي”[1]. ولذا سنجد أنّ البعض منهم سيستعير الأفكار التطورية في محاولةٍ لتجسير الفجوة المفترض درؤها بين الأفكار التطورية الغربية من جهة[2]، والموروث العربي من جهةٍ ثانية، ولا سيّما في مجال الأدب[3]، والذي افترضوا أنه منطوٍ عليها ضمنًا، من دون أن تجري مناقشتها أو مُساءَلتها، أو حتى محاولة التأسيس لفهمٍ معمق لأسسها وآلياتها.
لا نروم في هذه المقالة المركّزة استقصاء الكتابات العربية في موضع التطور والارتقاء في كليتها، بل نودّ الاستعراض فحسب لبعض النماذج البارزة منها والمعبّرة عن اتجاهاتها ممّا كتبه بعض أهم مناصري نظرية التطور من كتابات مؤيدة للأفكار التطورية، ومن تصدَّى لمناقشتهم، ومن سعى إلى بلورة مقاربات توفيقية تربط تلك الأفكار بالموروث الحضاري للأمة وثوابتها؛ بمرام بلورة فهمٍ أكثر اتساقًا للإطار السياقي العام الذي جرى فيه تلقّي الأفكار التطورية عربيًا.
- مناصرو الأفكار التطورية
يعدّ شبلي شميل (1850-1917) أول من بدأ في نشر فكرة النشوء والارتقاء في مصر والوطن العربي وأشهرهم، والتي نشرها في مجلة المقتطف، ثم في مؤلّفه فلسفة النشوء والارتقاء. كما أصدر بمعية سلامة موسى صحيفةً أسبوعية اسمها المستقبل سنة 1914. وقد سبق الماديين الغربيين أنفسهم إلى نفي كل صفةٍ روحية أو غيبية في الإنسان، إذ نجده يقول في مقدمة ترجمته بخنر على مذهب داروين: “إنّ الإنسان على رأي هذا المذهب طبيعي هو وكل ما فيه مكتسب من الطبيعة. وهذه الحقيقة لم يبقَ سبيل للريب فيها اليوم، ولو أصرَّ على إنكارها مَن لا يزال مفعول التعاليم القديمة راسخًا في ذهنه رسوخ النقش في الحجر”[4].
كما تجدر الإشارة إلى فؤاد صروف (1900-1985) الذي أدى دورًا مهما في مجلة المقتطف بين عامي 1927 و1944، التي أسسها يعقوب صروف (1852-1927) عام 1876، واستمرت في الظهور إلى عام 1952، بوصفها ملاذًا للدفاع عن النظر العلمي والأفكار التطورية.
- مناوئو الأفكار التطورية
من جهة مناوئي الأفكار التطورية، يتصدر جمال الدين الأفغاني (1838-1897) قائمة معارضي نظرية التطور من بين المفكرين المعاصرين، وقد كان رفضه قاطعًا للنظرية. ففي كتابه الرد على الدهريين، والذي نشر لأول مرة بالفارسية في عام 1878 ثم بالعربية في عام 1885، شنّ الأفغاني هجومًا حادًا على نظرية داروين، وحاول تقديمها على أنها مجموعة من الادعاءات غير العلمية المفتقدة للمنطق. ونذكر في هذا الصدد قوله: “رأس القائلين بهذا القول داروين، وقد ألف كتابًا في بيان أنّ الإنسان كان قردًا ثم عرض له التنقيح والتهذيب في صورته بالتدريج على تتالي القرون المتطاولة وبتأثير الفواعل الطبيعية الخارجية حتى ارتقى إلى برزخ أوروان أوتان، ثم ارتقى من تلك الصورة إلى أول مراتب الإنسان (…) وعلى زعم داروين هذا، يمكن أن يصير البرغوث فيلًا بمرور القرون وكرّ الدهور، وأن ينقلب الفيل برغوثًا كذلك”[5].
بيد أنّ فهم الأفغاني للنظرية لم يكن متسقًا تمامًا، شأنه شأن إبراهيم حوراني (1844-1916)، وهو كاتب وشاعر ومترجم سوري اشتهر بنقد مذهب التطور والرد على الداروينية من منظور ديني مسيحي. فعندما أصدر شبلي الشميل سنة 1884 ترجمة كتاب شرح بخنر علی مذهب داروين، رد عليه حوراني في السنة نفسها بكتاب مناهج الحكماء في النشوء والارتقاء. وعندما أصدر شبلي الشميل كتاب الحقيقة (1885)، ردّ حوراني مرة ثانية بكتاب الحق اليقين في الرد على بطل داروين (1886)[6].
وفي إبان احتدام النقاش بين مؤيدي مذهب التطور ومنكريه، أصدر الأب جرجس فرج صفير الماروني في عام 1890 كتاب في أصل الإنسان والكائنات: دحضًا لمذهب التحول وردًا على الدكتور شبلي شميل الذي عرب شرح بخنر على مذهب دروين نهج فيه منهج الحوار بين خصمين، سمى أحدهما بـ “الإنسان القردي” وسمى الآخر بـ “الإنسان الآدمي”. ويفضي هذا الحوار إلى عجز “الإنسان القردي” عن الجواب، ليخلص إلى أنّ العلوم الطبيعية وحدها لا تكفي لتحقيق النظر في أصل الوجود من حيث هو وجود، ولهذا سمى البحث عن أصل الوجود بما بعد الطبيعة[7].
- التيار التوفيقي
ذهب فريق ثالث إلى محاولة التوفيق بين النظرية الداروينية والتراث الإسلامي، ومن أهمهم عباس محمود العقاد (1889-1964) الذي دعا إلى عدم الاستناد إلى القرآن الكريم في إنكار مذهب التطور. ولذا نجده يقول في الجزء الرابع من موسوعة عباس محمود العقاد الإسلامية: “من خصائص مذهب داروين -على ما يظهر- أن يشيع على نحوٍ واحد قبل الوقوف على شروحه وبراهينه، وأن يثير ضروبًا متقاربة من الاعتراض في مواطن العقيدة والثقافة العامة.. فإنه لقي في الشرق العربي مثل ما لقيه من التحريف والاعتراض في البلاد الأوروبية، وتتابعت أدوار السماع به ثم الإشاعة عنه ثم الرد عليه بين المفكرين وقراء العلم الشرقيين كما تتابعت قبل ذلك بين مفكري الغرب وقرائه، وتكرر هذا كله في الشرق العربي كأنه يحدث للمرة الأولى”[8]. وينتقد العقاد خصوم مذهب التطور فيقول: “وليس يخالجنا كثير من الشك ولا قليل في خلو كتاب الإسلام مما يوجب القول بتحريم هذا المذهب. فقد يثبت غدًا أنّ المذهب صحيح كله أو باطل كله، أو يثبت أنّ بعضه صحيح وبعضه باطل، ولكن كتاب الإسلام لا يصدّ عن سبيل العلم في أية وجهة من هذه الوجهات.”[9]. ويذكِّر العقاد في هذا الصدد بموقف من وقفوا ضد مختلف الأفكار والحقائق العلمية والفلكية، مثل إنكار دوران الأرض حول الشمس.
كما نجد إلى جانب العقاد في صفّ المذهب التوفيقي أمين الخولي (1895-1966)، الذي استقصى أصول نظرية التطور في الفكر البشري، عند الإغريق، ثم عند الإسلاميين، خصوصًا مع جماعة إخوان الصفاء وخلان الوفاء، وابن سينا، وابن طفيل، والقزويني، وابن خلدون، ليتوسّع في تطبيق فكرة التطوّر على علم الكلام والفقه واللغة، بل تعميمها لتشمل أبعادَ الوجود البشري المعنويةَ والفكريةَ والاجتماعيةَ والأخلاقيةَ كافة. كما تجدر الإشارة أيضًا إلى حسين الجسر (1845-1909) الذي وضع مؤلفًا في عام 1888 يتناول نظرية التطور بعنوان الرسالة الحميدية في حقيقة الديانة الإسلامية وحقية الشريعة المحمدية.
ويظل أهم وجوه هذا التيار إسماعيل مظهر (1891-1963)، الذي ترجم الفصول الخمسة من كتاب داروين أصل الأنواع عام 1918[10]، ودعا إلى أفكاره في مجلة العصور (1930-1972) التي كان يكتب في صدرها: “حرر فكرك من كل التقاليد الموروثة، حتى لا تجد صعوبة في رفض رأى من الآراء، أو مذهب من المذاهب اطمأنت إليه نفسك وسكن إليه عقلك، إذا انكشف لك من الحقائق ما يناقضه”؛ وتابعها لاحقًا في مجلة المقتطف. كما ألّف كتابًا عنوانه مذهب النشوء والارتقاء عام 1923، وعاد وطوَّره في ملقى السبيل: في مذهب النشوء والارتقاء عام 1942. وقد اتخذ إسماعيل مظهر موقفًا نقديًا إزاء من كتب عن التطور قبله، وبخاصة شبلي شميل وجمال الدين الأفغاني، فكما يقول في مقدمة كتابه: “لما كان لأولهما من الأثر في نشر المذهب الدارويني مشبعًا بالرأي المادي، ولما كان لثانيهما من الأثر في العمل على نقض المذهب، قضاء لمعتقده من أن نشر هذا المذهب قد يفسد من طبيعة الشرقيين وتقاليدهم أكثر مما ينفعهم”[11]. وهو بذلك كان يسعى لإقامة مصالحة تاريخية وطريق ثالث يقف بين الاتجاه العلمي الإلحادي والاتجاه الديني الغيبي، بحيث يستجيب بمحاولته تلك لنوازع التوفيقية التي ملكت حركته وأصبحت محور ارتكازه. وعلى غرار معاصريه، لم تكن لمظهر اجتهادات أو إسهامات علمية في نظرية التطور سوى الشرح والتقديم والتبسيط.
**
بالمحصّلة، ظلّت الأفكار التطورية عربيًا أسيرة سجالات دينية وأيديولوجية مركّبة، غيّبت جوهرها في فهم العلاقات والبنيات الاجتماعية والثقافية في تفاعلاتها وتجاذباتها وتطورها، ودرأت توطينها إلى اليوم في العلوم الاجتماعية والإنسانية العربية، وبلورة معرفة عربية مستقلة فيها ولصيقةٍ بسياقاتها الخاصة (Idiosyncratic)، من جهة ارتباطها لدى الكثيرين بمسألة الخلق والإيمان بالخالق، وتعارض التفسيرات غير المحكومة بغائية (Teleonomy) المضمّنة فيها بالتفسيرات الغائية (Teleology) السائدة.
ومع كلّ
المحاذير الممكنة، يظلّ من غير الممكن الفصل الكامل والصريح للمنهج التطوري عن
القيم والأحكام المعيارية، سواء في طرح الأسئلة والموضوعات أو في معالجتها، أو في
استخلاص النتائج منها. وبتعبير آخر، لا يمكن أن تنفصل البحوث الاجتماعية والإنسانية
العربية كليًا عن سياقات إجرائها، ومن شأن التوتّر الكامن فيها أن يكون خلّاقًا معرفيًا.
[1] كما يوضح ذلك فيصل درّاج، “كان في كلمة ‘التطوّر’ ما يرضي أفكارًا عربية، ترفض الجمود العثماني، كما التخلّف بعامة، وتنظر إلى حياة جديدة مليئة بالحركة والتجدّد. وإضافة إلى هذا المنظور الذي لبّى تصورًا ليبراليًا نهضويًا، كان هناك الميل النهضوي إلى الفصل بين العلم والدين، إذ للعلم مجاله وآثاره المادية العملية، وإذ للكون وللمجتمع أسبابهما التي تفسّر حركتيهما، وإذ للدين مجاله الذي يشبع حاجات روحية. وكان في الأمرين ذاك الانفتاح على الغرب الذي يعاين تقدم الغربيين، وينظر إلى تخلّف الشرق المستمر منذ قرون”: فيصل درّاج، “قراءة داروين في الفكر العربي، ١٨٦٠ ١٩٥٠”، المستقبل العربي، العدد 427 (أيلول/ سبتمبر 2017)، ص 165-168.
[2] من مثل المقارنات التي أقامها عباس محمود العقاد مع آراء الفارابي في كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة، والكتبي في كتاب فوات الوفيات، والقزويني في كتاب عجائب المخلوقات، وإخوان الصفاء وخلان الوفاء في رسالتهم العاشرة، وابن مسكويه في كتاب تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق. يُنظر: موسوعة عباس محمود العقاد الإسلامية، المجلد الخامس: القرآن والإنسان، الكتاب الثاني: الإنسان في القرآن الكريم (بيروت: المكتبة العصرية، 2006)، ص 75-81.
[3] تنطوي العديد من الأعمال الأدبية على بعض الأفكار التطورية، سواء على نحوٍ صريح أو بشكلٍ مضمّن. فعلى سبيل المثال، انجذب جبران خليل جبران للأفكار الداروينية وبآراء شبلي الشميّل المادية والتقدمية. كما انشغل جميل صدقي الزهاوي بالعلوم الطبيعية وبالتجديد والتطور. وكذلك نجيب محفوظ في ثلاثيته وفي أعمال أخرى. يُنظر في ذلك: درّاج، “قراءة داروين…”.
[4] في: العقاد، ص 106.
[5] العقاد، ص 90.
[6] المرجع نفسه، ص 98-100.
[7] المرجع نفسه، ص 100-102.
[8] المرجع نفسه، ص 89.
[9] المرجع نفسه، ص 110.
[10] يظلّ التلقّي العربي للأفكار التطورية، وخاصةً الداروينية منها، مرتبطًا بشكلٍ كبير بترجمات إسماعيل مظهر. يُنظر:
Marwa Elshakry, Reading Darwin in Arabic, 1860-1950 (Chicago: University of Chicago Press, 2016).
[11] إسماعيل مظهر، ملقى السبيل في مذهب النشوء والارتقاء (القاهرة: هنداوي، 2014)، ص 10.