في خصائص الخطاب السياسي:(رشدي بويبري)
خصائص الخطاب السياسي:
وقفنا من خلال ما سبق على خلاصة مفادها تميز الخطاب السياسي، عن بقية الخطابات الأخرى من عدة زوايا، مما يجعله يملك سلطة أقوى على المتلقي وتأثيرا أكبر من حيث امتلاكه للوسائل التي بوأته هذه المكانة. ونعرض في ما يلي لأهم السمات التي تكسب الخطاب السياسي فرادته بين الخطابات، وتتحدد في أنه:
1 ـ خطاب جمهوري:
إذ يعتبر من أكثر الخطابات انتشارا في الأوساط الجماهيرية وتأثيرا في مختلف شرائح المجتمع، نظرا لتركيزه على المشاكل والقضايا الداخلية والخارجية التي تهم كل فرد ويطمح في معالجتها وإيجاد حلول لها. وهذا الحضور الاجتماعي الوازن أكسبه نفوذا وسلطة، فضلا عن ما يتمتع به من سلطة مستمدة من الجهة يصدر عنها. ويتعدد “المتلقي لهذا الخطاب ويختلف حسب المقامات والمواقف التي تصنعه، من متلق مباشر، وغير مباشر، ومتلق مقصود من الخطاب إلى مسترق للسمع، إلى المتلقي الداخلي إذا تعلق الأمر بموضوع داخل المجتمع، ومتلق خارجي إذا تعلق الأمر بقضايا دولية، وهذا لا يحدث في غيره من الخطابات الأخرى”[1]. ويراعي الخطاب السياسي الجمهور الفعلي وليس الجمهور المثالي كما هو الشأن بالخطاب الأدبي. إذ إنه يُصاغ عادة ليتوافق مع حاجات وطبيعة الجمهور بشكل أساس، وهوما يجعله خطابا محكوما بالجمهور، وحدثا تفاعليا مباشرا، لا يوجد عادة فاصل زمني بين إنتاجه وتلقيه.
2 ـ خطاب قصدي:
فهو “يحمل نواياه بين سطوره ومضامينه وأساليبه، التي لا يمكن أن نصفها بالعفوية أبدا، لأن الخطاب السياسي ينظر للأمور بعين السلطة، ويعالج القضايا ويطرحها من وجهة نظر السلطة، وعليه فمصداقية هذا الخطاب رهينة بما تفرضه السلطة، فالصواب أو الحقيقة، في هذا الخطاب تحددهما السلطة”[2]. لذلك يعتمد من يصدره على التراكيب البسيطة والقصيرة غير المعقدة، فهو ليس خطابا جماليا بلاغيا. وتتحدد قصدية الخطاب السياسي في مستويين، أولا في محاولته التأثير في المتلقي، وثانيا في معالجته لأهم قضايا الحياة اليومية وعرضها في قالب لغوي مثير، يتحول بموجبه إلى منبر لفهم الحياة السياسية.
كما أن الخطاب السياسي ليس خطابا عفويا، “لأنه خطاب جماعي يمارسه صاحبه عن تدريب وتوجيه وتلقين، ومن ثم فهو لا يعبر عن ذاته الفطرية، ويخلو من المشاعر”[3]، ولا يفصح عن انفعالات صائغه، بل هو خطاب غائي يُعدّ إعدادا متقنا، ليؤثر في الجمهور ويقنعه.
3 ـ خطاب حجاجي إقناعي:
يتحدد الغرض الأساس من إنتاج الخطاب السياسي وتسويقه في الإقناع به عن قصد ونية، أي بسط وجهة نظر صاحبه وتحقيقها. لأجل ذلك يلجأ هذا الخطاب إلى الأسلوب المباشر والسهل البسيط، حتى يصل إلى أكبر عدد من الناس وتحقيق الإقناع والتأثير المطلوب. كما يوظف الصور الفنية والجمالية بل يلجأ إليها لإنجاز التواصل، وهي صور تواكب التطورات الحاصلة على مستوى الواقع، حيث تبتعد عن الزخرفة اللفظية والتعقيدات الأسلوبية لأنه يتعامل مع العقل والعاطفة معا.كما يقوم الخطيب السياسي عادة “بتوظيف بعض الأساليب الخطابية الناجحة والفعالة، أثناء مزاولته إقناع الجمهور بأفكاره الرئيسة، كالتكرار الذي يعتبر أحد الأدوات المهمة في عملية الإقناع، ومن شأن هذا التكرار أن يؤدي إلى إلقاء الضوء على المواضيع والأفكار الرئيسة وجعلها أكثر ثباتا في الذاكرة”.[4] ويتميز الخطاب السياسي بتعدد الأصوات والمستويات، كما تتداخل فيه إرادات عدد من الفاعلين بغرض تحقيق فاعلية التأثير والتأثر. وهذا ما يجعل منه خطابا معقد البنية وعميق الأثر في المتلقين، يتبنى استراتيجية هادفة إلى الإقناع.
4 ـ خطاب مضموني:
يركز الخطاب السياسي على “الأفكار أو المضامين، ولهذا نجد المادة اللفظية قليلة، في حين يتسع المعنى الدلالي لتلك الألفاظ، فالمرسل يعتني بالفكرة التي هي مقصده، أكثر من عنايته بالألفاظ. فالفكرة في الخطاب السياسي هي الأساس”[5]. فهو يهتم بشكل أكبر بالمضامين على حساب اللغة لكنه لا يهملها، إذ أن وظيفة الإقناع والتأثير لا تتحقق إلا بثنائية الشكل والمضمون أو الدلالة والمغزى، وهي ثنائية لابدّ من وجودها داخل الخطاب لأنها جوهره. ويتميز الخطاب السياسي بكونه مشحونا بالدعاية والأفكار والقضايا السياسية والدلالات والمعاني التي تصاغ في قوالب لغوية وصيغ أسلوبية تزيد في قوتها وتأثيرها تجعله أكثر تأثيرا وإقناعا للمتلقي وخطابا حجاجيا شكلا ومضمونا.
5 ـ خطاب ذو لغة متميزة:
يحرص الخطاب السياسي على البساطة والاختصار في التعبير عن مضامينه وقضاياه باستخدام مصطلحات وتعابير مؤثرة، “فكلما كانت المصطلحات بسيطة مختصرة، يزيد تأثيرها وانتشارها… فالشعارات مثلا تعدّ من أسهل العبارات حفظا وأعمقها أثرا في نفس المتلقي”[6]. “فعلى قدر بساطة المصطلحات واختصارها يزيد تأثيرها وانتشارها، مثل الشعارات التي تعدّ من أسهل العبارات حفظا وأعمقها أثرا في نفوس المتلقين. فمضمون الخطاب لا يتم تبليغه باقتدار إلا من خلال استخدام التعابير المؤثرة ذلك أن الخطيب يعمد في هذا السياق إلى توظيف عدد من الأساليب بغرض تبليغ رسالته. ومن ضمن هذه الأساليب اللغة الرائجة والمتعارف عليها والتعبيرات المجازية ذات الصور البلاغية المؤثرة في عملية التواصل والمساعدة على تبليغ تصورات الخطيب وأفكاره.
6 ـ خطاب يتأثر بشخصية صانعه:
يتمحور الخطاب السياسي حول الذات المنتجة له بصورة موضوعية، حيث تسعى هذه الذات إلى خلق أرضية مشتركة بينها وبين المتلقي، وهذا ما يجعله يركز على مصطلحات محددة كالشعب والأمة والوطن والمصير المشترك ويوظف ضمير المتكلم الجمع “نحن”… وتتحدد طبيعة هذا الخطاب حسب موقع من يصدره، سواء كان سلطة أم معارضة. فقد يمدح السياسة الرسمية لتدبير الشأن العام أو قد ينتقدها ويحتج عليها.وقد يدافع عن الاختيارات السياسية والبرامج المنبثقة عنها أو قد يقدم تصورات بديلة لما هو قيد الممارسة، وقد يشيع روح التفاؤل والثقة بالمستقبل أو قد يقدم صورة قاتمة عنه. وهذا ما يجعل هذا النوع من الخطابات متغيرا، بسبب تضمنه قيما غير ثابتة، فهو وليد ظروف ومتغيرات اجتماعية وسياسية قد تكون متضاربة.
ويرتبط الخطاب السياسي، بالأغراض التي ابتكر من أجلها وكذا السياقات التي أنتج ضمنها، فمنها يستمد قوته وسلطته على النفوس والعقول، وما أن تختفي هذه الظروف حتى يتلاشى ويفقد قوته وجاذبيته. ويمثل الخطاب الرسمي للدولة نوعا من تسلط السلطة السياسية على الجماهير، فالذين ينتسبون إليها يمارسون بواسطته قهرا على الناس، ولا يعترفون بغيره من الخطابات الأخرى التي تُحاربها السلطة وتنقضها وتحارب وصولها إلى العامة. “ومن ثم فالخطاب السياسي السلطوي يعد أكثر تعقيدا في مضمونه، وقد يكون خادعا ومراوغا، لسكوته عن أشياء وتجاهله لها، رغم صدقها، وينطق بأشياء، ويفسح لها مجال الانتشار، رغم هشاشتها وبعدها عن الحقيقة، وقد يسكت عن الحقيقة، لأن ذكرها ضد مصالحه وأهدافه”[7]. كما يتميز الخطاب السياسي الرسمي بكونه أحادي النظرة والممارسة، يستفرد بالرأي العام من خلال استبعاده للآخر ولخطابه، بحكم ما يتمتع به من سلطة…
7 ـ خطاب واقعي:
يتنزل الخطاب السياسي على واقع اجتماعي وسياسي محدد ويرتبط بسيرورة الحياة الواقعية للناس ويتطرق لقضاياهم، لذلك يعمد دائما إلى توظيف تعابير لغة الحياة اليومية، لما “تحمله من إيحاء وأبعاد براغماتية، للتفاعل مع ما يعيشه الفرد في المجتمع بتوظيفه للغة اجتماعية معاصرة متداولة، في محاولة منه للاقتراب أكثر من الأحداث التي تحكم هذا المجتمع داخليا وخارجيا…”[8]. وهذا ما يجعل الخطاب السياسي أكثر واقعية لالتحامه بالواقع المعيش. كما أنه خطاب عملي يتحقق من خلال “الممارسة الفعلية، في الحياة السياسية والواقع السياسي، وهو أيضا خطاب متحقق في التجربة السياسية، إنه مرتبط بالمؤسسات السياسية، وهو انعكاس لسلوكيتها العقائدية والإيديولوجية والتاريخية والاجتماعية والنفسية والحقوقية والدينية”[9].
8 ـ خطاب تفاعلي:
يتميز الخطاب السياسي بخاصية مهمة أخرى هي صفة التفاعلية والحوارية، فهو ليس مجرد نص لغوي، بل إنه منفتح على الآخر لأنه خطاب تناظري يتميز بكونه “يعرف من هو المرسل إليه وليس كالنص الشعري، فهو نص تعميمي شامل إلى كل العوالم (العالم أجمع) فالمرسل إليه (المخاطَب) حاضر في ذهن المرسل عند إنتاج الخطاب، سواء كان حضورا عيانيا، أم استحضارا ذهنيا، وهذا ما يسهم في حركية الخطاب، ويمنحه أفقا لممارسة اختيار استراتيجية خطابه، ولإبراز قدرة المرسل”[10]. ويمكن رصد مدى التفاعل مع الخطاب من خلال ردود الفعل التي يولدها لدى المتلقين سلبا أو إيجابا. وهذا الرصد ضروري لتقويم مدى نجاعة الخطاب وفعاليته إضافة إلى أنه يزود صانع الخطاب بعناصر تمكنه من تصحيحه وإعادة بنائه.
خلاصة القول إذن أن الخطاب السياسي يكاد يشترك مع غيره من الخطابات الأخرى (الدينية والثقافية والروائية…) في احتوائه على عناصر الخطاب المختلفة: المرسل والمتلقي والسياق… إلا أنه يتميز بكونه خطابا تناظريا يعرف من هو المرسل إليه. وهو كذلك نصٌّ موضوعه الفائدة أو الخسارة، ووظيفة هذا النص الحَضُّ أو التحذير، وانفعاله الخوف أو الأمل، وزمن هذا النص المستقبل. ويعد مبدأ الربح أو الخسارة، الهم المحوري للخطاب السياسي، خاصة في مواقف الحصول على الشرعية لتمثيل المواطنين أو تأكيد المصداقية لاعتماد برنامج أو خطة سياسية.