في علم التحرك الثقافي والاجتماعي(قاسم خضير عباس)
التيار المتغرب فكرياً، سواء كان غربي الاتجاه أم ماركسي بثياب ديمقراطية جديدة، ولد الأرضية الثقافية الداعية إلى تبني نظريات علماء الاجتماع والاقتصاد الغربيين، أمثال الفرنسي (ديشتوت دي تراسي) الذي أول من استخدم مفهوم الإيديولوجية في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي، وأفرد له (ماركس) فقرة نقدية خاصة في كتابه (رأس المال)، و(فيليب كت رايت) و(سيمون ليس) وغيرهما، بشأن التقدم، والتوجه نحو (ثقافة مستوردة) لإحداث، (التحولات التقنية)، التي تُنشئ طبقة تمسك التحول الصناعي، وعلاقات العمل، والإنتاج، وترسي أخلاقاً وقيماً غريبة عن مجتمعاتنا الإسلامية!!
ومثل هذه النظريات ـ كما هو معروف ـ تحصر نفسها في الماديات، وتجعل الإنسان آلة جامدة في محيط مادي جشع، إضافة إلى إلغائها للعوامل المحلية والذاتية للمجتمعات، التي وصفها (سوروكين) في كتابه (علم التحرك الاجتماعي والثقافي) بأنها: ضرورية وهامة ومن الخطورة إلغاؤها وإلغاء الخصوصية الثقافية والحضارية للشعوب الأخرى.
وأتصور أن العوامل الذاتية التي تحدث عنها (سوروكين)، مع ملاحظاتنا النقدية على بعض توجهاتها الاجتماعية الغربية، هي التي أدت إلى فشل (المناهج المستوردة) في بلادنا، وإلى فشل كل (المناهج) التي لا تمتّ لمجتمعاتها بصلة. الأحزاب الشيوعية مثلاً واجهت صعوبات كبيرة لأنها أغفلت خصوصية مجتمعاتها، لهذا لم يستطع الحزب الشيوعي الهندي، إحراز أي تقدم في عمله السياسي؛ لأنه ركّز جهوده على إثبات (حتمية التطور الرأسمالي) في الهند، مع أنّ الهند ليست رأسمالية!! ونفس الشيء حدث للأحزاب الشيوعية العربية.
وقد واجه (لينين) نفس الصعوبات عند تطبيقه للفكر الماركسي وتعامله مع القضايا الخارجية، وهذا ما جعله يدرك (الخصوصية المحلية)، التي أسماها بأنها: (خصوصية متخلفة)!! لكي يقلل من شأنها عند التنظير والتطبيق، لكنه بعد وقوعه في مأزق فكري خطير، مثلما وقع فيه (ماركس، وأنجلز)، توصل إلى أسلوب أسماه: (التكتيك والتطور اللا رأسمالي للبلدان المتخلفة)!! وذلك لتخفيف الخطأ الذي رافق الفكر الشيوعي.
وواجه (لينين) معارضة شديدة من (تروتسكي)، الذي انتقد فكرة (سياسة الكومنترن بشأن تشجيع إيجاد منظمات ثورية غير شيوعية وإقامة تحالف معها)، لإيمانه بـ(المبدأ الماركسي) بشأن (التحول الرأسمالي وحتميته في أي بلد من البلدان)!! فسارع (لينين)، وأعلن بأن جهوده تخدم (المبادئ الماركسية)، ولا تتعارض معها، فهي كما أسماها: (مرونة في العمل الثوري) للوصول إلى (نتائج ماركسية) بحتة!!
فالعوامل المحلية عند (لينين) لا تعني الاعتراف الكامل بالخصوصية الذاتية للشعوب، بل استغلالها في تطبيق (الفكر الشيوعي)، وهذا ما أدى إلى سقوط (لينين) في أخطاء جديدة تضاف إلى الأخطاء الفكرية والنظرية عند (ماركس، وأنجلز)، لأنه أراد أن يجمع بين نقيضين. وحكم النقيضان، كما يقول المناطقة والفلاسفة، بأنهما: لا يجتمعان معاً ولا يرتفعان معاً على سبيل القضية المنفصلة الحقيقية، وهي من البديهيات الأولية التي عليها يتوقف صدق كل قضية مفروضة ضرورية كانت أو نظرية إذ لا يتعلق العلم بقضية إلا بعد العلم بامتناع نقيضها.
وأتصور أنَّ هذا التناقض في الفكر الشيوعي، إضافة إلى تناقضاته النظرية والإيديولوجية الأخرى، أدت إلى انحساره وفشله وسقوطه المبكر. وأستغرب بشدة من بعض الشيوعيين العرب الذين مازالوا الى اليوم يحاولون بث الحياة في هذا الفكر الميت، عبر تلويحهم باعتناق الديمقراطية التي كانوا يعتبرونها بالأمس مقولات رأسمالية!! ولا أدري هل هذا يندرج تحت المرونة في العمل الثوري؟ أو يندرج تحت مسميات أخرى أولها الغاية تبرر الوسيلة؟
على أية حال… نرجع إلى صلب الموضوع.. ونعلن عن أهمية (العوامل المحلية والذاتية)، التي من الخطورة إلغاؤها، لأنّ إلغاءها سيؤدي إلى الاستلاب الحضاري والسقوط الفكري.
كما أنّ (التحول التقني والتكنولوجي)، الذي تحدث عنه (تيار التغرب) عندنا طويلاً، أو العامل الاقتصادي الذي تحدث عنه التيار الماركسي، ليس هو العامل الوحيد لنهضة المجتمع وتحديثه، بل تسبقه عوامل أخرى حيوية (ذاتية وموضوعية) تقوي البنى التحتية، وتزيد الروابط الاجتماعية والأخلاقية، وتعمق الفكر الأصيل المرتبط بحاضر الأمة وتراثها ومستقبلها.
بمعنى أوضح إحياء جميع العوامل المحلية والذاتية، التي تقود إلى تبني منهج حضاري له فلسفته وفكره ونظرته للحياة والإنسان والكون، بحيث يتم التخطيط وفق تصوراته لخلق (تكنولوجية مناسبة) كخطوة أولى نحو (التحول الصناعي والتقني) العالي، الذي سينشأ بإبداع محلي ذاتي بعد الاستفادة من علوم الغرب وتقدمه، وإذابتها في (المنهج المطبق الأصيل)، عندها سيحدث (التحول المجتمعي) الصحيح نحو الرقي والحضارة، متناغماً ومنسجماً مع حركة العوامل التحتية من فكر وثقافة وتراث، فتلك العوامل بلا شك هي قوة المجتمع، إذا ارتكزت إلى منهج صحيح يدفع الفرد بقوة للإبداع والتقدم والحضارة.
ولقد حاولت دول الخليج النفطية إدخال تكنولوجيا متطورة إلى بلدانها، وأحدثت طفرة شكلية في تحديث مدنها، لكنها مع ذلك ظلت عاجزة عن طرح مشاريع حضارية، تنتشل المجتمع من تخلفه وتأثّره الشديد بالغرب. لهذا فإنّ المسألة ليست في استيراد تكنولوجيا متطورة، كما يقول المتغربون فكرياً، وترك المجتمع في تخلفه وجهله، وليست في حتمية التاريخ ودكتاتورية العمال (البروليتاريا) كما يقول الماركسيون والشيوعيون الجدد، المسألة تكمن في خلق الإنسان الحضاري المتعامل مع تكنولوجيا العصر بوعي وإدراك، وإذابتها في ثنايا وأعماق (المنهج العام) المطبق، الذي يساهم في منع استغلال الانسان لأخيه الإنسان.
وهكذا فإنّ الموضوعية تقتضي ـ قبل البدء بالتحديث ـ العمل على إعادة بناء الإنسان العربي المسلم والمسيحي في دولة قانون حقيقية، والانطلاق من ذاته العربية والإسلامية، وتأريخه المشرق بحيث يكون له صلة بحاضر يستلهم (تطور العصر وتقدمه)، وصلة أخرى (ديناميكية) نشطة وغير جامدة بالتراث والأصالة، على شرط أن يكون استلهام (تقدم الحاضر وتطوره) وفق أسس صحيحة، لا تؤدي إلى الاستلاب الحضاري والفكري، بل إذابة (الوافد الأجنبي) في منهج ينبت في أعماقنا، ويحيا في نفوسنا.
وقد نقل الفلاسفة المسلمون سابقاً -كأبن خلدون والرازي – من الحضارات الأخرى، لكنهم تعاملوا مع العلوم الأجنبية بصورة جعلتها تنصهر في المنهج الإسلامي، بحيث لم تعد علوماً أجنبية، بل علوماً إسلامية تتساير وتنسجم مع المبادئ التي آمن بها المسلمون والمجتمع الإسلامي.
فهل يدرك المتغربون فكرياً والماركسيون الجدد هذه الحقائق العلمية ويتركونا ننظر لشروط النهضة دون تأثير خارجي… لست متأكداً من ذلك؟