في فقه الخلاص الفردي(نصر عارف)
من الظواهر الجديدة على المجتمعات المسلمة تسلل النظرية الفردية الى مختلف مجالات الحياة بما فيها الدين ذاته، فبعد الانتصار التاريخى للرأسمالية فى أوائل التسعينيات مع تفكك الاتحاد السوفيتى وحلف وارسو، وحينها احتفى الغرب الرأسمالى بتفوقه، وصحة نظريته النفعية الفردية، وصدر البيان الرأسمالى على يد فوكوياما الأمريكى من أصول يابانية فى كتاب نهاية التاريخ والرجل الأخير. منذ ذلك التاريخ اشتغلت الماكينة الإعلامية والأكاديمية والفنية فى مختلف العواصم الغربية على تحويل القيم الغربية الى قيم عالمية، وظهر معها مفهوم العولمة وتحول الى أيديولوجية عالمية، وهو فى جوهره تعميم للخصوصية الغربية، وتخصيص للعالمية من خلال تحويلها الى ملكية أوروبية، ولم تكن المجتمعات المسلمة بعيدة عن ذلك، خصوصا فى العالم العربى الذى اصبح يستورد الثقافة اكثر من استيراد القمح.
ومنذ ذلك الحين ترسخت قيم الفردية وتوحشت، وامتزجت بقيم تقليدية سلبية مثل التفاخر والمباهاة، والمكايدة، والتعالى على الآخر، والرغبة فى التميز… الخ، وهنا تحول الدين الى وسيلة لتحقيق ذلك النموذج الهجين من القيم الوافدة مع العولمة، والقيم السلبية المتوارثة، وصار التدين المعاصر هو مزيجا من الاثنين. ومن خلال هذا النموذج للتدين الجديد تضخمت الأنا، وأصبح التركيز على الذات الفردية هو الأساس، وساعد على ذلك نموذج التدين المجفف الوافد مع التيارات السلفية، وبعض الجوانب النظرية السلبية فى الفقه ومنها تحول الفهم المغلوط للفصل بين العبادات والمعاملات من كونه فصلا للتدريس والتعليم، إلى أن اصبح فصلا فى المستوى والاهمية، وانحصر الدين فى العبادات، اما المعاملات ففيها نظر وبحبوحة وتسامح كبير.
مع انفراد الفردية الرأسمالية بالثقافة العالمية، وضعف المناعة الحضارية فى المجتمعات المسلمة تحول التدين الى ظاهرة فردية غايتها الخلاص الفردى يوم القيامة، ومنهجه التعامل التجارى مع الخالق سبحانه وتعالى، بحيث صار المسلم مشغولا برصيد الحسنات فى بنك الآخرة، بغض النظر عن حال شقيقه او جاره او صديقه، المهم ان يحج ويعتمر، ويصوم ويصلى، وليس المهم النظر فى مصدر المال الذى يعيش منه، او مصدر نفقات الحج والعمرة الى الدرجة التى تمت فيها إحالة جرائم الى القضاء موضوعها تلقى رشاوى تلحق ضررا بليغا بمائة مليون مصرى، وهذه الرشاوى كانت رحلات حج وعمرة للمرتشى واسرته الكبيرة. هذا الانفصام الشديد فى نموذج التدين المعاصر أدى الى أن اصبح مظهر التدين ذاته يستخدم كوسيلة لتعظيم المنافع وكسب الثقة لمن لا يستحقها.
التدين الفردى والخلاص الفردى الذى رسخته الفتاوى الوافدة مع التيارات السلفية خلق مجتمعا يعتنق دينا معلبا ومجففا لا روح فيه، ولا أثر له على المحيط الاجتماعى، بحيث صار مظهر التدين فى واد، وسلوك المتدين فى واد آخر، ولم يعد المظهر يدل على المخبر، ولذلك تجد المصريين الذين يلهجون بالشكوى من الفقر وارتفاع الأسعار، وتدنى مستوى المعيشة هم اكثر شعوب العالم عددا فى الحج والعمرة، خصوصا عمرة شهر رمضان التى تكلف نفس المبالغ التى يحتاجها أداء فريضة الحج، وتجد كذلك الواحد من هؤلاء يحج مرات ومرات، وأقاربه وجيرانه والعاملون فى شركاته او مؤسساته يعانون أشد ما تكون المعاناة لتوفير ضروريات الحياة، او القيام بالواجبات الاسرية كالتعليم والتطبيب والزواج.
وقد ورد فى سيرة عبدالله بن المبارك العالم المجتهد المتوفى ٧٩٧م انه كان مسافرا الى الحج قادما من وسط آسيا وحين اقترب من مكة مر بقرية استراح تحت ظل شجرة فى أطرافها، واذا بسيدة تلقى بدجاجة ميتة على كومة من القمامة، وبعد دقائق خرجت طفلة فالتقطت الدجاجة الميتة ودخلت منزلها مسرعة، فسار ابن المبارك خلفها وتحرى امرها، وعرف انها يتيمة وترعى أطفالا ايتاما من اخوتها واخواتها، وتعيش على الميت من الطيور لانها لا تملك ثمن الطعام، فترك لها كل ماله ولم يبق فى جيبه الا ما يكفيه للعودة الى دياره، ولم يحج، لانه وهو العالم الكبير بعلوم الشريعة يدرك ان قضاء حاجة الانسان أولى.
الإسلام دين لا يعترف بالخلاص الفردي ولا بالتدين الفردي، فالمسلمون يصلون بالفاتحة فى كل ركعات الصلاة والفاتحة لا يرد فيها نص فردى، وانما كلها حديث جماعي، إهدنا الصراط المستقيم وليس إهدنى الصراط المستقيم، وقبلها الحمد لله رب العالمين وليس ربى وحدى، وفى التشهد نردد السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. وفى اشهر دعاء قرآنى فى خواتيم سورة البقرة كل الدعاء الوارد فى الآيات جماعيا، (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا….) الإسلام دين للإنسان، والخير فيه للإنسان والعطاء والتبرع للإنسان بغض النظر عن دينه وللحيوان كذلك.
والنجاة فى الآخرة جماعية وليست فردية، فهناك حساب جماعى بعد الحساب الفردى يقول سبحانه (..كل أمة تدعى إلى كتابها..)، وتوفى كل أمة عملها والانسان المسلم لابد أن يدرك أن فقه الخلاص الفردى لا علاقة له بجوهر الإسلام ولا بمنهجه، وأن رمضان هو من العبادات الجماعية التى يتجلى فيها التكافل، ولذلك لابد من اتخاذ هذا الشهر الفضيل فرصة للعودة للمجتمع من أجل الخلاص الجماعى فى الدنيا والآخرة.