في فكر الكواكبي: أحمد بوعشرين_2_
5-عن رحلاته
قام الكواكبي برحلات إلى بلدان عديدة طلبا للعلم وأخذا من تجارب الأمم الأخرى، مما جعله يكتسب معارف عديدة من خلال هذه التجارب مكنته من امتلاك رؤية متناغمة للمجتمع والدولة المنشودتين، فلقد سافر إلى إفريقيا الشرقية والهند وجنوب آسيا، ثم الحجاز والخليج العربي ومصر التي ” وجد بها كذلك مجتمعا خصبا من المناضلين والثوار والمثقفين والعلماء. وجد فيها السادة: رشيد رضا، ومحمد كرد علي، وإبراهيم سليم النجار، وطاهري الجزائري، وعبد القادر المغربي، ورفيق العظم، وعبد الحميد الزهراوي،…وكثيرون غيرهم تتلمذوا على يد جمال الدين الأفغاني، وشربوا من أفكاره وتعاليمه، والذين كان يلتقي بهم الكواكبي، او بكوكبة منهم، مساء كل يوم في مقهى “سبلندد بار”، بعد أن استقر بمصر، وسكن قرب الأزهر الشريف في شارع الإمام الحسين…”[1]
يقول العقاد حول رحلات عبد الرحمن الكواكبي:
“وصل الكواكبي في منتصف شهر نوفمبر سنة 1898م، وتوفي بها في شهر يونيو سنة 1902م، وتخلل هذه الفترة رحلتان، قال صديقه صاحب المنار عنهما: ” إنه وجه همته أخيرا إلى التوسع في معرفة حال المسلمين ليسعى في الإصلاح على بصيرة، فبعد اختباره التام لبلاد الدولة العلية -تركها وعربها وأكرادها وأرمنها- ثم اختبار لمصر ومعرفة حال السودان منها، ساح منذ سنتين في سواحل إفريقية الشرقية وسواحل آسيا الغربية، ثم أتم سياحته في العام الماضي فاختبر بلاد العرب التي كانت موضع أمله أتم الاختبار، فإنه دخلها من سواحل المحيط الهندي ومازال يوغل فيها حتى دخل في بلاد سورية… و قد انتهى في رحلته الأخيرة إلى كراجي في موانئ الهند، وسخر الله له في عودته سفينة حربية إيطالية حملته بتوصية من وكيل إيطاليا السياسي في مسقط، فطافت به في سواحل بلاد العرب وسواحل إفريقة الشرقية، فتيسر له بذلك اختبار هذه البلاد اختبارا سبق به الإفرنج وكان في نفسه رحلة أخرى يتمم بها اختباره للمسلمين، وهي الرحلة إلى بلاد الغرب ولكن حالت دونه المنية التي تحول دون كل الأماني والعزائم…”[2]
وكما حالت المنية الكواكبي رحمه الله أن يزور بلاد المغرب، فإنها حالت أيضا دون أن يخرج كتابا حول رحلته الأخيرة، التي زار فيها “إفريقيا الشرقية والجنوبية، ودخل الحبشة، وسلطنة هرر، والصومال، وتعرف بشبه الجزيرة العربية، وزار سواحل آسيا الجنوبية، والهند، وبلغ جاوه، وطاف بالسواحل الجنوبية للصين”[3]، ولقد ذكر الدكتور محمد عمارة أن الكواكبي أودع نتائج رحلته هذه التي استغرقت ستة أشهر، “أصول كتاب لم تمهله المنية حتى يخرجه إلى النور، وضاعت هذه الأصول والصفحات مع ما ضاع من مخطوطاته التي صادرها عملاء السلطان عبد الحميد الثاني”[4]
6- عن وفاته
توفي الكواكبي رحمه الله يوم الجمعة 6 ربيع الأول 1320ه الموافق ل 12 حزيران 1902 م، ولعل الرواية التي ذكرها حفيده سعد زغلول الكواكبي تفيد أن عبد الرحمن الكواكبي رحمه الله قد توفي مسموما، يقول سعد زغلول حول ظروف وفاة والده: ” في ساعة متأخرة من مساء الخميس الخامس من ربيع الأول سنة عشرين وثلاثمائة وألف للهجرة، الثاني عشر من حزيران سنة اثنتين وتسعمائة وألف للميلاد، كان جدي رحمه الله مجتمعا مع لفيف من أصدقائه العلماء وكبار الأدباء في مقهى “استنبول” بجوار “العتبة”، وبعد شربه فنجان القهوة شعر بألم فاعتذر به لمغادرتهم وانصرف مع ابنه والألم يعتصر أحشاءه، وقام صديقهما الحلبي السيد “عبد القادر الدباغ” (والد المؤرخة الحلبية “عائشة الدباغ”) وأوصلهما إلى بيتهما، وما كاد يدخل البيت، بعد انصراف الدباغ، حتى أصابته نوبة صاعقة، فطلب من ابنه “الكاظم” أن يأتيه بطبيب. فهرع هذا إلى بيت “الدباغ” الذي لم يكد يغلق باب بيته عليه حتى ناشده: ألحقني يا عماه، فوالدي لست أدري ما أصابه”. وهرع الدباغ إلى صديقه فوجده يتلوى من الألم ويقول له: “لقد سمموني يا عبد القادر”، ولفظ أنفاسه الأخيرة بين يديه فور هذه الكلمات بعيد منتصف الليل… ومع نور الصباح كان كبار رجال مصر قد تلقوا النعي، ومنهم الخديوي الذي أعلمه به-على ما قيل-الشاعر “أحمد شوقي”، فأمر طبيبه الخاص بالالتحاق ببيت الكواكبي وفحصه. فهرع إليه وعاد إلى الخديوي يؤكد وفاته، فأمر بتشييع جنازته على نفقته الخاصة بجنازة رسمية شارك فيها ممثل عنه وكبار رجالات مصر، ودفن في سفح “جبل المقطم”[5]
ولقد نعاه صديقه الشيخ رشيد رضا في جريدة المنار تحت عنوان “مصاب عظيم بوفاة عالم حكيم” قائلا: ” في يوم الجمعة 6 ربيع الأول أصيب الشرق بفقد رجل عظيم من رجال الاصلاح الإسلامي، وعالم عامل من علماء العمران، وحكيم من حكماء الاجتماع البشري، ألا وهو السائح الشهير، والرحالة الخبير، السيد الشيخ عبد الرحمن الكواكبي الحلبي مؤلف كتاب (طبائع الاستبداد) وصاحب (سجل جمعية أم القرى) الملقب فيه بالسيد الفراتي، اختطفت المنية منا بغتة هذا الصديق الكريم، والولي الحميم، بل هدمت منا الركن الركين، وقوضت أقوى الدعائم والأساطين، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، لو كان الرثاء والتأبين من موضوع المنار لرثيته بما يليق بخَطْبِه العظيم، وما كنت لأستعير المدامع لأستعبر القارئ والسامع، ولا لأستمدّ الرثاء من خيال الشعراء، ولا الحزن من فؤاد الخنساء، وإنما أستملي القلب بعض ما يجد من الكرب، فإنه ما أحزنني خطب كخَطْبِه، ولا أَمَضَّنِي كَرْب ككربه.
حزني عليه دوره مسلسل … مهما انتهى إلى النفاد انقلبا…أرأيت رجلا كريم الأصل كبير العقل تربى أحسن تربية وتعلم أحسن تعليم ودخل في الأعمال المختلفة وتصدى للمشروعات المتعددة وكتب في أدق المسائل أحسن الكتابة وساح في البلاد واختبر أحوال الأمم حتى بلغ أشده واستوى، كيف يكون حاله وماهي درجة استعداده؟ هذا هو صديقنا الذي فقدنا بالأمس فكأنما فقدنا به الشمس”[6].
[1] عمارة محمد، عبد الرحمن الكواكبي شهيد الحرية ومجدد الإسلام، دار الشروق، الطبعة الثانية 1408هـ-1988م، ص 37
[2] العقاد عباس محمود، الرحالة “كاف” عبد الرحمن الكواكبي، مطبوعات المجلس الاعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، دار النشر للجامعات المصرية، القاهرة، نوفمبر 1959، ص 101
[3] عمارة محمد، مرجع سابق، ص 39-40
[4] عمارة محمد، مرجع سابق ص 40
[5] زغلول سعد الكواكبي، مرجع سابق، ص 181-182
[6] زغلول سعد الكواكبي، مرجع سابق، ص 184-185