في فكر الكواكبي: (أحمد بوعشرين)_3_
سياقات أفكاره:
تأثر الكواكبي بالعديد من المؤثرات نذكر منها أساسا:
– معايشته للاستبداد العثماني عن قرب من خلال محنته مع سلطات حلب، ومن خلال معاصرته لمرحلة التراجعات العثمانية والانحرافات على القيم الإسلامية في العدل والشورى؛
-تأثر بكتابات عصر الأنوار خصوصا بعد شيوع كتب بعض مفكري النهضة آنذاك أمثال جون لوك وروسو وفولتير، حيث ” فر كثير من العثمانيين إلى أوربا يدرسون نظم الحكم الأوربي وما وصلت إليه أوربا من البحوث الاجتماعية، وأخذوا يكتبون ذلك في جرائدهم ومجلاتهم التي يحررونها خارج الحدود العثمانية، ومنها تتسرب إلى البلاد نفسها، وأخذت مصر بعد انفصالها من حكم العثمانيين تؤوي الأحرار، وتؤيد القول في نقد نظام الحكم، وظهرت في الجرائد والمجلات مقالات بالعربية في تشريح أحوال الجماعات وأصول الحكومات، وترجم إلى العربية “أصول النواميس والشرائع” لمنتسكيو، وبدأت موجات البحث الاجتماعي في أوربا تصل إلى الشرق من طريق الترجمة وطريق المثقفين في أوربا… وقد اقتبس فيه كثير من أقوال “الفيري”، ولا أعرف كيف وصلت إليه، وألفيري كاتب إيطالي عاش من سنة 1749م-1803م، من بيت نبيل وقد ساح في أوربا نحو سبع سنوات، ودرس كتب فولتير وروسو ومنتسكيو، وتشبع بآرائهم الحرة وتعشق الحرية وكره الاستبداد أشد الكره، ووجه أدبه للتغني بالحرية ومناهضة الاستبداد، ينطق بذلك أبطال رواياته، ويبثه في كتاباته “[1]
في هذا الوسط طلع الكواكبي، وكان ظهوره بكتابيه جرأة كبيرة. لقد استفاد مما نقل عن الغرب، ولم يكن يعرف لغة أوربية، إنما يعرف العربية والتركية والفارسية، فاستفاد مما نقل إليها، ومما كان يترجم له في هذا الباب خاصة، قد ظهر أثر هذا الاقتباس في كتابه “طبائع الاستبداد”.
-عاصر لحظات النهوض والثورات على الاستبداد العثماني فكان فكره ثوريا وعدوا لذوذا لبنية الاستبداد والفساد،
_ عن مؤلفاته:
عرف الكواكبي بمؤلفين أساسيين بصما فكره ومواقفه، وهما كتاب “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد”، وكتاب “أم القرى”، ورغم أنهما نشرا خلال مقامه بمصر فإن تأليفهما كان قبل رحلته إلى مصر ومقامه بها، فلقد أشار إلى ذلك حفيده عبد الرحمن الكواكبي في مقدمة الطبعة الأخيرة من كتاب أم القرى التي طبعت سنة 1959م، فقال: “لا بد في هذه المناسبة من الإشارة إلى حقيقة تاريخية تلقي ضوءا على موضوع الكتاب، وهي أن جدي رحمه الله ألف أم القرى وطبائع الاستبداد قبل هجرته إلى مصر، وكان عمي الدكتور أسعد الكواكبي يتولى تبييض أم القرى له في حلب، كما أخبرني أيضا عالم حلب الثقة المرحوم الشيخ راغب الطباخ أن المؤلف أطلعه عليه قبل سفره إلى مصر…”[2]، ويؤكد ذلك “ما رواه الأستاذ الغازي للأستاذ سامي الكيالي صاحب مجلة الحديث كما نشره في مجلة الكتاب سنة 1947م حيث يقول: “وقبل سفره بيوم واحد زارني في منزلي يودعني وأخبرني أنه عازم في غده على السفر إلى استانبول لتبديل نيابته، أي نيابة قضاء راشيا-وكنت عالما بكتابه (جمعية أم القرى)، وقد شعرت منه العزم على طبعه فوقع في نفسي أنه سيعرج إلى مصر لطبعه ونشره، إذ لا يمكنه أن يطبعه في غيرها، وحذرته من ذلك… وكانت مبارحته لحلب في أوائل سنة 1316ه (هكذا)… وبعد أن مضى على مبارحته حلب نحو بضعة عشر يوما لم نشعر إلا وصدى مقالاته في صحف مصر، وأخذت جريدة المؤيد تنشر تفرقة كتاب طبائع الاستبداد الذي لم يطلعنا عليه مطلقا بخلاف كتاب جمعية أم القرى.”[3].
ونفس التأكيد على أن تأليفه للكتابين كان قبل هجرته إلى مصر جاء في كتاب السيرة الذاتية لعبد الرحمن الكواكبي لمؤلفه حفيده سعد زغلول، الذي أشار إلى أن كتاب أم القرى قد كتب عبد الرحمن الكواكبي “أفكاره وخططه في حلب خلال العقد الأخير من القرن السابق (التاسع عشر)…”[4] وكذلك الأمر بالنسبة لكتاب طبائع الاستبداد الذي “كتبه الكواكبي كذلك في حلب على مسودات لم تجمع في كتاب، حملها معه إلى مصر في هجرته 15 محرم 1318ه-5 أيار-مايو 1900م، وقدمها مقالات للصحف المصرية، ثم جمعها وطبعها طبعة أولى ما لبث أن عززها بطبعة ثانية لنفاد الأولى…”[5]
ولم تقتصر مؤلفات الكواكبي على هذين الكتابين بل ذكر حفيده مؤلفات أخرى لم تعرف طريقها إلى النشر نتيجة مصادرة مسوداتها أو لأسباب مجهولة وهي[6]:
صحائف قريش: أشار إليها الكواكبي في مقدمة كتابه “أم القرى”، لم يوجد له أثر وقد يكون حسب الحفيد سعد زغلول ضمن المصادرات التي أخرجت من بيته؛
العظمة لله: وقد شاهده “المرحوم كرد علي” لدى الكواكبي في القاهرة وأتى على ذكره في الخطط؛
الأنساب: ذكر في رسالة من عم حفيده “أسعد” إلى أخيه “رشيد” توصية بالمرور على الشيخ رشيد رضا واستعادة هذا الكتاب الذي دفعه إليه والده للطبع ولا يعرف مصيره؛
أمراض المسلمين والأدوية الشافية لها: وكان الكواكبي قد نشره كبحث أولي في جريدة المؤيد لصاحبها علي يوسف في 17 مارس 1899م وافاه به خلال رحلته الأولى التي استغرقت 1316ه، أو أرسله إليه من حلب قبل قيامه برحلته، وكان عنوانه ” ما هو الداء؟ وكيف يرجى الشفاء؟”؛
“أحسن ما كان في أسباب العمران” و”ماذا أصابنا وكيف السلامة”: وقد ذكرهما رشيد رضا في المنار مج8 ج22 ص861-11/1/1905، ولا يعرف محتوياتهما ولامصيرهما إلا مما ذكره “الأنطاكي”[7] عن وجودهما وإطلاعه عليهما، ولعل المنية التي وافت الأنطاكي حالت دون تحقيق وعد بنشرهما؛
تجارة الرقيق وأحكامه في الإسلام: فقد الكتاب بكامله، إلا ما كان قد سلمه لرشيد رضا كنشرة أولية مقدمة للكتاب الجامع، ثم أدركته الوفاة قبل أن يوافيه بالبقية التي انتظرها رشيد رضا أكثر من سنة بعد وفاته…
_ عن جوامع فكره من خلال كتابي “طبائع الاستبداد” و”أم القرى”
تدور محورية أفكار عبد الرحمن الكواكبي على مؤلفين أساسيين له، الأول وهو الكتاب المعروف “طبائع الاستبداد”، وفيه شرح كل المظاهر الواصفة للاستبداد والمؤسسة له وكل الأمراض الناتجة عن الاستبداد، والثاني كتاب أم القرى وفيه شرح حال الأمة من حيث معيقات إرادتها في التحرر والحرية ووحدتها وقوتها ومناعتها، كما سنبين لاحقا.
[1] أمين أحمد، مرجع سابق، ص 253-254
[2] العقاد، مرجع سابق، ص 84
[3] العقاد، مرجع سابق، ص 84
[4] زغلول سعد، مرجع سابق، ص 115
[5] زغلول سعد، مرجع سابق، ص 115-116
[6] زغلول سعد، مرجع سابق، ص 120-121
[7] الأنطاكي أحد تلامذة الكواكبي شاعر عربي ولد بحلب (1291 – 1341ه / 1874 – 1923 م).