في فكر الكواكبي: (أحمد بوعشرين)_4_
مركزية نظرة داء الاستبداد في فكره
خصص الكواكبي رحمه الله حيزا كبيرا في أطروحته لإظهار مساوئ وخطورة الاستبداد السياسي على الإنسان والمجتمع والأمة، الذي اعتبره أصل الداء، “وحيثُ إني قد تمحّص عندي أنّ أصل الدّاء هو الاستبداد السّياسي ودواءه دفعه بالشّورى الدّستورية،… فالقائلُ مثلاً: إنّ أصل الدّاء التّهاون في الدّين، لا يلبث أنْ يقف حائراً عندما يسأل نفسه لماذا تهاون النّاس في الدّين؟ والقائل: إنّ الدّاء اختلاف الآراء، يقف مبهوتاً عند تعليل سبب الاختلاف. فإن قال: سببه الجهل، يَشْكُلُ عليه وجود الاختلاف بين العلماء بصورة أقوى وأشدّ… وهكذا؛ يجد نفسه في حلقة مُفرغة لا مبدأ لها، فيرجع إلى القول: هذا ما يريده الله بخلقه، غير مكترث بمنازعة عقله ودينه له بأنّ الله حكيمٌ عادلٌ رحيمٌ… وبذلك يعلمون أنّي ما وافقتُ على الرّأي القائل بأنّ أصل الدّاء هو الاستبداد السّياسي إلا بعد عناءٍ طويل يرجحُ قد أصبتُ الغرض”[1].
فما تعريف الاستبداد عند الكواكبي؟ ما أعراضه؟ ما تأثيراته؟ ما دواءه؟ تلك أسئلة أخرى سنحاول سبر أغوارها من خلال مدارسة كتابه “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” للكواكبي رحمه الله.
عن تعريف الاستبداد:
بعد أن يمر على تعريفه اللغوي بكونه “غرور المرء برأيه، والأنفة عن قبول النّصيحة، أو الاستقلال في الرّأي وفي الحقوق المشتركة”[2]. يعرج الكواكبي تركيزا على تعريف الاستبداد تعريفا اصطلاحيا سياسيا دقيقا ومفصلا: ” الاستبداد صفة للحكومة المطلقة العنان فعلاً أو حكماً، التي تتصرّف في شؤون الرّعية كما تشاء بلا خشية حساب ولا عقاب محقَّقَين، وتفسير ذلك هو كون الحكومة إمّا هي غير مُكلّفة بتطبيق تصرُّفها على شّريعة، أو على أمثلة تقليدية، أو على إرادة الأمّة، وهذه حالة الحكومات المُطلقة، أو هي مقيّدة بنوع من ذلك، ولكنّها تملك بنفوذها إبطال قوّة القيد بما تهوى، وهذه حالة أكثر الحكومات التي تُسمّي نفسها بالمقيّدة أو بالجمهورية.” [3]
وهذا التعريف يجعل مفهوم الاستبداد السياسي ليس محصورا فقط في الحكم المطلق بل قد يتسع حتى إلى الحكم المقيد ولو بإرادة الأمة، متى كان هذا الحكم غير مسؤول أو باستطاعته إبطال إرادة الأمة التي تقيده، فصفة الاستبداد “كما تشمل حكومة الحاكم الفرد المطلق الذي تولّى الحكم بالغلبة أو الوراثة، تشمل أيضاً الحاكم الفرد المقيَّد المنتخب متى كان غير مسؤولا، وتشمل حكومة الجمع ولو منتخباً؛ لأنَّ الاشتراك في الرّأي لا يدفع الاستبداد، وإنَّما قد يعدّله الاختلاف نوعاً، وقد يكون عند الاتّفاق أضرّ من استبداد الفرد، ويشمل أيضاً الحكومة الدّستورية المُفرَّقة فيها بالكُلِّيَّة قوَّة التشريع عن قوَّة التَّنفيذ وعن قوَّة المراقِبة؛ لأنَّ الاستبداد لا يرتفع ما لم يكن هناك ارتباط في المسؤولية، فيكون المُنَفِّذُون مسؤولين لدى المُشَرِّعين، وهؤلاء مسؤولين لدى الأمَّة، تلك الأمَّة التي تعرف أنَّها صاحبة الشّأن كلّه، وتعرف أنْ تراقب وأنْ تتقاضى الحساب.” [4]
يتبين إذن من خلال تعريفه ما يلي:
_أن الاستبداد السياسي يشمل الحكم المطلق المغيب لإرادة الأمة، والحكم المقيد الذي باستطاعته إبطال هذه الإرادة التي تقيده؛
_أن الاستبداد السياسي قد يشمل حتى الأنظمة التي تفصل السلط التشريعية والرقابية عن التنفيذية، إذا لم تكن مقرة بسمو الإرادة العامة للأمة حيث السلطة التنفيذية مسؤولة أمام السلطة التشريعية والرقابية وهذه الأخيرة مسؤولة لدى الأمة؛
_ أن أشد أنواع الاستبداد هو الحكم المطلق، ذلك لأن ” أشدّ مراتب الاستبداد التي يُتعوَّذ بها من الشّيطان هي حكومة الفرد المطلق، الوارث للعرش، القائد للجيش، الحائز على سلطة دينية. ولنا أنْ نقول كلّما قلَّ وَصْفٌ منْ هذه الأوصاف؛ خفَّ الاستبداد إلى أنْ ينتهي بالحاكم المنتخب الموقت المسؤول فعلاً. وكذلك يخفُّ الاستبداد ـ طبعاًـ كلّما قلَّ عدد نفوس الرَّعية، وقلَّ الارتباط بالأملاك الثّابتة، وقلَّ التّفاوت في الثّروة وكلّما ترقَّى الشّعب في المعارف.”[5]
[1] عبد الرحمن الكواكبي، “طبائع الاستبداد ومصارع العباد”، مكتبة النافذة، الجيزة، الطبعة الأولى 2012، ص 3-4
[2] الكواكبي، نفس المرجع السابق، ص 11
[3] الكواكبي، نفس المرجع السابق، ص 12
[4] الكواكبي، نفس المرجع السابق، ص 12
[5] الكواكبي، نفس المرجع السابق، ص 12