في فكر الكواكبي: (أحمد بوعشرين)_5_
عن أعراض الاستبداد وتأثيراته عند الكواكبي
الأعراض هي من جنس توصيف الاستبداد ومعرفة آثاره، والكواكبي وهو يعرض في كتابه طبائع الاستبداد آثاره في شتى المجالات، وكأنه يريد أن يؤكد لنا أن حضوره لا يأتي بخير لا للأمة ولا للإنسان ولا للنهضة والتنمية، وسنعرض بنوع من الإيجاز المركز مجمل الأعراض التي بسطها في كتابه طبائع الاستبداد، والتي تظهر على مجال من مجالات الحياة بتلازم حضور الاستبداد السياسي فيها والآثار التي يخلفها.
عن الاستبداد والدين
قد يتوسل المستبدون التأويل الفاسد لتعاليم الدين لبسط سيطرتهم وتثبيت شرعية قهرية لحكمهم، مما يجعل الناس يتلبس عليهم الفهم الصحيح للدين فيظن فريق منهم أن الاستبداد الديني مرادف للاستبداد السياسي، وهي المغالطة التي حاول الكواكبي رحمه الله دفعها عن الدين عموما وعن الإسلام خاصة، ففي دفع هذه الشبهة عن الدين عموما يقرر أن التوراة قد جاءت “بالنَّشاط، فخلَّصتهم من خمول الاتِّكال بعد أن بلغ فيهم أنْ يُكلِّفوا الله ونبيّه يقاتلان عنهم، وجاءتهم بالنّظام بعد فوضى الأحلام، ورفعت عقيدة التّشريك، مُستبدلةً ـمثلاًـ أسماء الآلهة المتعدِّدة بالملائكة، ولكنْ، لم يرضَ ملوك آل كوهين بالتَّوحيد فأفسدوه، ثمَّ جاء الإنجيل بسلسبيل الدّعة والحِلْم، فصادف أفئدةً محروقةً بنار القساوة والاستبداد، وكان أيضاً مؤيّداً لناموس التّوحيد، ولكنْ؛ لم يقْوَ دُعاته الأوَّلون على تفهيم تلك الأقوام المنحطَّة…، ولأنّهم كانوا قد ألفوا الاعتقاد في بعض جبابرتهم الأوّلين أنَّهم أبناء الله، فكَبُرَ عليهم أنْ يعتقدوا في موسى عليه السّلام صفة هي دون مقام أولئك الملوك. ثمَّ لمّا انتشرت النّصرانية ودخلها أقوام مختلفون، تلبَّست ثوباً غير ثوبها، كما سائر الأديان التي سلفتها، فتوسَّعت برسائل بولس ونحوها، فامتزجت بأزياء وشعائر وثنية للرُّومان والمصريين مُضافة على شعائر الإسرائيليين وأشياء من الأساطير وغيرها، وأشياء من مظاهر الملوك ونحوها. وهكذا صارت النّصرانية تُعظِّم رجال الكهنوت إلى درجة اعتقاد النّيابة عن الله والعصمة عن الخطأ وقوَّة التَّشريع”[1]
وفي دفعه هذه الشبهة عن الإسلام يقرر الكواكبي أن لا مقدس إلا الله في الإسلام، وأن الحاكم ليست له أية سلطة دينية تجعل أفعاله غير قابلة للمسائلة، ف” الديانة الإسلامية مؤسسة على أصول الحرّية برفعها كلّ سيطرة وتحكُّم، بأمرها بالعدل والمساواة والقسط والإخاء، وبحضِّها على الإحسان والتحابب. وقد جعلت أصول حكومتها: الشّورى الأريستوقراطية؛ أي شورى أهل الحلِّ والعقد في الأمة بعقولهم لا بسيوفهم. وجعل أصول إدارة الأمة: التشريع الديمقراطي”[2]، وفي موضع آخر يجلي جوهر رسالة الإسلام قائلا: ” ثمَّ جاء الإسلام مهذِّباً لليهوديّة والنّصرانيّة، مُؤسَّساً على الحكمة والعزم، هادماً للتّشريك بالكُلِّية، ومُحكِماً لقواعد الحرّيّة السّياسية المتوسّطة بين الدِّيموقراطية والأرستقراطية، فأسَّس التّوحيد، ونزعَ كلَّ سلطة دينية أو تغلّبيّة تتحكَّم في النّفوس أو في الأجسام، ووضع شريعة حكمة إجمالية صالحة لكلِّ زمان وقوم ومكان، وأوجد مدنيّة فطريّة سامية، وأظهر للوجود حكومة كحكومة الخلفاء الرّاشدين التي لم يسمح الزّمان بمثال لها بين البشر حتَّى ولم يخلفهم فيها بين المسلمين أنفسهم خلف، إلا بعض شواذ، كعمر بن عبد العزيز والمهتدي العبّاسيّ ونور الدّين الشّهيد، فإنَّ هؤلاء الخلفاء الرّاشدين فهموا معنى ومغزى القرآن النّازل بلغتهم، وعملوا به واتَّخذوه إماماً، فأنشأوا حكومة قضَتْ بالتّساوي حتَّى بينهم أنفسهم وبين فقراء الأمّة في نعيم الحياة وشظفها، وأحدثوا في المسلمين عواطف أخوة وروابط هيئة اجتماعية اشتراكية لا تكاد توجد بين أشقاء يعيشون بإعالة أبٍ واحد وفي حضانة أمٍّ واحدة، لكُلٍّ منهم وظيفة شخصية، ووظيفة عائلية، ووظيفة قومية. على أنَّ هذا الطّراز السّامي من الرّياسة هو الطِّراز النّبوي المُحمَّدي الذي لم يخلفه فيه حقّاً غير أبي بكر وعمر، ثمَّ أخذ بالتّناقص، وصارت الأمّة تطلبه وتبكيه من عهد عثمان إلى الآن، وسيدوم بكاؤها إلى يوم الدِّين إذا لم تنتبه لاستعواضه بطراز سياسيّ شوريّ، ذلك الطّراز الذي اهتدت إليه بعض أمم الغرب، تلك الأمم التي، لربّما يصحُّ أنْ نقول، قد استفادت من الإسلام أكثر ممّا استفاده المسلمون.
وهذا القرآن الكريم مشحونٌ بتعاليم إماتة الاستبداد وإحياء العدل والتّساوي حتّى في القصص منه، ومن جملتها قول بلقيس ملكة سبأ من عرب تُبَّع تخاطبُ أشراف قومها: )يا أيُّها الملأُ أفتوني في أمري ما كنت قاطعةً أمراً حتى تَشهَدون * قالوا نحن أولوا قوةٍ وأُولوا بأسٍ شديدٍ والأمر إليكِ فانظري ماذا تأمرين * قالت إنَّ الملوك إذا دخلوا قريةً أفسدوها وجعلوا أعزّة أهلها أذِلةً وكذلك يفعلون([3]
فهذه القصة تُعلِّم كيف ينبغي أن يستشير الملوك الملأ، أي أشراف الرَّعية، وأن لا يقطعوا أمراً إلا برأيهم، وتشير إلى لزوم أن تُحفظ القوّة والبأس في يد الرّعية، وأن يخصص الملوك بالتّنفيذ فقط، وأن يكرموا بنسبة الأمر إليهم توقيراً، وتقبّح شأن الملوك المستبدين.”[4]
ويتضح من خلال دفوعات الكواكبي ضد شبهة تلازم الاستبداد السياسي والدين:أن هذا التلازم غير قائم في أصول كل الشرائع السماوية، وإنما اللبس في أفهام من احتكروا تأويل نصوصها وتوظيفها لتبرير تسلطهم على العباد؛
_ أن جوهر رسالة الإسلام هو تحرر الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد،
_ وأن إرادة الأمة في الإسلام تسمو على كل إرادة إكراهية وتسلطية بشرية.
عن الاستبداد والعلم
ما استبد حاكم إلا بجهل أو بتجهيل محكوميه، تلك سنة مقررة عبر تجارب الأمم، والجهل او التجهيل هو تجلي لاستخفاف متعمد لتسهيل عملية التحكم على رقاب العباد، فالحاكم المستبد يخشى يقظة المحكوم لأنها إيذان ببداية التحرر من قبضته، تلك حقيقة بسطها بتفصيل الكواكبي في علاقة الاستبداد بالعلم، فالمستبد عدو العلم الذي ينير العقول ويحرر الوعي، يقول الكواكبي: ” ترتعد فرائص المستبدُّ من علوم الحياة مثل الحكمة النظرية، والفلسفة العقلية، وحقوق الأمم وطبائع الاجتماع، والسياسة المدنية، والتاريخ المفصّل، والخطابة الأدبية، ونحو ذلك من العلوم التي تُكبر النفوس، وتوسّع العقول، وتعرّف الإنسان ما هي حقوقه وكم هو مغبون فيها، وكيف الطلب، وكيف النّوال، وكيف الحفظ. وأخوف ما يخاف المستبدّ من أصحاب هذه العلوم، المندفعين منهم لتعليم النّاس الخطابة أو الكتابة وهم المعبَّر عنهم في القرآن بالصالحين والمصلحين في نحو قوله تعالى: )أنّ الأرض يرثها عباديَ الصالحون[5]( وفي قوله: )وما كان ربُّك ليهلك القرى بظلمٍ وأهلها مصلحون([6]، وإنْ كان علماء الاستبداد يفسِّرون مادة الصلاح والإصلاح بكثرة التعبُّد كما حوّلوا معنى مادة الفساد والإفساد: من تخريب نظام الله إلى التشويش على المستبدين.
والخلاصة: أنَّ المستبدّ يخاف من هؤلاء العاملين الراشدين المرشدين، لا من العلماء المنافقين أو الذين حفر رؤوسهم محفوظاتٌ كثيرة كأنّها مكتبات مقفلة!
كما يبغض المستبدُّ العلمَ ونتائجه؛ يبغضه أيضاً لذاته، لأن للعلم سلطاناً أقوى من كلِّ سلطان، فلا بدَّ للمستبدِّ من أن يستحقر نفسه كلما وقعت عينه على من هو أرقى منه علماً. ولذلك لا يحبُّ المستبدُّ أن يرى وجه عالمٍ عاقل يفوق عليه فكراً، فإذا اضطر لمثل الطبيب والمهندس يختار الغبي المتصاغر المتملِّق. وعلى هذه القاعدة بنى ابن خلدون قوله: (فاز المتملقون)، وهذه طبيعة كلِّ المتكبرين، بل في غالب الناس، وعليها مبنى ثنائهم على كلِّ من يكون مسكيناً خاملاً لا يُرجى لخيرٍ ولا لشرٍّ”[7]
وخلاصة هذه العلاقة بين الاستبداد والعلم المنير للتحرر، انها علاقة تصادم في كل حين، وحرب مستمرة كما سماها الكواكبي رحمه الله لكسب الناس سواء إلى دائرة الجهل أو العلم الاستعبادي أو إلى دائرة العلم التحرري: ” وينتج مما تقدَّم أنَّ بين الاستبداد والعلم حرباً دائمةً وطراداً مستمراً: يسعى العلماء في تنوير العقول، ويجتهد المستبدُّ في إطفاء نورها، والطرفان يتجاذبان العوام… العوام هم قوة المستبدُّ وقُوْتُهُ. بهم عليهم يصول ويطول؛ يأسرهم فيتهللون لشوكته؛ ويغصب أموالهم فيحمدونه على إبقائه حياتهم؛ ويهينهم فيثنون على رفعته؛ ويغري بعضهم على بعض فيفتخرون بسياسته؛ وإذا أسرف في أموالهم يقولون كريماً؛ وإذا قتل منهم لم يمثِّل يعتبرونه رحيماً؛ ويسوقهم إلى خطر الموت، فيطيعونه حذر التوبيخ؛ وإن نقم عليه منهم بعض الأباة قاتلهم كأنهم بُغاة.
والحاصل أنَّ العوام يذبحون أنفسهم بأيديهم بسبب الخوف الناشئ عن الجهل والغباوة، فإذا ارتفع الجهل وتنوَّر العقل زال الخوف، وأصبح الناس لا ينقادون طبعاً لغير منافعهم، كما قيل: العاقل لا يخدم غير نفسه، وعند ذلك لا بدَّ للمستبدِّ من الاعتزال أو الاعتدال”[8]
عن الاستبداد والمجد
ميز الكواكبي رحمه الله بين المجد والتمجد، فالمجد أمر محمود والتمجد أمر منبوذ، ذلك لأن المجد “هو إحراز المرء مقام حبٍّ واحترام في القلوب، وهو مطلب طبيعي شريف لكلِّ إنسان، لا يترفَّع عنه نبيٌّ أو زاهد، ولا ينحطُّ عنه دنيٌّ أو خامل”[9]، أما التمجد هو” القربى من المستبدِّ بالفعل كالأعوان والعمال… وبوصفٍ أجلى: هو أن يتقلّد الرّجل سيفاً من قِبَل الجبارين يبرهن به على أنَّه جلاد في دولة الاستبداد، أو يعلِّق على صدره وساماً مشعراً بما وراءه من الوجدان المستبيح للعدوان، أو يتزين بسيور مزركشة تنبئ بأنّه صار مخنَّثاً أقرب إلى النساء منه إلى الرجال، وبعبارة أوضح وأخصر، هو أن يصير الإنسان مستبداً صغيراً في كنف المستبدِّ الأعظم.”[10]
والتمجد بهذا المعنى هو من أعراض الاستبداد وآثاره المرضية، إذ لا يحيا المستبد إلا بالتفاف من يسعون إلى هذا التمجد تقربا له، ولا يجد العاشق للاستعباد وسيلة لإنعاش عشقه إلا به، فالاستبداد يستعين بالتمجد لتقوية محيطه وسنده، والمتمجد يتوسل المستبد كي ينال رضا سيده المستبد ويرتقي في مناصب ومراتب القربى إليه، وهذا الرضا يناله بقدر اصطفافه ضد من يعادون وليه ولو تطلب الأمر الإجرام في حقهم، ” فكلما كان المستبدُّ حريصاً على العسف احتاج إلى زيادة جيش المتمجّدين العاملين له المحافظين عليه، واحتاج إلى مزيد الدقّة في اتِّخاذهم من أسفل المجرمين الذين لا أثر عندهم لدينٍ أو ذمّة، واحتاج لحفظ النسبة بينهم في المراتب بالطريقة المعكوسة؛ وهي أن يكون أسفلهم طباعاً وخصالاً أعلاهم وظيفةً وقرباً، ولهذا، لا بدَّ أن يكون الوزير الأعظم للمستبدّ هو اللئيم الأعظم في الأمة، ثم من دونه لؤماً، وهكذا تكون مراتب الوزراء والأعوان في لؤمهم حسب مراتبهم في التشريفات والقربى منه”[11]
في خلاصة، فلا ينال المجد متمجد لأن اصطفافه مع الظلمة لا يمكن ان تهوي قلوب الناس إليه حبا واحتراما بل بطرا ورياء ونفاقا، وإنما سعي المتمجد الحثيث إلى إرضاء سيده المستبد يهوي به أسفل سافلين في قاع اللؤماء.