المقالات

في فكر الكواكبي: (أحمد بوعشرين)_6_

عن الاستبداد والمال

الاستبداد وسيلة سريعة لكسب فاحش وحرام للمال، فسلطته المطلقة تفتح له طريق النهب بدون حساب، ومن المال تتكون سلطة يتكأ عليها لتقوية سلطته، فالاستبداد قرين المال كما أن المال قرينه، وحيثما كان الاستبداد كان الترف عند أصحابه، ولقد أحكم الكواكبي التعبير حين اعتبر المال هو دين وشرف الاستبداد، حيث قال: ” الاستبداد لو كان رجلاً وأراد أن يحتسب وينتسب لقال: “أنا الشرُّ، وأبي الظلم، وأمّي الإساءة، وأخي الغدر، وأختي المسْكَنة، وعمي الضُّرّ، وخالي الذُّلّ، وابني الفقر، وبنتي البطالة، وعشيرتي الجهالة، ووطني الخراب، أما ديني وشرفي فالمال المال المال”[1].

عن الاستبداد و الإنسان

قرن الكواكبي حديثه عن طبائع الاستبداد في الإنسان بطبائع الاستبداد في المال، إذ اعتبر أن الإنسان تطبع على التمول أي إحراز المال، وأن التمول يكون محمودا بتوفر شروط إحرازه بوجه حلال، وأن لا يكون في إحرازه تضييق على حاجات الغير، وأن لا يتجاوز قدر الحاجة، وبمخالفة هذه الشروط يكون التمول قبيحا، وهو ما يتطبع به عهد الحكومات المستبدة المستبدة، ف” حِرْص التموّل القبيح يشتدُّ في رؤوس الناس في عهد الحكومات المستبدِّة؛ حيث يسهل فيها تحصيل الثروة بالسرقة من بيت المال، وبالتعدّي على الحقوق العامة، وبغصب ما في أيدي الضعفاء، ورأس مال ذلك هو أنْ يترك الإنسان الدِّين والوجدان والحياء جانباً وينحطَّ في أخلاقه إلى ملائمة المستبدّ الأعظم، أو أحد أعوانه وعماله، ويكفيه وسيلةً أن يتّصل بباب أحدهم ويتقرَّب من أعتابه، ويظهر له أنَّه في الأخلاق من أمثاله وعلى شاكلته، ويبرهن له ذلك بأشياء من التملُّق وشهادة الزور، وخدمة الشهوات، والتجسس، والدلالة على السّلب ونحو ذلك. ثمَّ قد يطلع هذا المنتسب على بعض الخفايا والأسرار التي يخاف رجال الاستبداد من ظهورها خوفاً حقيقياً أو وهمياً، فيكسب المنتسب رسوخ القدم ويصير هو باباً لغيره، وهكذا يحصل على الثروة الطائلة إذا ساعدته الظروف على الثّبات طويلاً. وهذا أعظم أبواب الثروة في الشرق والغرب، ويليه الاتِّجار بالدّين، ثمَّ الملاهي، ثمَّ الربا الفاحش، وهي بئس المكاسب وبئس ما تؤثِّر في إفساد أخلاق الأمم.”[2]

عن الاستبداد والأخلاق

قيمة الأخلاق في معياريتها الثابتة في الحكم على الأشياء والأشخاص والجماعات والمواقف، وفي تمييز الصالح من الطالح، والجميل من القبيح، والصواب من الخطأ، والحكمة من التهور، والحق من الباطل، والعدل من الظلم، والخير من الشر عموما، وثبات هذه المعايير من ثبات التعايش المديد معها سلوكا، فمن ألف الظلم صار ظالما، ومن ألف القبح صار قبيحا، ومن ألف العدل كان عادلا في أقواله وأفعاله، ومن هنا العلاقة بين الاستبداد والأخلاق عند الكواكبي، فالذي يألف أن يعيش خاضعا للاستبداد وأسيرا له يألف شر الخصال على حد تعبير الكواكبي رحمه الله، ذلك أن ” أسير الاستبداد العريق فيه يرث شرَّ الخصال، ويتربّى على أشرِّها، ولا بدَّ أن يصحبه بعضها مدى العمر”[3]

وآثار هذا الأسر عميقة حتى على إنسانية هذا الأسير، إذ بفقده لحسن الخصال يفقد حتى معنى وجوده ومقصده، فالأخلاق كما عرفها الكواكبي هي تلك الملكة المطردة على “قانون فطري تقتضيه أولاً وظيفة الإنسان نحو نفسه، وثانياً وظيفته نحو عائلته، وثالثاً وظيفته نحو قومه، ورابعاً وظيفته نحو الإنسانية، وهذا القانون هو ما يسمّى عند الناس بالناموس.”[4]

إن الأخلاق بهذا المفهوم عند الكواكبي رحمه الله هي من تصنع الإرادة، وحين تنعدم يصبح فاقدها دون الحيوان مادام يتحرك بإرادة غيره لا بإرادة نفسه، “وما هي الإرادة؟ هي أمُّ الأخلاق، هي ما قيل فيها تعظيماً لشأنها: لو جازت عبادة غير الله لاختار العقلاء عبادة الإرادة! هي تلك الصفة التي تفصل الحيوان عن النّبات في تعريفه بأنّه متحرك بالإرادة. فالأسير، إذن، دون الحيوان لأنّه يتحرّك بإرادة غيره لا بإرادة نفسه”[5]

عن الاستبداد و التربية

ولأن الاستبداد مفسد للأخلاق، فهو يتولى تأليف أسراه على التطبع بالخصال السيئة، فيستبيح لهم الكذب والنفاق والخيانة والتذلل، ولا يكتفي بهذه الاستباحة بل يطالها إلى محاولة توريثها لجيل أبناءهم، ولهذا خصص الكواكبي فصلا في علاقة الاستبداد بالتربية، فتجده يقارن بين التربية في الأمم التي يخلو فيها الاستبداد أو ما سماها بالحكومات المنتظمة، وبين مثيلاتها التي ترزح في ظل الاستبداد، ذلك أن”الحكومات المنتظمة هي التي تتولّى ملاحظة تسهيل تربية الأمة من حين تكون في ظهور الآباء، وذلك بأن تسنّ قوانين النكاح، ثم تعتني بوجود القابلات والملقّحين والأطباء، ثمَّ تفتح بيوت الأيتام اللقطاء، ثم تعدُّ المكاتب والمدارس للتعليم من الابتدائي الجبري إلى أعلى المراتب، ثمَّ تسهِّل الاجتماعات، وتمهِّد المسارح، وتحمي المنتديات، وتجمع المكتبات والآثار، وتقيم النُّصب المذكرات، وتضع القوانين المحافظة على الآداب والحقوق، وتسهر على حفظ العادات القومية، وإنماء الإحساسات المللية، وتقوّي الآمال، وتيسِّر الأعمال، وتؤمِّن العاجزين فعلاً عن الكسب من الموت جوعاً، وتدفع سليمي الأجسام إلى الكسب ولو في أقصى الأرض، وتحمي الفضل وتقدِّر الفضيلة. وهكذا تلاحظ كلَّ شؤون المرء؛ ولكن، من بعيد، كي لا تخلّ بحريته واستقلاله الشخصي، فلا تقرب منه إلا إذا جنى جرماً لتعاقبه، أو مات لتواريه…أما المعيشة الفوضى في الإدارات المستبدّة فهي غنية عن التربية؛ لأنها محضُّ نماء يشبه الأشجار الطبيعية في الغابات والحراش، يسطو عليها الحرق والغرق. وتحطِّمها العواصف والأيدي القواصف، ويتصرَّف في فسائلها وفروعها الفأس الأعمى، فتعيش ما شاءت رحمة الحطّابين أن تعيش، والخيار للصُّدفة تعوج أو تستقيم، تثمر أو تعقم…”[6].

والكواكبي برغم من تأكيده على أهمية الدين في حفظ الأخلاق والقيم، فهو يعتبر ان الدين من أهم فروع التربية في حين يعلي من شأن وجود المرابين ويعتبر هذا الوجود من أصول التربية، ذلك أن ” الأديان في الأمم المأسورة عبارة عن عبادات مجرّدة صارت عادات، فلا تفيد في تطهير النفوس شيئاً، ولا تنهى عن فحشاء ولا منكر لفقد الإخلاص فيها تبعاً لفقده في النفوس، التي ألفت أن تتلجأ وتتلوّى بين يدي سطوة الاستبداد في زوايا الكذب والرّياء والخداع والنفاق، ولهذا لا يُستغرب في الأسير الأليف تلك الحال؛ أي الرّياء، أن يستعمله أيضاً مع ربِّه، ومع أبيه وأمِّه ومع قومه وجنسه، حتى ومع نفسه.”[7]

ويخلص الكواكبي إلى خلاصة ان التربية المنشودة يحول دون تحقيقها مانع طبيعة الاستبداد، وبزواله هذا المانع الضاغط تتحقق، حيث يقول: ” ثمَّ إنَّ التربية التي هي ضالّة الأمم، وفقدها هي المصيبة العظيمة، التي هي المسألة الاجتماعية؛ حيث الإنسان يكون إنساناً بتربيته، وكما يكون الآباء يكون الأبناء، وكما تكون الأفراد تكون الأمّة، والتربية المطلوبة هي التربية المرتَّبة على إعداد العقل للتمييز، ثمَّ على حسن التفهيم والإقناع، ثمَّ على تقوية الهمّة والعزيمة، ثمَّ على التمرين والتعويد، ثمَّ على حسن القدوة والمثال، ثمَّ على المواظبة والإتقان، ثمَّ على التوسّط والاعتدال، وأنْ تكون تربية العقل مصحوبةً بتربية الجسم، لأنهما متصاحبان صحة واعتلالاً، فإنه يقتضي تعويد الجسم على النظافة وعلى تحمّل المشاقّ، والمهارة في الحركات، والتوقيت في النوم والغذاء والعبادة، والترتيب في العمل وفي الرياضة والراحة. وأن تكون تلكما التربيتين مصحوبتين أيضاً بتربية النفس على معرفة خالقها ومراقبته والخوف منه. فإذا كان لا مطمع في التربية العامّة على هذه الأصول بمانع طبيعة الاستبداد، فلا يكون لعقلاء المبتلين به إلا أن يسعوا أولاً وراء إزالة المانع الضاغط على هذه العقول، ثمَّ بعد ذلك يعتنوا بالتربية؛ حيث يمكنهم حينئذٍ أن ينالوها على توالي البطون، والله الموفق.”[8]


اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق