في فلسفة البلاغة العربية: حفريات في البنية المعرفية والوظيفية عند ابن البناء المراكشي
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين..أما بعد:
فإن البلاغة العربية ظلت عبر تاريخها أكثر المعارف اللسانية مداخلة للفلسفة وللمنطق، وفي هذه المداخلة إشارة ضمنية وصريحة على بعد هذا الفن في مضمار التجريد والنظر العالي.
وإذا كانت فلسفة البلاغة العربية تبدأ مع ترجمة كتاب “الخطابة” لأرسطو على يد حنين بن إسحاق، وقد كان من معاصري الجاحظ، فقد بقيت مترددة بين الظهور والخفاء عبر تاريخها الطويل، بين يدي قدامة والعسكري والسكاكي الذي أحكم الصلة بين الفلسفة والبلاغة، فكان من جاء بعده عالة عليه في الترتيب والتبويب كما يعرفه المختصون.
في هذا الكتاب الذي نشرف بتقديمه في مركز ابن غازي يقدم لنا الدكتور عبد الحق دادي (المشرف على قسم الدراسات والأبحاث بالمركز)والمختص في تحليل الخطاب وفلسفة البلاغة نموذجا من النماذج الفكرية التي جمعت بين علوم المنقول والمعقول، بين علوم اللسان وعلوم المنطق والفلسفة، جمعا إبداعيا يكاد غير متكرر في طريقته وأسلوبه، إنه ابن البناء المراكشي العددي الذي عاش في القرن الثامن الهجري، والذي كان له إسهام واضح في تقريب المنطق فألف القانون الكلي في المنطق، واللوازم العقلية في مدارك العلوم، وألف في البلاغة كتابه الشهير “الروض المريع في صناعة البديع”.
لقد توفق الدكتور عبد الحق دادي في تتبع خيط الكليات التي استهوت ابن البناء المراكشي في سعيه للقبض عليها في برنامجه التحليلي، فالعلم كما يقول يميز الكليات كما يميز الجزئيات، ويميز بين جزئيات كلي وجزئيات كلي آخر، حتى لا يختلط شيء بشيء، ولا يشتبه في العلم شيء مما يشتبه في الصناعة.
إن البحث في كليات البلاغة كان وراءه سعي لإدراك كليات النص القرآني، وابن البناء أراد أن يقرب “أصول صناعة البديع ووجوه التفريع”، بمعنى أنه كان يعتزم من وراء اشتغاله تحديد الكليات(الأصول) وتفريعاتها (الجزئيات) من طريق الاستنباط الأرسطي، في أفق أن يتعرف القارئ من خلال ذلك على كليات القرآن وجزئياته.
إن القارئ وهو يطالع هذا الكتاب يجد نفسه إزاء جهد متميز ويتسم بقدر كبير من الذكاء في التنقيب عن ما وراء البلاغة من أساسات نظرية(فلسفية ومنطقية ورياضية ولاهوتية) يكشف عنها بدقة تستوعب كافة الأنحاء التي استحضرها ابن البناء المراكشي وهو يعيد تشييد معمار البلاغة وفق رؤيته الفلسفية التي تفتش عن الكليات الجامعة.
لقد كانت ميزة الاشتغال على ابن البناء المراكشي، هي الاطلاع على صورة من صور انصهار المعارف المتنوعة والعلوم المختلفة في ميدان البلاغة، لتكون النتيجة في النهاية رسم لوحة تعود فيها العناصر إلى أصلها الطبيعي، فالتقسيمات اعتبارية ولا يجب أن تلغي حقيقة الاتصال في الأصل الأول.
في الختام نرجو من الباري سبحانه أن يبارك في جهود الباحث الدكتور عبد الحق دادي، وأن يسدد أعماله، وأن يكون لهذا العمل ما بعده، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.