في فلسفة التسويات التاريخية(إدريس مقبول)_2_
صناعة مستقبل عادل هو ما تسعى إليه التسويات التاريخية، تستبق لحظة الانهيار التي تأتي كنتيجة طبيعية لكنها مباغتة لممارسات تغلب فيها الأنانيات والفوضى والامتيازات على صوت العدالة والمصلحة العامة.
وحين نتحدث عن المستقبل فإنما نتحدث عنه بلسان الجمع وبضمير الجمع، لأن الحديث عن المستقبل بضمير المفرد السياسي والطائفي والعنصري خطأ قاتل، ويجب أن يتوارى تحت إصرار عقل الحكمة ولسانها ليفسح المجال لضمير الجمع كي يعيد ترتيب الأشياء من جديد ويبني الاتفاقات والتعاقدات على أساس أخلاقي متين.
كل الذين تصوروا امتلاك المستقبل تحت تخدير لحظات القوة المزعومة أدوا ثمنا غاليا وتركوا دروسا وعبرا في دفتر التاريخ يجب قراءتها بإمعان، ففي لحظة انتشاء وقف نابليون بونابرت يخطب أن “المستقبل لي” L’avenir est à moi !، فجاءه الجواب سريعا ومباشرة ممن يسمعون للصوت المتأله المغرور، جاءه الجواب من فيكتور هيجو الشاعر والأديب الفرنسي المبدع “سيدي، المستقبل ليس لأحد” المستقبل لله Sire, l’avenir n’est à personne. L’avenir est à Dieu !..
حرص فيكتور هيجو أن يدفع بحسه الفلسفي والجمالي عقل نابليون المتشامخ ونفسيته المتضخمة ليشاهد الفراغ الذي يقف فوقه وإلى الفراغ الذي يملأه ويحيط به، كما حرص أن ينبهه إلى الحقيقة التي نتجنب التحديق فيها..الموت..أو مكنسة الله كما يقولون..
حين ينطفئ شعاع الأمل في الصدور المختنقة الحانقة، ويتعذر رسم صورة جديدة للمستقبل، خالية من الأخطاء العمياء المتغطرسة، يتصاعد في كافة الأوساط دخان التشاؤم ويسود نعيق العدمية يملأ سمع العالم بعد أن ييأس الناس من دخول الضوء من أي ثقب كان، يفقد الجميع الثقة، فلا يعود هناك أمل في أحد ولا أمل في شيء..
لابد أن نُذَكّر بأن حساب الخسارة والربح بالمعنى الضيق فيما نتحدث عنه من صناعة المستقبل يُضيّع الفرصة التاريخية لإرساء تسويات حقيقية يكون فيها الكل رابحا حقيقة، ذلك أن الربح الحقيقي لا سبيل إليه إلا بفضيلة “التقاسم المنصف” كما يسميه راولز، لا سبيل إليه إلا بإعادة توزيع الموارد والخيرات والسلطات داخل المجتمع.
إن الذكاء الجماعي عبر التاريخ يقضي أن الانتصار في معركة المستقبل يعني بالدرجة الأولى انتصارا جماعيا على الأنانيات، وانتصارا جماعيا على اللؤم الذي يتربص بفضيلة المصالحة والإنصاف.. وهذه هي البطولة الحقيقية.