المقالات

في كل سنبلة مائة.. اجتهاد(خالد العسري)

إن من لم يطلع على بدايات الحركة الإسلامية يقع في نفسه أن تنظيماتها كباقي التنظيمات الحزبية الساعية إلى امتلاك السلطة باتباع وسائل شتى، وما يؤكد هذه الفرضية عند أصحابها أن الحركة الإسلامية تتوسل في واقعها بما تتوسل به باقي الأحزاب من إحداث نقابات وجمعيات ونواد ومنظمات… كما تشترك معهم في دخول حمى الانتخابات وما يستتبع ذلك من عقد التحالفات حتى مع تنظيمات هي أقرب إلى اللائكية منها إلى الإسلام، كما لا تختلف عن غيرها في استعراض قوتها باتباع نهج النزول إلى الشارع من خلال المسيرات الجماهيرية، وإقامة الوقفات الاحتجاجية، والدعوة إلى المهرجانات الخطابية…

إن من ينحصر نظره في مراقبة الأشكال، ويغيب عنه التفكر في بواعث انخراط الأخ الملتحي والأخت المتحجبة في حمأة التدافع السياسي، وفي طرق التجميع في التنظيم الإسلامي، وفي المشروع المجتمعي المراد تنزيله.. لا شك أنه يخرج بأحكام بعيدة عن الصواب لفساد مقدماته؛ وعدم اكتمال تصوره للتنظيم الإسلامي، وقد قال أهل المنطق قديما: “الحكم على الشيء فرع عن تصوره”.

وما زال المراقبون من خارج الصف الإسلامي يجتهدون في تصنيف تنظيمات الحركة الإسلامية ويودون أن لو تعلن عن نفسها إما حركة تربوية دعوية لا علاقة لها بالسياسة، أو هي تنظيما سياسيا علاقته بالدين كعلاقة باقي التنظيمات الحزبية به، ومتى حصل ذلك ـ في زعمهم ـ فلا حاجة عندها لمفردة “الحركة الإسلامية” المثيرة للفتن، والمصنفة للقوى السياسية على أصل ديني قد ينذر بحرب أهلية مرتقبة عاجلا أو آجلا.

إن مقدمات العمل الإسلامي – كانت ولا تزال- أصول مؤسسة على محكم الكتاب وأحاديث خير الخلق أجمعين عليه أفضل الصلاة والتسليم. يلهي محترف السياسة النظر إلى الوقائع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ومزاحمة الإسلاميين إياه في الميدان، فيغفل عن أن أول حركتهم توبة وأوبة إلى الله عز وجل، لذا تجده يصف حركتهم “بالإسلام السياسي” غافلا عن مناهجها التربوية، ومسابقة أبنائها إلى المساجد منذ أول العهد على الطريق، ويأتي العمل السياسي بعدها تاليا إلا أن يتضخم عند تنظيم إسلامي فتخبو التربية في قلوب أبنائه، وتصبح الشريعة صنو الإيديولوجيا عند غيرهم من التنظيمات.

إن العمل الإسلامي فرار إلى الله عز وجل، وتوبة وأوبة إليه، وطلبٌ للعفو منه، وخوف من عقابه، ورجاء في مغفرته، لذا تجد أن من أولويات هموم التنظيم الإسلامي أن يسلك بنوه درب الصلاح والتقى، والتقرب من العلي الرحيم بالفرض والنفل. لا يترك الأمر مواعظ وخطابات في المناسبات، بل برامج تربوية جماعية وفردية علَّ المنتظم في الصفوف يستعين بها في مجاهداته ضد وساوس الشيطان وشهوات النفس، قبل أن يخرج بنظام الصف لمواجهة السلطان إن كان معتديا على حدود الله، منتهكا لحرمات الله، مستبدا على عباد الله، ومستأثرا بثروات البلاد. وعندها يكتمل الجهاد بكونه جهادا في سبيل الله.. والمستضعفين.

إن ولادة الحركة الإسلامية واستمرارها لا يمكن حصرهما في كونهما مجرد رد فعل على واقع عربي وإسلامي مترد، بل هو قبل ذلك استجابة للنداء الرباني في مثل قوله تعالى: “وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون” آل عمران: ١٠٤، ولا ينتظر من المرء أن يكون عالما بأسرار اللغة العربية حتى يعلم أن لفظة “ولتكن” دالة على الوجوب، وأن الفلاح في الآخرة شرطه الاستجابة لمثل هذا النداء.

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما خص الله عز وجل بهما الرجال دون النساء، بل “الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيم” التوبة: ٧١ .  

في الآية الكريمة دلالة على أن رحمة الله العزيز الحكيم تغشى من جمع بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، لا من فرق بين المسجد والسياسة، بين الدعوة والدولة كما ود محرفو الكلم عن مواضعه.

لقد لاقت الدعوة الإسلامية منذ بدء تاريخها من الابتلاءات أنواعا وأصنافا، ومن الخصوم مكائد ومكرا، ومن الأعداء حروبا وقهرا، ومن البنين غفلة وسهوا، ورغم كل ذلك فلم ولن يخلو تاريخ المسلمين من دعاة إلى الله عز وجل رافعين اللواء، منتسبين إلى موكب الأنبياء، حتى يظهر الله عز وجل أمره، وينصر جنده، ويذل أعداءه. ولا يزال المجاهدون والصالحون يتناقلون قوله r: “لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون “[1] مستبشرين أن بعد الليل فجرا، وأن بعد العسر يسرا.

ويتحرك المؤمنون في كل ميدان يسمعون بشائر الفتح الموعود كل من التقوا به، حاثين إياه على تجديد التوبة، والدخول في الصف، وبذل الوسع في نصرة الدين، وديدنهم ذكر الصالحين من السابقين الواجب الاقتداء بهم، والتذكير بأن الزمان زمان اكتيال الأجر بالمكيال الأوفى، إذ أن الجهاد في ساعة الضيق لا يعدله جهاد في ساعة السعة، ولعل ما يحقره المؤمن من عمل في نصرة دين الله عز وجل يجده غدا أضعافا مضاعفة، وإنما يبلغ هذا الشأو من حسنت نيته، وصفت طويته.

فإن عجز أبناء الصف الإسلامي عن تبليغ هذه المعاني السامية، فاسمعها من ابن أم مكتوم حكمة غالية، فقد قال “أنس بن مالك: رأيت يوم القادسية عبد الله بن أم مكتوم الأعمى وعليه درع يجر أطرافها وبيده راية سوداء؛ فقيل له: أليس قد أنزل الله عذرك! قال: بلى، ولكن أُكثر سواد المسلمين بنفسي”[2].

ولا شك أن المرء يخاف أن يتخطفه الناس إن أعلن انتماءه إلى الحركة الإسلامية وهي المتهمة اليوم بكل نقيصة، وإنما يسعى المؤمنون أن يعيدوا اليقين إلى المسلمين أن مدبر الكون هو خالقه عز وجل، وأن الله هو الناصر لعباده المؤمنين، ولعل الحسرة ستكون من نصيب كل من تخلف عن دفع كيد المعتدين عن حمى الدين بعد أن يأذن الله بفتحه المبين، ولعلها حكاية “ذي الجوشن” تتكرر مرات أخرى، فقد كان الرسول r قد دعاه إلى الإسلام بعد غزوة بدر قائلا:

” يا ذا الجوشن، هل لك إلى أن تكون من أوائل هذا الأمر؟

قال: لا

قال: فما يمنعك منه؟

قال: رأيت قومك كذبوك وأخرجوك وقاتلوك؛ فأنظر، فإن ظهرت عليهم آمنت بك واتبعتك، وإن ظهروا عليك لم أتبعك.

فقال له رسول الله r: يا ذا الجوشن، لعلك إن بقيت قريبا أن ترى ظهوري عليهم.

قال [أي الراوي]: فوالله إني لبِسَرية إذ قدم علينا راكب من قبل مكة، فقلنا: ما الخبر وراءك؟

قال: ظهر محمد على أهل مكة.

قال: فكان ذو الجوشن يتوجع على تركه الإسلام حين دعاه إليه رسول الله r”[3].

وتنقضي الحرب محمودا عواقبها        للصابرين، وحظ الهاربين الندم

ولعل المرء يتساءل: أي صف إسلامي ينتمي إليه وهو شتات، والحركة الإسلامية في تعدديتها التنظيمية قد تجاوزت المعقول، فأين هي الفرقة المهتدية الواجبة نصرتها، ومن هي الفرق الضالة الواجبة محاربتها؟

وما بهذا المنطق وجب التفكير ولا التدبير، فتنظيمات الحركة الإسلامية تعلن في كل حين أنها جماعات من المسلمين لا جماعة المسلمين، وإنما الخلاف بينها حول أمور اجتهادية، لذا فإن أبناء الصف الإسلامي يجتمعون حول أصول، ويفترقون على أمور:

يجتمعون على أن الواقع الذي يعيشونه واقع فاسد، ويفترقون في توصيفه ما بين مجتمع إسلام أو مجتمع جاهلية أو مجتمع فتنة.

ويجتمعون على أن العمل التنظيمي سنة نبوية تسند بآي الكتاب وواقع الحال، ويفترقون في كيفية تصور هذا التنظيم بناء، وسلم إمارة، وكيفية تدبير.

ويجتمعون على أن الحاكم يلزمه الحكم بما أنزل الله، ويفترقون في الواجب عمله إن كان الحاكم غير عامل بالتنزيل.

ويجتمعون على أن الإصلاح والتغيير أمر ضروري، ويفترقون حول مداخله ومراحله.

ويجتمعون على أن العمل السياسي من الدين، ويفترقون أهو من أصوله أو فروعه.

ويجتمعون على أن الجهاد ذروة سنام الإسلام، ويفترقون في تحديد ماهيته وكيفيته ووسائله.

ويجتمعون على أن الشورى من نصوص الذكر الحكيم، ويفترقون في اعتبارها ملزمة أو معلمة.

ويجتمعون على القبول بالمشاركة السياسية، ويفترقون في تحديد شروطها وظروفها.

ويجتمعون على أن الإسلام دعوة ودولة، ويفترقون حول تصور شكل هذه الدولة.

ويجتمعون على أن الاجتهاد ضرورة في واقع مفارق لواقع التنزيل، ويفترقون في مسائله وأولوياته وأصوله وفروعه.

ويجتمعون على أن تاريخ الإسلام هو غير تاريخ المسلمين، ويفترقون في اعتبار تاريخ المسلمين تاريخا بنى فيه اللاحق على مكتسبات السابق، أم هو تاريخ انكسارات غيرت المسار منذ زمن مبكر.

ويجتمعون على أن الحداثة الغربية كسب إنساني يمكن الإفادة منه، ويفترقون حول حدود هذه الاستفادة ومقاديرها وكيفيتها.

ويجتمعون على أنه لا بد من التعامل مع الواقع الدولي، ويفترقون حول ضرورة وزنه بالميزان الفقهي المتوارث بأن هناك دار إسلام ودار كفر، أو الواجب تغيير الميزان وإقامة التمايز بين أمة الدعوة وأمة الاستجابة…

إن ما يجتمع عليه ويتفق هو ما يضفي على تنظيم ما انتماءه إلى مفهوم الحركة الإسلامية، وما يفترق حوله ويختلف هو سبب تعدد التنظيمات الإسلامية واستقلال بعضها عن بعض. وما زال النقاش بين مكونات الحركة الإسلامية يخبو أو يتصاعد في كل هذه الأمور؛ حتى تنشأ تحالفات بين تنظيمين إسلاميين أو أكثر تنتهي مع الزمن بالوحدة الاندماجية؛ أو يحصل التنافر بينها إلى أن يصل إلى حدود تبادل الاتهامات، واستعمال العنف المادي تجاه بعضها البعض.

فمن ادعى تمثيله لكل التنظيمات الإسلامية رغما عنها، فقد ادعى محالا. ومن رفض التعدد في الصف الإسلامي فقد قصر عن فهم مقاصد الشرع ومسارات التاريخ وسياقات الواقع. ومن جمع كل التنظيمات الإسلامية في عنوان واحد فقد عمَّى على نفسه وعلى غيره، ووسم أحكامه بالتعميم والتجريد والغلط الذي لا يفيد.


[1] صحيح البخاري. كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة. باب قول النبي لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين

[2] الإمام القرطبي: “الجامع لأحكام القرآن” 4/266

[3] ابن سعد. الطبقات الكبرى. 6/47

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق