المقالات

في نقد مرتكزات فلسفة الغرب الحداثية (عبد الهادي المهادي)

ولدت الفلسفة الأوربية الحديثة كثورة على “الفكر المدرسي” الذي ساد في العصر الأوربي
الوسيط، والذي تميز أساسا ـ وحسب زاوية النظر التي تهمنا في هذا الموضوع ـ بمركزية
“الإله” في أي تفكير يروم تحليل العلاقة بين ثلاثية الله والإنسان والطبيعة، وقد كان ديكارت ـ
كما هو معروف ـ أول من وضع هذه الثورة الفكرية في قالبها الأكمل، ثم تابع بعده العديد من
الفلاسفة على نفس النهج في المجمل؛ ونخص بالذكر سبينوزا وليبنتز وجون لوك وباركلي
وهيوم الذي شك ـ كما يقول بوشنسكي ـ في كل شيء: في العقل والحقيقة والمعرفة.
في نفس الوقت أدى تقدم العلوم إلى ميلاد التصور المادي للكون، الذي تطور بشكل سريع
مادام لم يجد أي فكر آخر يواجهه. ثم جاء كانط الذي قسَّم الحقيقة إلى ميدانين: عالم الظواهر
الذي يخضع كله للقوانين والتجريب، وعالم “الوجود في ذاته” الذي يتعذر علينا تعقيله. ثم
ظهرت الرومانتيكية التي هي في جوهرها تمجيد للحياة والنفس، ودعوة لاختيار طريق آخر
غير العقل للوصول إلى الحقيقة. ثم تأيد الاتجاهان المادي والوضعي بالمذهب داروين
التطوري. حتى جاء نيتشه “فملأ الدنيا وشغل الناس”؛ذلك أن الفلسفة الغربية الحديثة كانت ـ
حسب المسيري ـ “تنتظر فيلسوفا يأخذ الخطوة المنطقية المتضمنة في النموذج المادي،
ويحرر الإنسان من أي أوهام متبقية عن الثبات والتجاوز والكلية، ويحقق العلمنة الكاملة
للمجال الفلسفي بأن يطهره تماما من ظلال الإله”، وهذا بالضبط ما فعله صاحب “إرادة
القوة”.
ومجمل القول، فإنه ومنذ ما يسمى بـ”عصر النهضة” أصبح الغرب الحديث ـ تدريجيا ـ رهين
أيديولوجية مادية “متطرفة” تحدد رؤيته الفلسفية لقضايا الله والإنسان والطبيعة، والتي يمكن
تحديد مرتكزاتها في العناصر التالية:
إنها، أولا، فلسفة “تنكر التعالي الإلهي والقيم المطلقة”؛ ذلك أن الحضارة الغربية المعاصرة
قائمة أساسا على فكرة كون الإنسان بلغ به الوعي درجة أصبح فيه مكتف بنفسه ولا يحتاج
إلى الإيمان بقوى غيبية مفارقة تتحكم في مصيره، ولا إلى الاعتقاد أو الاستناد إلى قيم مطلقة
تنظم علاقة الإنسان بالطبيعة والآخرين، وترى بأن “الإنسان هو مقياس كل الأشياء”. فحسب

مارسيل غوشيه “لم يعد بمقدور أحدنا بتاتا، باعتباره مواطنا، أن يتصور نفسه مسيرا من قبل
العالم الآخر (…) إلى درجة أن (…) يعتبر كفرا في نظر المؤمن الأكثر حمية بيننا، إشراك الله
في الترتيب الذي يجمعنا وفي القلاقل التي تفرقنا”. حتى أن نيتشه أعلن في النهاية / البداية
عن “موت الإله”، هذا الإله ـ وحسب هيدجر ـ هو رمز لكل ما يمت بصلة إلى “العالم
المتسامي”، عالم الأفكار والمثاليات والمطلقات والكليات والثوابت والقيم الأخلاقية. إن ما
يسمح بالتحرر ـ حسب نيتشه ـ هو التخلي عن هذه المثل، وعن مصدرها؛ أي الله.
وهي ثانيا فلسفة “توحد بين الغايات والوسائل”، بل إنها تحول الوسائل إلى غايات؛ فلم يعد
الإنسان غاية بل أصبح وسيلة تتحكم فيها قوانين السوق، لذلك يسميها غارودي بـ :ديانة
الوسائل”. والنتيجة التي تترتب على هذا التصور هي أن تصبح القوة والسيطرة والنماء
المادي فيها متعالية. ومثال ذلك أن “التقدم” أصبح هدفا في حد ذاته. رغم أن ثمن عملية التقدم
اللاإنسانية ثمن مهول دفعته كل البشرية، ولا يمكن أن تستمر فيه من دون أن تحطم ما تبقى
من العالم؛ وهذا ما ينتج قيما مثل: الإيقاع السريع و تصاعد الاستهلاك وتفكك الأسرة وغير
ذلك.
ثم إنها “أسقطت المعيارية” من حساباتها؛ فالسائد عند الكثير من الناس أن النسبية المعرفية
ستحرر الإنسان من قبضة الأفكار السائدة فينطلق ويبدع ويعبر عن فرديته وذاتيته، ولكن ما
وقع أنها نزعة القدسية عن العالم، وجعلت كل الأمور متساوية. لقد جعلت من الإنسان
شخصية هشة غير قادرة على اتخاذ أي قرار، وإن كانت، في الوقت ذاته، قادرة على تسويغ
أي شيء، وكل شيء. وهذا ما أدى إلى سقوط كل المعايير وغيابها باستثناء الجرأة.
وهذا ما جعلها “تقصي كل نزعة غائية”؛ فـ “الدنيوية وزوال السحر[…] يعبران ـ حسب ألان
تورين ـ عن قطيعة ضرورة مع غائية الروح الدينية التي تنادي دائما بغاية التاريخ، وتكون
تحقيقا كاملا للمشروع الإلهي، أو فناء لبشرية فاسدة ومتنكرة لرسالتها”.
وهي فلسفة قائمة على “النزعة الفردية” على مستوى العلاقات الإنسانية، لأنها حصرت
الإنسان في دائرة ضيقة أشعرته اجتماعيا بأنه مكتف بذاته، وأن الآخر حدّ لحريته أو نفي لها،
بل إن سارتر ذهب بعيدا حين كان يعتبر “الآخرين هم الجحيم”.
وتنادي بـ”الإنسان ذي البعد الواحد”؛ أي الإنسان البسيط غير المركب، العاجز عن إدراك
الظواهر الإنسانية متعددة الأبعاد، يعيش داخل نطاق الطبيعة ولا يملك لها تجاوزا، يسري
عليه ما يسري عليها من قوانين، يسيطر عليه العقل الأداتي والعقلانية التكنولوجية، وشعاره
بسيط هو التقدم العلمي والصناعي وتعظيم الإنتاجية المادية وتحقيق معدلات متزايدة من
الوفرة والرفاهية والاستهلاك، مما أدى إلى نزوع نحو التنميط.

وقامت على “الإعلاء من شأن العقل بعيدا عن الإيمان”، وإضفاء عليه كمالات الفعل الإلهي.
فاستحال العقل بذلك من مجرد أداة إلى قوة عليا. وبلغ بهذا الإعلاء في نهاية المطاف إلى
“هيمنة العقل الأداتي واستعماره عالم الحياة”.
ومن ثمَّ عملت على “عقلنة الدين”؛ فكانط ـ كما هو معروف ـ يعرف الدين باعتباره قواعد
أخلاقية فقط بعيدا عن الأصول العقدية والتعبد، والهدف هو إبعاد كل العناصر الغيبية
والمقدس والإحالات الأخروية والأوامر الإلهية. إنه دين بلا وحي. والنتيجة أن “الدين خسر
المعركة مع العلمنة” كما يؤكد مارسيل غوشيه.
كما أنها نهضت على “نزع القداسة عن المعرفة” وتحويلها إلى معرفة علمانية خالية من
عنصر الوحي وما يستتبعه من عناصر الإيمان والروح والآخرة، الأمر الذي جعل فلاسفة
ومفكري هذه المرحلة يختزلون الحقيقة فيما هو زمني فقط، وبلغ هذا الأمر ذروته مع نيتشه
الذي لم ير في إرادة المعرفة سوى إرادة للقوة. فـ”منهج الحقيقة ـ في تصوره ـ لم يبتكر
لبواعث الحقيقة، لكن من أجل دوافع القوة والهيمنة”.
وتقوم هذه الفلسفة أيضا على تصور مغرور ينظر إلى “الطبيعة وكأنها ملكية خاصة”،
للإنسان مطلق الحق في استعمالها أو حتى سوء استعمالها، وهو تصور سائد إلى اليوم،
وترجع جذوره إلى القانون الروماني القديم.
إنها ـ في كلمة جامعة ـ “فلسفة النقد والهدم”؛ ففي كتابه الموسوم بـ”نقد الحداثة” يتهم ألان
تورين الحداثة بأنها تتحدد بما تهدمه، تُحدَّد بتدمير النظم القديمة وبانتصار العقلانية، فهي نقد
وتفكيك وإرادة تدمير العقبات المتراكمة أمام طرق العقل، خاصة تلك التي تتعلق بالدين
والأخلاق؛ فهي تبدوا كأداة للسيطرة وللاندماج والقهر، أكثر منها بناء لعالم جديد، فالفكر
الحداثي ـ في رأيه ـ ضعيف في المقترحات قوي في الانتقادات، ومن ثمَّ كان عملها الهدّام أكثر
إقناعا من عملها البناء إلى درجة أنها تفرق أكثر مما توحد
والنتيجة النهائية أنها “أنتجت خطابا مريحا”، لأنه يتوجه لمسائل مباشرة ومحسوسة؛
الرغبات والاحتياجات المادية وكيفية الوفاء بها، ويقدم إجابات سهلة وتفسيرات سريعة وإن
كانت سطحية، فهذا النموذج يتحاشى تناول أي إشكاليات إنسانية عميقة مثل قضية المعنى
والهدف.
مراجع المقال:
هذا المقال هو خلاصة مركّـزة للكثير من مقروءاتي الفكرية والفلسفية، لكن سَنَدي الأكبر كان
على المراجع التالية:

ـ “الفلسفة المعاصرة في أوربا”. بوشينسكي. ترجمة عزت قرني. عالم المعرفة العدد 165.
شتنبر 1992
ـ “نقد الحداثة”. ألان تورين. ترجمة أنور مغيث. نشر المجلس الأعلى للثقافة 1997
ـ “الدين في الديمقراطية”. مارسيل غوشيه. ترجمة شفيق محسن. المنظمة العربية للترجمة.
ط 1 نونبر 2007
ـ “روجيه غارودي والمشكلة الدينية”. محسن الميلي. دار قتيبة .ط 1 . 1993
ـ “حوارات مع عبد الوهاب المسيري”. ج 2 . دار الفكر. ط 2. 2010
ـ “نتشه: فيلسوف العلمانية الأكبر”. عبد الوهاب المسيري. منشور في موقع مجلة “وجهات
نظر” الإلكتروني.
ـ “من عقلانية الحداثة الغربية إلى عقلانية الإيمان التوحيدي”. عبد الرزاق بلعرقوز. منشور
في “إسلامية المعرفة” العدد 76 . ربيع 2014

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق