في وداع الأستاذ محمد وقيدي: الجيل الفريد: من ضيق الأيديولوجيا إلى سعة الإبستمولوجيا (2) (محمد همام)
ألقى، إذن، الأستاذ وقيدي محاضرة: ماهي الإبستمولوجيا؟ في بداية الثمانينات من القرن الماضي. وهو يعتبرها انطلاقة رسمية للدرس الإبستمولوجي بالجامعة المغربية. وقد توسع في الإجابة عن السؤال: ماهي الإبستمولوجيا؟ في كتابه بالعنوان نفسه، كما تم ذكره سلفا. كما ظهر له بحث آخر، بعنوان: مهام الإبستمولوجيا، ضمن عمل مشترك، في كتاب جماعي، بعنوان: ” إشكاليات المنهاج في الفكر العربي والعلوم الإنسانية”. شارك فيه: عبد السلام بن عبد العالي، وسالم يفوت، وسعيد بن سعيد العلوي، وكمال عبد اللطيف، ومصطفى حدية، ومحمد كداح، والمختار الهراس. (عن منشورات دار توبقال، الطبعة الأولى، 1987)، وهو عبارة عن أعمال: مناظرة المنهجية التي كانت تنظمها جمعية البحث في الآداب والعلوم الإنسانية، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس. وبالرغم من عدم ميلنا إلى التورط في بحث سؤال : من هو صاحب المبادرة الأولى في تدريس الإبستمولوجيا في الجامعة المغربية؟ وهو سؤال أنطولوجي معقد أكثر مما هو سؤال بحثي قابل للمعالجة، فإنا نشدد على السبق الذي ميز فريق الأساتذة الباحثين في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس، من مختلف الأقسام والشعب، وكذا من مختلف الحقول ومن مختلف التخصصات، مع فرادة مقدرة وملحوظة، من خلال التتبع الدقيق لمسارات الدرس الجامعي بالكلية، بناء على مؤشرات الإنتاج العلمي، والتأليف الفكري، والإشعاع الوطني والدولي، والتأطير الثقافي، والحضور في الفضاء العمومي، بما يسجل فرادة وتميز أساتذة شعبة الفلسفة. ولكن يبقى التأكيد على أن حقل الإبستمولوجيا كان حقلا مغريا لباحثين آخرين، سواء من الفوج الأول، أو من الفوج الثاني، مما خلق نوعا من التنافس العلمي المحموم بين الأساتذة الباحثين، وخلق جدلا معرفيا ومنهجيا بينهم، وصل إلى حد الخصومة الفكرية، ولكنها خصومة رسخت موقع الإبستمولوجيا، باعتبارها خلفية علمية، وبراديغما معرفيا، مؤثرا بشكل كبير، في جل المشاريع الفكرية والعلمية التي تميز بها مجموعة كبيرة من الأساتذة الباحثين المبدعين، من الجيلين، من مختلف الشعب بالكلية.
ولقد كان الأستاذ الجابري، من الجيل الأول، رائدا في البحث الإبستمولوجي، خصوصا على مستوى التأليف، أو على مستوى التطبيق. والبحث الإبستمولوجيا كان يقتضي حينها البحث في إبستمولوجيا العلوم الطبيعية، وهي الإبستمولوجيا التي سيتم نقلها إلى العلوم الاجتماعية والإنسانية، وإلى الفلسفة، وإلى تاريخ الأفكار، وإلى السوسيولوجيا، وإلى اللسانيات، وإلى النقد الأدبي، وإلى العلوم السياسية، وإلى حقول أخرى. وهو نقل قام به غاستون باشلار، ملهم الإبستمولوجيين المغاربة، من الجيلين. فقد نقل باشلار هذا النموذج عن أوغست كونت، خريج مدرسة البوليتيكنيك، وسكرتير الفيلسوف سان سيمون، وصاحب كتاب: الفيزياء الاجتماعية. وصادفت النزعة الوضعية عند كونت تكوينا أساسيا في الرياضيات وفي الفيزياء والكيمياء عند باشلار، مع تكوين فلسفي، وهو مساعده على استلهام نموذجه المعرفي (الإبستمولوجي)، ومفاهيمه التفسيرية الصارمة. فأصبح الحديث في الإبستمولوجيا يبتدئ بالحديث في باراديغم العلوم الطبيعية. ولا يخفى ما في هذه النزعة من رغبة (إبستمولوجية/ وضعية) لإضفاء الصرامة والدقة و(العلمية!!) على الخطاب الفلسفي، وعلى العلوم الاجتماعية والإنسانية بشكل عام. لذلك أصبح البحث في مباحث الرياضيات والفيزياء، على الخصوص، جزءا من البحث الإبستمولوجي الناشئ في الجامعة المغربية. فقد ألف الجابري، رحمه الله، كتاب: مدخل إلى فلسفة العلوم العقلانية المعاصرة وتطور الفكر العلمي. (صدرت الطبعة الأولى في بيروت، سنة 1976، وأعيد طبعه أكثر من سبع مرات!) ووضع له الجابري مدخلا عاما مطولا حول: الإبستمولوجيا وعلاقاتها بالدراسات المعرفية، خصوصا: العلاقة بحقول: نظرية المعرفة، والميتودولوجيا، وفلسفة العلوم، وتاريخ العلوم. ودرس وجهات النظر العلمية والفلسفية التي كانت رائجة حينها، خصوصا: الوضعية، والوضعية الجديدة، والنظرية التطورية، والمادية الجدلية. وعرض لابستمولوجيا غاستون باشلار، في فلسفة النفي، والإبستمولوجيا التكوينية عند جان بياجيه. ثم تناول في قسمين كبيرين: تطور الفكر الرياضي والعقلانية المعاصرة، وتطور الأفكار في الفيزياء، مع ترجمة عدد واف من نصوص إبستمولوجيا الرياضيات والفيزياء، عقب كل قسم. وأصبح، بذلك، البحث الفلسفي، من منظور ابستمولوجي (إبستمولوجيا كونت وباشلار وبياجيه تحديدا) مملوءا بمباحث العلوم الطبيعية؛ مثل: البحث في الرياضيات الكلاسيكية، وفي الهندسات اللاأوقليدية والمنهاج الأكسيومي، وفي نظرية المجموعات وفي نقائضها، وفي علاقة الرياضيات بالتجربة، وفي نظرية البنيات، وفي قضايا المنهاج التجريبي؛ مثل: الفرضية، والاستنتاج، والقانون، والسبب، والاستقراء، وقضايا الميكانيكا العقلية، ونظرية الطاقة، وتطور الأفكار في الفيزياء وما يرتبط بها، اتصالا وانفصالا، في الفيزياء الكلاسيكية، وقضايا: الحركة، والذرة، والغاز، والضوء، والنسبية، والثورة الكوانتية، والظاهرة الضوئية والكهرباء، والميكانيكا الموجية وغيرها من مباحث العلوم الطبيعية. وقد ضمن الجابري الكتاب نصوصا كثيرة تعبر عن مرجعيات العلوم الطبيعية في توجيه البحث الفلسفي، والعلوم الاجتماعية والإنسانية، من منظور إبستمولوجي. وبرزت في هذا السياق نصوص: نيوتن، وهايزنبرغ، وديتوش، ولوي دوبري، وأرنست ماخ، وبوانكريه، وإنشتين، وآخرين، من علماء الرياضيات والفيزياء والكيمياء. وخلق كتاب الجابري حافزية جديدة للبحث الإبستمولوجي، من خلال تطبيق بعض مفاهيم إبستمولوجيا باشلار، وجان بياجيه، في مشروعه الفكري (نقد العقل العربي، خصوصا في الجزء الأول: تكوين العقل العربي، صدر سنة 1985)، خصوصا مفاهيم: التكوين، والقطيعة…
ولم يكن الأستاذ وقيدي يحبذ هذا النوع من البحث الابستمولوجي؛ انطلاقا من إبستمولوجيا العلوم الطبيعية، الرياضيات والفيزياء على الخصوص، رغم أنه قد سار في هذا الطريق في بداية أبحاثه الإبستمولوجية؛ وذلك بسبب من عائق التخصص في الرياضيات وفي الفيزياء، وأيضا بسبب صرامة هذا الاختيار، بما لا يتناسب وخصوصيات الحقل الفلسفي، وحقل العلوم الاجتماعية والإنسانية. لذلك يذهب الأستاذ الوقيدي إلى أن بحثه في إبستمولوجيا العلوم الطبيعية يمنعه من التطبيق المرن للمفاهيم الإبستمولوجية خارج حقل العلوم الطبيعية، وهو الشيئ الذي أعانه عليه متن الفيلسوف الفرنسي لويس ألتوسير (1918-1990) بخلفيته النقدية الماركسية. خصوصا وأن الأستاذ وقيدي خاض تجربة البحث في إبستمولوجيا العلوم الطبيعية، وهو مقتنع بأن تطور العلوم الاجتماعية والإنسانية في القرن التاسع عشر ارتبط بشكل وثيق بتطور العلوم الطبيعية. وعليه، فإن العلوم الاجتماعية والإنسانية قابلة للتحليل الإبستمولوجي، بأصوله وروافده في الفيزياء وفي الرياضيات. فقد أنجز بحثا بعنوان: “إبستمولوجيا العلوم الفيزيائية” (ظهر سنة 1978)، وانتشر وسط الأساتذة الباحثين في كليات العلوم، وليس في كليات الآداب والعلوم الإنسانية!! تحدث فيه عن الثورة العلمية في النظرية الفيزيائية وعن أهميتها، اعتمادا على نصوص ألبرت إنشتين (1879-1955)، خصوصا في كتابه: تطور الأفكار في الفيزياء L’ Evolution des idées en physique Paris 1975))، ليتوجه إلى بحث العوائق الإبستمولوجية التي تعوق البحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية. وهذا التوجه في البحث ستظهر بعض معالمه في كتاب: ماهي الإبستمولوجيا؟ مما سيخلق داخل بنية التفكير الإبستمولوجي الناشئ في الجامعة المغربية، توجهات مختلفة؛ يمكن رسم دوائرها الأولى، في مجهودات أساتذة باحثين بالكلية، كالتالي: الدائرة الأولى يمثلها الجابري، والدائرة الثانية، وهي قريبة منها، يمثلها عبد السلام بن عبد العالي وسالم يفوت، والدائرة الثالثة يمثلها محمد وقيدي. دوائر تجسد الاشتباك الفكري المثمر على أرضية الإبستمولوجيا، وتجسد الدور الحقيقي للجامعة باعتبارها فضاء للحوار والاختلاف.