في وداع الشيخ يوسف القرضاوي: الإنسان والفقيه المثقف(محمد همام)_2_
ولد الشيخ القرضاوي، رحمه الله، (1926)بعد سنتين من حدث كبير، وهو إطاحة مصطفى كمال أتاتورك بأبرز علامة سياسية لرابطة المسلمين في العصر الحديث، وهي (الخلافة العثمانية)(1924). وولد الشيخ قبل سنتين من حدث كبير مواز، أشبه بالاستجابة لإثارة سقوط (الخلافة العثمانية). والحدث هو تأسيس الأستاذ حسن البنا لتنظيم (الإخوان المسلمون)(1928). وكأن وجود مولد الشيخ بين حدثين كبيرين من الأقدار والصدف، والصدف مكر التاريخ! إذ لم يخف القرضاوي يوما انخراطه في مشروع البنا لاستعادة الخلافة التي أسقطها أتاتورك، وبناء صرح الأمة. أكيد بمفاهيم، ومناهج، ورؤى، تختلف قليلا أو كثيرا عن منطق تفكير البنا، وعن السياقات الخاصة التي أنتج فيها خطاباته ودروسه وتوجيهاته وبرامجه. فالشيخ القرضاوي تجاوز بكثير الأطروحات التنظيمية للبنا، بل تجاوز تنظيم الإخوان بالكامل، لكنه ظل مشدودا إلى جاذبية وسحر شخصية البنا، وإلى أفكاره الطولى في الاستناد على التربية والأخلاق في بناء الشباب، وفي البحث عن الروابط بين المسلمين في العالم. وفي المقابل ظل المجهود الفكري والثقافي للشيخ القرضاوي جوابا على لحظة العلمنة التي أسسها أتاتورك سنة1924. وأكاد أزعم أن أكثر الشخصيات المحفزة للشيخ القرضاوي لإنجاز متن فكري واسع هما حسن البنا وكمال أتاتورك.
ولم يخف الشيخ القرضاوي يوما تعلقه بحسن البنا مذ كان طفلا في السنة الأولى ابتدائي، لما حضر دروسه ومواعظه؛ وكان يحفظها عن ظهر قلب. وظل يفتخر بالتلمذة عليه وهو في مرحلة متقدمة من عمره. وهي حالة وفاء وارتباط عاطفي بين معلم وتلميذ، تعبر عن خلق إنساني راق، قد لايتحمل بعض الناس اليوم تبعاته، أي تبعات الوفاء والاعتراف بالجميل لأساتذة الأمس، لأسباب ومصالح عديدة. لذلك كتب الشيخ القرضاوي بيان ولاء شجاع لحسن البنا وقال: ” لقد تعلق فؤادي بحسن البنا، تعلق المريد بالشيخ، والتلميذ بالأستاذ، والجندي بالقائد.” فكان الشيخ القرضاوي إذن وفيا للبنا، وتحمل من أجل ذلك الوفاء اتهامات ثقيلة، وتهديدات لاتنتهي. في وقت قلب آخرون ظهر المجن للبنا في أولى اختبارات التلمذة والصداقة والوفاء، بغض النظر عن قيمة أفكاره، وكذا مشروعه، والموقف من التنظيم الذي أسسه، وكذا الموقف من كسبه السياسي والاجتماعي في الواقع منذ تأسيسه إلى اليوم، وكذا البقاء في التنظيم أو مغادرته.
كان الشيخ القرضاوي يلقب حسن البنا بالإمام الشهيد. وكان يرى فيه علامات الموهبة المتعددة: في التربية والدعوة والقيادة… وكان،بنظره، صاحب البصيرة المنيرة، والقلب الكبير، والعقل المفتح، والوجه البشوش… صاحب الخبرة الفنية والاجتماعية… كان يلتقي به الشيخ القرضاوي عندما يزور الإمام مدينة طنطا. ولم يكتب له أن يحضر أحد دروسه المشهورة (حديث الثلاثاء)، في المركز العام للإخوان بالقاهرة. وكان الدرس الأول الذي تلقفه الشيخ القرضاوي من فم حسن البنا مباشرة حول الهجرة. الهجرة التي ستتحول إلى مفهوم إشكالي ومتوتر وذي حمولات متناقضة وعنيفة في أذهان فئة مندفعة من الشباب المتدين في مصر في لحظة الصراع السياسي على السلطة بعد انقلاب الضباط الأحرار على الملكية بقيادة جمال عبد الناصر، رحمه الله. أول حمولة لهذا المفهوم تلقاها الشيخ القرضاوي من درس حسن البنا هي أن الهجرة حد فاصل بين عهدين، عهد تكوين الفرد في مكة، وعهد إقامة المجتمع في المدينة. يقول الشيخ القرضاوي عن هذا الدرس: ” كنت منذ وعيت أستمع إلى حديث الهجرة كل عام من علماء قريتنا، وهو حديث مكرور، لايعدو الحديث عن قصة العنكبوت والحمام، وما يجري مجرى ذلك، أما هذه الليلة فقد سمعت حديثا جديدا أصيلا، لاعهد لي بمثله. ولقد وعيته وهضمته، وأكاد أحفظ كلامه، كله لشدة وضوحه وتركيزه وبلاغته. ” فلم تكن خطابات حسن البنا التي يتلقاها الطفل يوسف القرضاوي مجرد دروس تربوية باردة مغرقة في جزيئات الأخبار والروايات، بل كانت مشحونة بطاقة عالية من التكوين المتوتر والشحن الحضاري والإعداد لمهام كبرى، ربما لم يتحمل الطفل يوسف عناء فهمها يومذاك. فإذا كان درس الهجرة هو الدرس الأول في البعد الاجتماعي والسياسي لرسالة الإسلام الذي سيتعلمه الطفل يوسف، وسيكرس له قسطا كبير من حياته ونضاله ومناظراته وكتبه، فإن درس (الإسراء والمعراج) الذي سيتلقاه من الإمام البنا في طنطا أيضا، سيكون محورا آخر من نضال الشيخ القرضاوي في مساره، وهو المتعلق بالقضية الفلسطينية. فدرس البنا لم يكن حول الروايات والأخبار وتأويلات المفسرين والمحدثين والحكواتيين لحدث الإسراء والمعراج، بل اختصر حسن البنا الطريق واعتبره محطة ارتكاز وبناء الوعي من أجل فلسطين والمسجد الأقصى ومواجهة استباقية للمشروع الصهيوني القادم إلى المنطقة يومذاك. ويحكي الشيخ القرضاوي أنه ألقى بين يدي درس حسن البنا قصيدة مدحه فيها، وتفاعل معه الإمام البنا وقال للحضور:إن هذا شاعر فحل.
إن البحث في المرجعيات الفكرية الأولى للشيخ القرضاوي أمر أحسبه مهما لبناء خارطة أفكاره وجغرافيتها وكذا تاريخ أفكاره، لفهم نموجه المعرفي والفكري في سياق تشكل عناصره الأولى، ووحداته الفكرية الجنينية.