قانون” التساخر” بين السخرية والتسخير السياسيين(أبو يعرب المرزوقي)
قد يبدو هذا الفصل الرابع خارج الموضوع لأنه استطراد عديم العلاقة المباشرة بموضوع المحاولة. فالتساخر كما بينت في الفصول الثلاثة السابقة هو لب السياسة وسر العيش السلمي الطوعي بين البشر.
والفلسفة السياسية ليست مجال اختصاصي الذي مارسته باعتباري أستاذا جامعيا. لذلك فلا بد من تعليل كلامي فيها ما الذي جاء به إليه.
الاستطراد يجيب عن هذا السؤال لعرض ما عانيت منه في ممارسة تخصصي الذي لم يكن قابلا للفهم من دون وصله بفلسفة السياسة التي هي جوهر الفلسفة عامة سواء تعلقت بالنظر والعقد أو بالعمل والشرع.
لذلك فهذا الاستطراد يعرض محاولاتي للتحرر من الأحكام المسبقة التي سيطرت على فكرنا الفلسفي قديمه وحديثه القائلين بالمطابقة في النظر والتمام في العمل والمقدمين للميتافيزيقا على الميتاتاريخ بعكس ما أعتقده حاجتهما لعكس العلاقة بين الطبيعة والتاريخ بتقديم الثاني على الأولى إذا تحررنا من إطلاق علمنا بالحقيقة وعملنا بالحق.
لذلك فهذا الفصل الاستطرادي الأول والذي يليه يمثلان وسيطيين بين وضع المشكل في ما تقدم عليهم وعلاجه في ما سيليهما من الفصول وهي عديدة قد تصل إلى عشرين فصلا.
فأمر الأحكام المسبقة التي تهمين على فكر النخب العربية الحديثة وخاصة بعد أن وصل حاضره بماضيه سواء عند كاريكاتور التحديث في الفكر الفلسفي أو عند كاريكتاور التأصيل في الفكر الديني ازداد حدة عندما خلصت في قراءتي للقرآن بأن الإسلام ليس دينا من الأديان بل هو الديني في كل دين وإلا لما عرف نفسه بكونه الدين الفاتح والدين الخاتم وهو كذلك الفلسفي في كل فلسفة وإلا لما كان كل استدلاله بعكس الأديان السابقة لا يعتمد على الخوارق بل على النظام.
وما كان ذلك ليكون كذلك لو لم يكن في قطيعة مع الأديان والفلسفات السابقة مستبدلا الوساطة الكنسية والوصاية السياسة في العمل والوساطة الميتافيزيقية والوصاية المعرفية في النظر لو لم يلغ أدوات سلطان الأديان السابقة التي تستند إلى وهم علم الغيب وأدوات سلطان الفلسفات السابقة التي تستند إلى خرافة العلم المحيط.
ويمكن جمع الإلغاء في الاستعاضة عن المميتافيزيقا والميثولوجيا بما يمكن أن اسميه ما بعد تاريخ لحاجة المتناهي إلى اللامتناهي والآفل إلى الباقي: وذلك هو القصد بالوصل بين التاريخي والسرمدي.
لا بد من وجود ما يؤسس للسياسي من حيث هو سياسي هو جوهر الأخلاقي الكوني المحدد لوحدة الإنسانية في الوجود لئلا يطغى بمعيار الأخوة والمساواة ترجمة لشروط العيش المشترك السلمي لئلا يؤدي التنافس على شروط الاستعمار في الأرض نسيان التعاون بقيم الاستلاف فيها.
وذلك هو معنى الآية الأولى من النساء أساس الأخوة البشرية والآية الثالثة عشرة من الحجرات أساس المساواة بين البشر ونتعليل التعدد للتعارف معرفة ومعروفا فلا يتفاضلون عند رب الجميع الذي لا رب سواه بغير التقوى.
فتكون سياسة عالم الشهادة التاريخية مشدودة إلى نموذج من عالم الغيب ما بعد التاريخية. ومنها يستمد الخلقي في السياسي ببعديه أي من حيث هو استراتيجية التربية التي تكون الإنسان وباستراتيجة الحكم التي تحافظ على حريته وكرامته.
ويكون المشترك بين الديني والفلسفي الفعل النظري والعملي الدي يحول دون فساد معاني الإنسانية بمعناها الخلدوني لئلا ينكص الإنسان إلى اخلاق العبيد لأن الغاية من التربية والحكم الإبقاء على الإنسان رئيسا بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له كما قال أي تحريره من الاخلاد إلى الأرض.
قراءة القرآن قراءة فلسفية مستحيلة من دون بيان هذه العلاقة بينه وبين استراتيجية سياسة ذات مستويين أولهما التربية الكونية والثاني الحكم الكوني لمنع الخسر الذي يجعل الإنسان مخلدا إلى الأرض.
ومن هنا فالإسلام بالجوهر ما بعد تاريخ يؤسس لسياسة الإنسانية سياسة كونية لا تمييز فيها بين الخاص بجماعة دون أخرى بل قوانينه لا تميز بين الداخل والخارج ولا تعترف بالحدود بين البشر بمقتضي مبدأين:
أولهما هو مبدأ الأخوة البشرية صيغ صراحة في الآية الأولى من النساء
والثاني هو مبدأ المساواة بين البشر صيغ صراحة في الآية الثالثة عشر من الحجرات.
فكان الجمع بين هذين المبدأين علته وصولي إلى حقيقة تلامس اليقين وتتمثل في اعتبار القرآن رسالة موضوعها المركزي هو العلاقة الجوهرية بين وشرطها الاعتراف بالتعدد الديني شرطا في التسابق في الخيرات كما حددت ذلك الآية 38 من المائدة حتى يكون العقد الديني حرية مطلقة يصل إليها الإنسان بعد تبين الرشد من الغي بنفسه فيكفر بالطاغوت ويؤمن بالله كما حددت ذلك الآية السادسة والخمسون بعد المائتين ممن البقرة. ومن ثم فهو:
فلسفة دين من حيث هي حكمة نظرية وعملية تحدد غايات الوجود الإنساني في عالم الشهادة بنماذج من عالم الغيب المحجوب.
وفلسفة تاريخ من حيث هي تعين الوقائع التي تؤكد هذه الحكمة بما تعالجه من عقبات تعترض الإنسان في مسعاه لتحقيق تلك الغايات.
فيكون بذلك ما بعد تاريخ يصل التاريخي بالسرمدي بديلا من ما بعد الطبيعة التي تنفي التاريخي برده إلى الطبيعة التي تسرمد في ميثولوجية كسموجونية رمزها مقالة اللام فانتقلنا من المتيافيزيقا فهمها لفلسفة افلاطون وارسطو قديما إلى المادية الجدلية الماركسية فهما للهيجلية يردها إلى كسموجونية ليس بتوسط الفلك بل بالطبيعة كلها.
وتلك عودة إلى تاليه الإنسان حديثا وعودة الميثولوجيا العكسية: انقلنا من قيس الرب على الإنسان في القديمة إلى قيس الإنسان على الرب تأليها قاتلا لهما معا: وهو ما يسميه اصحابه ما بعد الحداثة التي صارت حدوثة انصاف المثقفين.
لكن الحل القرآني الذي يرفض الكسموجونيا الطبيعية ويستعيض عنها بما بعد التاريخ يمثل معضلة المعضلات إذ كيف لما هو من عالم الغيب أن يمدنا بنماذج تحدد الغايات التاريخي للإنسان في عالم الشهادة إذا كان عالم الغيب محجوبا وهو مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على بال بشر؟
هذه المعضلة هي التي جعلت حل هذه ىالمعضلة تصبح شغلي الشاغل. وكان يمكن ألا ابالي بها لو كان الامر مقصورا على الدفاع عن الرؤية الواردة في القرآن عند من يؤمن بها فحسب.
فهي مما لا غناء عنه حتى بالنسبة إلى الملحدين والكافرين بكل دين. وفي ذلك يكمن سر المعضلة: كيف للرؤية القرآنية وهي دينية أن تكون ضرورية حتى للملحدين؟
أي ما الدي يجعل القول بالمطابقة والاحاطة في النظر والقول بالمطابقة والتمام في العمل قولين ليس لهما أساس لأن ما نجهله لا متناهي وما نعلمه متناه ولأن ما نعمله يحتاج دائما إلى المراجعة سواء كنا مؤمنين أو ملحدين.
وما كان امر الملحدين يشغلني لو لم أكن أعيش في عصر عربي فكر اقزامه الذين يدعون العلم المحيط بالواقع والعمل التام فيه يعتبر الفلسفة في قطيعة مطلقة مع الدين وخاصة منذ أن سيطرت الماركسية واليعقوبية على النخب العربية التي تدعي الحداثة والتنوير في الساحتين السياسية والأكاديمية الجاهلين بدين الفلاسفة وبفلسفة المتدينين.
فلا يظنن احد أن هذا الموقف من علاقة الفلسفة بالدين ظاهرة جديدة إذ إن فلاسفتنا القدامى كانوا ينقسمون إلى فريقين أحدهما كان صريحا بأن الدين الذي لا يستمد من كسموجونيا فلسفة أرسطو أو افلاطون خرافات، والثاني لم يكن بهذه الصراحة لكنه بالتأويل يحاول أن يلغي من الدين كل ما لا يقبل الرد إلى علم الراسخين في العلم الذي هو مزيج من فلسفة أفلاطون وارسطو برؤية أفلوطينية. والأول يمثله الفارابي بداية والثاني يمثله ابن رشد غاية.
وأكثر من ذلك فكبار من كانوا يعتبرون مجرد متكلمين أو فقهاء كانوا إلى حد كبير اعلم بالفلسفة ممن كانوا يتصورونها تحليل نصوص كما يفعل الأميون من مدرسيها في كل العصور.
فالفلسفة روح لا يخلو منها فكر دينيا أو فلسفيا في الانتسابات التصنيفية بمعنى الاختصاص في النظام الأكاديمي. ولهذه العلة فإن من يرى من بين الفلسفي والديني من صلات وطيدة هم في الغالب من كبار العلماء الذين كتبوا فيهما ما يعبر عن تحولاتهما التي حددت تاريخهما.
ولا فرق بين الموقفين لأن ما يرد إليه ابن رشد الديني بالتأويل إلى الفلسفي يعني الفلسفي بهذا المعنى أي القائل بالعلم المطابق والمحيط وبالعمل المطابقة والتام.
بحيث إني وجدت نفسي بين حدين أولهما يعتبر ما ليس أفلاطونيا وأرسطيا من الدين خرافة في ثقافتنا المزعومة فلسفية في القرون الوسطى والثاني يعتبر ما ليس هيجليا وماركسيا من الدين أيديولوجيا في ثقافتنا المزعومة فلسفية في عصرنا الراهن.
ولهذه العلة فقصي لعلاقتي بهذه الرؤى الأربعة ومحاولة ردها إلى تفسير واحد يثبت خطأ أصحابها بسبب رؤيته لنظرية المعرفة ولنظرية القيمة رؤيته القائلة بالتطابق ابستمولوجيا في نظرية المعرفة وبالتمام أكسيولوجيا في نظرية العمل.
ومن ثم فما حال دون إدراك ما أشرت إليه بوصفه جوهر المشترك بين الديني من حيث هو ديني والفلسفي من حيث هو فلسفي ليس هو شيئا آخر غير هذين العائقين الابستمولوجي الذي يلغي تاريخية العلم والأكسيولوجي الذي يلغي تاريخية العمل.
ومن هنا اكتشافي أهمية المدرسة النقدية العربية والتناظر العجيب بين رؤيتها الأبستمولوجية والأسكيولوجية ورؤية المدرسة النقدية الألمانية فيهما.
والمشترك هو الحكمة التي لا تدعي العلم المطلق ولا العمل التام في سياسة الإنسان لبعدي وجوده من حيث هو مستعمر في الأرض أي من حيث علاقته بالطبيعة مصدر رزقه المادي والعالم بقيم الاستخلاف أي من حيث علاقته بالتاريخ مصدر رزقه الروحي طوعا في يكون في سلام او كرها فيكون في حرب أهلية دائمة.
ولما كنت منذ بدأت تعليل مواقفي في محاولاتي بخلاف العادة في ما أكتبه تفسيرا للقرآن وعناية بالشأن العام سأدخل بعض الكلام على علاقة هذا البحث بالسيرة الذاتية بدءا بتعليل انطلاقي في هذه المحاولة من الأحداث السياسية الراهنة.
والغاية من تعليل المواقف يستهدف وصل البحث في القرآن الذي عرفته بكونه استراتيجية توحيد الإنسانية التي تعينت في القرآن نظرية وفي السنة تطبيقا وممارسة فسميت محاولتي لقراءة القرآن قراءة فلسفية.
وكما أن الهدف من هذا الوصل يتجاوز علاقة القرآن بالتاريخ السياسي بل هو يحيل مباشرة إلى موقف إعادة الفلسفة والدين سيرتهما الأولى.
فما يسيطر من دعوى تعريفيهما بما يتقابلان فيه سطحيا أعرفهما بما يشتركان فيه باطنيا.
فالإشارة إلى السيرة الذاتية تتصل خاصة بهذا الوجه الذي ليس امرا طريفا إلا لأن الحمقى تصوروا أنفسهم أذكى من أفلاطون وأرسطو قديما ومن لايبنتس وكنط حديثا. فهؤلاء الأربعة وخاصة من يتوسط بينهما أعني ديكارت فهو مؤسس الفلسفة الحديثة الذي يجعل ممتنعا فهم عملهما الفلسفي من دون المنزلة التي أسسها لبيان هذا المشترك بين الديني في الأديان والفلسفي في الفلسفات موضوعا أولا ومطلوبا ثانيا ومنهجا ثالثا ودافعا رابعا ووصلا بين العالمين عالم الشهادة وعالم الغيب أصلا لها جميعا اخيرا.
فديكارت هو الوحيد الذي قد يشكك القارئ المتأثر بالتأويلات اليعقوبية لفلسفته هو الذي احتاج إلى التذكير بأني قد كتبت فيه مقالة بعنوان الميتاايثقا بالفرنسية بماسنة احياء الجامعة التونسي الأولى ذكرى ميلاده أي ما بعد الالاخلاق بديلا من الميتافيزيقا لوصف فلسفته التي اعتبرها ملحدو اليعاقبة وكانها عديمة العلاقة بالديني في الأديان في حينا أن مدارها هو المشترك بين الديني والفلسفي بالمعنى الذي حددته أي الحكمة النظرية والعملية ليس بدين فلسفي متناف مع الأديان المنزلة.
فما يسمى تأملات ميتافيزيقية في فكر ديكارت هو منظومة من الأدلة على وجود الله بوصفه الضامن الوحيد لمعيار وجود الحقيقة وقابليتها للمعرفة.
وديكارت فكره الذي تتضمنه نصوصه وليس صورة الملحدين عنه اقرب إلى الأشعرية منه إلى كل فلاسفة القرون الوسطى وكل متكلميها. فحتى مبادئ العقل هي عنده خيارات إلهية حرة غيرها ممكن عقلا، وحتى عمليا فإن ديكارت قد هاجز بدافع سياسي لأن الهجرة إلى هولندة هي هروب من السلطة السياسية والدينية المستبدة دون اعلان القطيعة لأنه فضل القول إني ساعتمد الاخلاق القائمة في انتظار الوصل إلى اثبات الأخلاق التي أومن بها حقا.
لكن هجرته تدل على أنه كان يبحث عن بلد فيه حرية الفكر وبدايات الديموقراطية لأن هولندة كانت من الأقطار الأوروبية الأولى التي وقعت فيها ثورة سياسية ديموقراطية مختلفة عما حصل لاحقا في الثورة اليعقوبية الدكتاتورية أكثر من النظام الملكي.
وبهذا المعنى فإن اللقاء بين الفلسفي والديني في اللقاء بين المدخلين إلى الحكمة من النظر نحو العمل فلسفيا ومن العمل نحو النظر دينيا هو الذي اردت قصه في مساري الشخصي في معضلة
البحث عن المشترك بين الديني في الأديان والفلسفي في الفلسفات أصلا للكوني في المدخلين الممكنين لفهم الوجود عامة والوجود الإنساني خاصة.
والمحاولة بعكس ما كانت عليه الرؤية الميتافيزيقية القديمة لم تعد تنطلق من الطبيعة إلى التاريخ بل هي بالعكس بحيث إن المقابلة هي بين ارسطو وابن خلدون.
فالعلم الرئيس عند ارسطو هو الميتافيزيقا. والعلم الرئيس عند ابن خلدون هو الميتاتاريخ. والخيار الثاني هو الأسلم والأكثر تمثيلا لما نعلم من تكوينية النظر والعمل في الحضارات البشرية لأن الفكر الإنساني كان ولا يزال دائما ذا أفق ديني من حيث السرمدي فيه حتى عندما ينفيه كما في الرؤى المادية وآخرها الماركسية وذا أفق فلسفي دائما من حيث التاريخي فيه حتى عندما ينفيه كما في الرؤى المثالية وآخرها الهيجلية. فلا يكون الفرق بين الأفقين ناتجا إلا عن عدم النظر في المشترك بينهما
وهو ليس السرمدي ولا التاريخي بل الترابط بينهما وهو ترابط شارط لفعل العقل وفعل الإرادة. والعلاقة هي إذن بين الغاية والأداة: العقل أداة والإرادة غاية.
وشرط تحقيق الغاية التمكن من الأداة فيكون التاريخي الذي هو تحقيق الأدوات إيجابا أو سلبا هو الفعل الذي يستعمل العقل لخدمة الإرادة التي تطلب السرمدي. وذلك هو الترتيب الخلدوني وتلك هي العلة التي تجعل التاريخي الإنساني مقدما على الطبيعي الوجودي الذي لا نحيط به علما ونتعلم منه ما نجربه بصورة لامتناهية دون يقين بالمطابقة معه أبدا. ومن ثم فالعلم الرئيس هو الميتاتاريخ وليس الميتافيزيقا.