قانون ” الكمامة “.. حالة شرود سياسي(عبد الله النملي)
” إن المدينة المنكوبة التي يصيبها وباء الطاعون هي النموذج الأمثل الذي تحلم به السلطة لتوسيع هيمنتها. إذا كان أهل الحقوق والقانون يحلمون بالحالة الطبيعية والمنطقية لاحترام القانون، فإن أهل السلطة يحلمون بقدوم وباء الطاعون لفرض السيطرة التامة على الناس “.
كتاب ” المراقبة والعقاب “، ميشيل فوكو، فيلسوف وباحث اجتماعي فرنسي
خلّف تسريب النسخة الأولية لمشروع القانون رقم 22.20 المتعلق بتقنين استعمال وسائل التواصل الاجتماعي وشبكات البث المفتوح، المصادق عليه من طرف الحكومة المغربية في يوم 19 مارس الماضي، عاصفة من الانتقادات صبّت كلها إلى وصف المشروع بكونه يروم “تكميم أفواه المغاربة”، حيث تعالت الأصوات تطالب بإسقاطه وليس فقط مراجعته، ذلك أن بعض مواده ضمت مجموعة من العقوبات السالبة للحرية وغرامات مالية في حق المقاطعين لبعض المنتوجات، وتجريم التحريض على سحب الأموال من المؤسسات البنكية، عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو الشبكات المفتوحة أو غيرها من وسائط التواصل، في مخالفة صريحة لمبدأ حرية التعبير الذي يكفله دستور المملكة.
وقد عبّر عدد كبير جدا من النشطاء عن رفضهم القاطع لتمرير هذا القانون، حيث احتل هاشتاغ ” #يسقط_قانون_22.20 ” تريند موقع التواصل الاجتماعي و”تويتر” بالمغرب، كما تم إطلاق عريضة تحمل عنوان “قانون 22.20 لن يمر”، باعتباره مشروعا بعيدا عن القيم الدستورية القائمة على التشاركية، مطالبين الحكومة بالتراجع عنه، وكذا الكشف عن الجهة التي صاغت مواده المثيرة للجدل التي تنطوي على التضييق على حرية الرأي والتعبير. واعتبر المغردون في تدويناتهم أن “مرور هذا القانون، وإن تم تعديله، سوف يجهز على حرية الرأي والتعبير في مواقع التواصل الاجتماعي”، ويمنح ” قوة للشركات الخاصة على حساب المواطن”، فيما ذهب آخرون إلى القول: إن الحكومة لجأت إليه لـ”تكميم أفواه المغاربة”، كوسيلة للدفاع عن الشركات الكبرى، بعد الآثار الكبيرة لحملة المقاطعة التي خاضها المغاربة سنة 2018 .
وإذا كان المشروع قد لقي رفضا شديدا في صيغته الحالية من طرف الرأي العام الوطني، فإنه يجد أيضا معارضة حتى من قبل بعض الأعضاء المعنيين بتدارسه ومناقشة مضامينه في اجتماع مجلس الحكومة، ويجد هذا الطرح سندا له ضمن مذكرة وزارة الدولة المكلفة بحقوق الإنسان والعلاقات مع البرلمان الموجهة إلى رئيس الحكومة بمراسلة عدد: 115/2020 بتاريخ: 27 مارس 2020، والتي أحيلت من طرف رئيس الحكومة على الأمين العام للحكومة بمراسلة إدارية عدد:685 المؤرخة في: 02 أبريل 2020. ينضاف إلى ذلك ما ورد في البلاغ الرسمي لمجلس الحكومة والذي أكد فيه أن “المجلس صادق على المشروع، على أن تتم مراجعته على ضوء ملاحظات السادة الوزراء من قبل لجنة تقنية وبعدها لجنة وزارية”.
و يزداد الأمر غموضا إذا علمنا أن أحزابا من الأغلبية المشكلة للحكومة التي صادقت على مشروع القانون المشؤوم، هي نفسها التي أصدرت بيانات تعارض هذا القانون و تتبرأ منه بعد الحملة الكبيرة لمعارضته شعبيا. وعلى سبيل المثال لا الحصر، يقول بلاغ للأمانة العامة لحزب العدالة و التنمية أن ” أي تشريع في هذا المجال يجب أن يراعي ضمان ممارسة الحقوق والحريات الأساسية، في نطاق المسؤولية، ومن ضمنها حرية الفكر والرأي والتعبير بكل أشكالها، ورفضها لأي مقتضيات تشريعية تتعارض مع ممارسة هذه الحريات المقررة والمكفولة دستوريا”، وأشاد البلاغ ” بالنقاش العمومي الدائر حول هذا المشروع والذي يبين اعتزاز المواطنين والمواطنات وحرصهم على الدفاع والحفاظ على المكتسبات التي حققتها بلادنا في مجال الحقوق والحريات”، ودعا البلاغ ” الحكومة إلى تأجيل عرض هذا المشروع بعد تعديله نهائيا من قبل اللجنة الوزارية المكلفة، على البرلمان، مراعاة للظرفية الاستثنائية التي تجتازها بلادنا والتي تقتضي مواصلة التضامن والالتفاف وراء جلالة الملك وصيانة الروح الوطنية المشبعة بنَفَسِ التعبئة والإجماع والانشغال بواجب الوقت الذي هو التصدي لهذه الجائحة، وترصيد المكتسبات والنجاحات التي حققتها بلادنا في هذا الإطار والتي نالت بها الإشادة عالميا”. وشدد البلاغ على ” أهمية سعي الحكومة إلى توسيع التشاور المؤسساتي بشأن المشروع من خلال إشراك المؤسسات الدستورية المعنية، لما له من فائدة مرجوة على جودة النص، فضلا عن أهمية العمل على تبديد كل المخاوف المشروعة والمتفهمة التي عبرت عنها الكثير من فئات المجتمع وفعالياته”.
وبعد أن تسربت مسودة المشروع إلى الرأي العام الذي فوجئ بمضمونه، ونقل التسريب المعركةحوله إلى الرأي العام، أعلن وزير العدل، محمد بنعبد القادر، عن تأجيل أشغال صياغة المشروع المثير للجدل اعتبارا للظرفية الخاصة التي تجتازها بلادنا في ظل حالة الطوارئ الصحية، إلى حين انتهاء هذه الفترة، وإجراء المشاورات اللازمة مع كافة الهيئات المعنية، وذلك حتى يتم الحرص على أن تكون الصياغة النهائية للمشروع مستوفية للمبادئ الدستورية ذات الصلة ومعززة للمكاسب الحقوقية ببلادنا !!. من هنا يحق لنا التساؤل: لماذا تم التعتيم على المشروع وعدم إعمال مبدأ المقاربة التشاركية في تنزيله؟، وهل كان صحيحا التسريع بالمشروع في ظل حالة الطوارئ الصحية وجائحة كورونا ؟، وهل يعكس التسريب تفجير الخلافات حول المشروع ونقلها من داخل الحكومة إلى الرأي العام؟، و ما مدى مطابقة المشروع للدستور واحترامه لحرية الرأي والتعبير؟، ثم هل هناك مصلحة للبلاد في تبني مثل هذه القوانين الرجعية؟، وهل كان ضروريا إنتاج نص جديد يعيد تكرار تجريم أفعال جرمتها القوانين مسبقا؟. وهذه محاولة للجواب عن بعض الأسئلة المدرجة:
1_ بالعودة إلى البلاغ الصحفي الذي أصدره الناطق الرسمي باسم الحكومة بعد اجتماع المجلس الحكومي في نفس التاريخ ، نلاحظ أن الحكومة اعتمدت أسلوب التعتيم و عدم إعطاء تفاصيل واضحة و دقيقة عن مضامين مشروع القانون 22.20، إذ تم الحرص على ربط مشروع القانون ب”التدابير القانونية والمؤسساتية لمكافحة الأنماط المستجدة من الجريمة الإلكترونية”، كما تم استغلال الإجماع الوطني على الانخراط في الإجراءات المتخذة لمواجهة كورونا، وجعلت المصادقة على مشروع القانون تبدو متناغمة مع هذا السياق، وذلك ما تعبر عنه الفقرة الأخيرة الواردة في البلاغ الصحفي السالف الذكر:”وهو بذلك يستهدف سد الفراغ التشريعي الذي تعاني منه المنظومة القانونية الوطنية لردع كافة السلوكات المرتكبة عبر شبكات التواصل الإجتماعي والشبكات المماثلة، من قبيل نشر الأخبار الزائفة وبعض السلوكات الإجرامية ..خاصة في مثل هذه الظرفية التي يعرفها العالم، وتعيشها بلادنا، والمرتبطة بتفشي فيروس كورونا ” كوفيد 19”..، كما أن عدم النشر الاستباقي لمشروع القانون وفق ما ينص على ذلك قانون الحق في الوصول للمعلومة كان خوفا من انكشاف معالم الجريمة القانونية،لذلك فقصة التعتيم لم تكن سلوك دولة بقدر ما كانت سلوك شخصي لتهريب بضاعة تشريعية وإخفائها عن حراس حدود القيم والحريات سواء داخل الدولة أو المجتمع، إلى أن تباغتهم السلعة في السوق، بدون مراقبة لجودتها أو فحص مدى مطابقتها لمعايير دولة الحق والقانون ودستور 2011.
كما أن مقتضيات النص التشريعي، لم يفتح فيها النقاش إلا بعد تسريبها بشكل مثير للرأي العام، بعدما تمت المصادقة عليه في مجلس حكومي مع بداية حالة الطوارئ الصحية في بلادنا، مما يطرح سؤال سلوك الحكومة في ممارسة نوع من السرية في مناقشة المشروع. فعادة ما تخضع النصوص القانونية لاستشارة واسعة من طرف القطاعات الحكومية، وتنشر في موقع الأمانة العامة للحكومة ليبدي الرأي العام رأيه فيها، لكن هذا النص “المستعجل” عُرِض في آخر لحظة على مجلس الحكومة، حيث جرى إضافته إلى جدول أعمال مجلس الحكومة في 18 مارس، في حين عقد المجلس في 19 مارس، كما أن بعض الوزراء طالبوا بتأجيل المصادقة عليه، إلى حين إعمال المقاربة التشاركية، خاصة أن القطاعات الوزارية لم تبد رأيها فيه، فيما الوزراء لم يتوصلوا به إلا في آخر لحظة، في توقيت حساس تميز بأزمة كورونا. وبذلك تكون الحكومة تعاملت بتكتم شديد في التعاطي مع المشروع، فلا هي نشرته على بوابتها، ولا هي طرحته للنقاش العام، ولا حتى استشارت بشأنه المؤسسات ذات الصلة. وقدأعلنت النقابة الوطنية للصحافة المغربية رفضها له وعبرت عن استهجانها للسلوك “غير المسؤول الذي تعاملت به الحكومة مع الرأي العام، في قضية تحظى باهتمام بالغ من طرف جميع المغاربة”. وانتقدت استفراد الحكومة بهذا المشروع، حيث اشتغلت عليه بصفة “سرية ومغلقة”، ولم تحترم مقتضيات قانونية تحتم عليها الاستشارة في شأنه مع المجلس الوطني للصحافة، بحكم علاقة هذا المشروع بصفة مباشرة بحريات التعبير والنشر والصحافة، كما لم تحترم الأعراف والتقاليد باستشارة المنظمات المهنية الصحافية والمنظمات الحقوقية صونا للمكتسبات وحماية الحريات. واعتبرت النقابة المشروع المتداول من أكثر القوانين خطورة التي عرفها المغرب، والتي تستهدف حرية التعبير والصحافة والنشر والتفكير. ودعت الحكومة إلى السحب الفوري لهذا المشروع، وحملت الطبقة السياسية الوطنية مسؤولية التصدي لهذا المشروع.
2_ محاولة تمرير مشروع خلافي يقيد الحريات، كان قد هيئ منذ مدة، ولكن كان ينتظر الفرصة المناسبة لتمريره، وحصل الاعتقاد بأن زمن كورونا هو الزمن المناسب لذلك، في استغلال تام لحالة الطوارئ الصحية، لفرضه بالقوة في ظل القيود المفروضة على بعض الحقوق الأساسية المتعلقة بالتعبير والتظاهر.هذا القانون لا توجد فيه أية مصلحة وطنية، إذا علمنا أن المغرب صادق على كل الاتفاقيات الدولية الرامية إلى تعزيز مكانته في حقوق الإنسان، و لم يعد مسموحا له النكوص إلى الوراء باعتبار وضعه كشريك متقدم في أكبر تجمع أوربي يضم27 دولة قطعت أشواطا متقدمة في احترام حقوق الإنسان، وخاصة في هذه الظرفية المتسمة بإجماع مهم بين مكونات الشعب ومؤسسات الدولة حول منهجية مواجهة الوباء الذي لم تستطع الصمود أمامه دول أخرى كثيرة وكبيرة، كما أن إخراج هذا القانون في هذا الوقت بالذات أفسد لحظة إجماع وطني في معركة لم تنته بعد، ويمس بمنسوب الاحترام الذي حظي به المغرب دوليا في منهجية تعاطيه مع وباء كورونا، أو في قضايا دولية أخرى بذل فيها مجهودا كبيرا .
3_ خلو المشروع من أي إحالة على أي نص أو مقتضى دستوري، باعتبار الدستور المغربي هو أسمى قانون والمرجع الأول الذي يحتكم إليه في صياغة أي قانون، ذلك أن اعتماد هذا المشروع بما تضمنه من تضييق على الحريات هو مخالف تماما لمضامين دستور 2011، وخاصة بابه الثاني المتعلق بالحريات والحقوق الأساسية،حيث نجد المشرع المغربي قد سن مجموعة من المقتضيات التي تكرس حرية الرأي والتعبير من قبيل الفصل السادس من الدستور الذي نص على أن: “ القانون هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة. والجميع، أشخاصا ذاتيين أو اعتباريين، بما فيهم السلطات العمومية، متساوون أمامه، وملزمون بالامتثال له. وتعمل السلطات العمومية على توفير الظروف التي تمكن من تعميم الطابع الفعلي لحرية المواطنات والمواطنين، والمساواة بينهم، ومن مشاركتهم في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية…”. بالإضافة إلى ما تضمنه الفصل الخامس والعشرون في مقتضياته التي تنص على أن “حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. وحرية الإبداع والنشر والعرض في مجالات الأدب والفن والبحث العلمي والتقني مضمونة”. وأخيرا الفصل الثامن والعشرون الذي نص على أن “حرية الصحافة مضمونة، ولا يمكن تقييدها بأي شكل من أشكال الرقابة القبلية. وللجميع الحق في التعبير، ونشر الأخبار والأفكار والآراء، بكل حرية، ومن غير قيد، عدا ما ينص عليه القانون صراحة. وتشجع السلطات العمومية على تنظيم قطاع الصحافة، بكيفية مستقلة، وعلى أسس ديمقراطية، وعلى وضع القواعد القانونية والأخلاقية المتعلقة به…”. وبخصوص أهم المرجعيات الدولية لحقوق الإنسان في مجال حرية الرأي وحرية التعبير، فإنها ترتكز بالأساس على ما ورد في المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والمادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، التي وضعت الإطار العام لممارسة حرية الرأي وحرية التعبير بمختلف الوسائل بما فيها استخدام شبكات التواصل الاجتماعي والبث المفتوح، وهو ما أكدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في قرارها 68/167 ومجلس حقوق الإنسان في قراريه 26/13 و 32/13 عندما اعتبر أن حرية التعبير والحقوق الأخرى تنطبق على شبكة الأنترنيت، والتعليق العام رقم 34 للجنة المعنية بحقوق الانسان التي اعتبرت أن “حرية الرأي وحرية التعبير شرطان لا غنى عنهما لتحقيق النمو الكامل للفرد، وهما عنصران يشكلان حجر الزاوية لكل مجتمع تسوده الحرية والديمقراطية، وشرطا كذلك لإرساء مبادئ الشفافية والمساءلة التي تمثل بدورها عاملا اساسيا لتعزيز حقوق الإنسان وحمايتها.
4_ أعلن المجلس الحكومي أن مشروع القانون يهدف إلى سد الفراغ التشريعي الذي تعاني منه المنظومة القانونية الوطنية، لردع كافة السلوكات المرتكبة عبر شبكات التواصل الاجتماعي والشبكات المماثلة، وهذا أمر مخالف للواقع، ذلك أن المغرب يتوفر على أزيد من 12 قانونا يرتبط بالجرائم الالكترونية، وعلى ترسانة قانونية، سواء في مجموعة القانون الجنائي أو قانون الصحافة والنشر أو في نصوص خاصة حول الحياة الخاصة و نشر الأخبار الزائفة، وتمت هناك متابعات قضائية في هذا الباب، مما يدعو إلى التساؤل: هل كان ضروريا إنتاج نص جديد يعيد تكرار تجريم أفعال جرمتها القوانين مسبقا أم كنا بحاجة إلى تعديل أو ملائمة في أبعد الحدود دون المساس بجوهر الحق والحرية؟، ثم لماذا تبناه قطاع العدل، وبالتالي إعطاء النص صفة جنائية قضائبة من البداية، وليس قطاع الاتصال الذي يعتبر صاحب الاختصاص القانوني الدستوري الأصيل في تنظيم الاتصال بصفة عامة؟. فليس هناك داع للاستعجال لأن المقتضيات القانونية الموجودة كافية في هذه اللحظة للتعاطي مع وسائل التواصل الاجتماعي، وخاصة نشر الأخبار الزائفة، والدليل على ذلك محاكمة عدد من الأشخاص وإدانتهم على ما ارتكبوه، علاوة عن أن النص من خلال تبنيه لتجريم المقاطعة التجارية، لم ينتبه إلى كونه يخلق صراعا طبقيا وفئويا جديدا، خطيرا على الدولة مستقبلا وعلى رجال الأعمال باعتباره يزرع بذور سلوك كراهية اجتماعية وفئوية. هذه الكراهية ستمتد إلى الحياة السياسية باعتبار أن جزء من رجال الأعمال والمنتجين يشاركون كفاعلين في الحياة السياسية. كما وقّع العشرات من الجمعيات المغربية والدولية، وعدة شخصيات بلاغا مشتركا اعتبروا فيه تجريم بعض أشكال التعبير مثل الدعوة إلى مقاطعة المنتجات التجارية يُعد “سابقة خطيرة للرقابة على حرية التعبير”، وعبروا عن قلقهم من الانحرافات في مجال الحريات بمبرر تدبير جائحة كورونا.
لعل المؤشرات الإيجابية لمواقع التواصل الاجتماعي لا يجب أن تَحْجُبَ عنّا المخاطر التي يمكن أن يتعرض لها النشطاء، فهناك من يخطط بالليل والنهار كي يضع حدا لمنسوب الحرية الموجود بهذه المواقع، من خلال تمرير قوانين تتناقض مع الدستور والمواثيق الدولية بحجّة حماية المصالح الوطنية، أو تحت بند الحرب على الإرهاب، أو حماية الأمن الوطني والاستقرار، وكذلك المس بهيبة الدولة وأجهزتها السيادية..، واللائحة تطول، إذا علمنا أن مصادرة حرية الرأي والتعبير غدت القاعدة في غالبية الدول العربية، خصوصا بعد مرحلة انفتاح قصيرة أعقبت انطلاق مسلسل الانتفاضات والثورات العربية العام 2011. وفي هذا السياق، لا بد أن نستحضر رائعة جورج أورويل “مزرعة الحيوانات”، وكيف ارتد الحكام الجدد عن القناعات المشتركة لسكان المزرعة من خلال تطويع القوانين وتحريفها. فالصوت الحر المستقل هو أكثر ما يقلق من يحاول إخفاء تجاوزات، أو التصرف ضد مصلحة عامة الناس لحماية مصالحه الشخصية ومصالح الفئة الضيقة التي يمثلها، و وسط هذه المعادلة المقلوبة، تصبح الحقيقة السلعة الأكثر خطرا لمن يحاول كشفها أو التعبير عنها، أو مخالفة “الطابوهات” السائدة.
إن جائحة الوباء لا ينبغي أن تكون فرصة سانحة
للعودة الى الدولة البوليسية، كما لا ينبغي أن تكون حالة الطوارئ الصحية ذريعة
لحرمان الأفراد من حقوقهم الأساسي،ة وعلى رأسها حرية الرأي و التعبير، لذلك على صناع
القرار الأمني و السياسي بالدولة، أن يدركوا جيدا بأن نجاح البلاد في تجاوز
تداعيات الربيع العربي و احتجاجات 20 فبراير
2011 ، لم يتحقق بالاعتماد على الفعالية الأمنية أو السياسات القمعية، بل إلى مرونة
النموذج المغربي في التعامل مع هذه الاحتجاجات، فبعد مرور سنوات على هذا
الحراك بالمنطقة العربية الذي لا يزال مفتوحا، لم تخرج المآلات التي انتهى إليها
الحراك عن ثلاثة: بلدان استبقت الحراك بإصلاح امتد على سنوات وإن اختلفت وتيرته
بين بلد وآخر، وبلدان انتهى فيها الحراك إلى صراع دموي عنيف وطائفي، وبلدان مكنتها
قدراتها المالية الضخمة من شراء السلم الاجتماعي وتأجيل الانفجار إلى حين. ويقع
المغرب، في القائمة الأولى، حيث مرت نسخة الحراك المغربي السلمي، بدون خسائر، لم
تشتعل الحروب الطاحنة، لم يتشرذم البلد، ولم يحصل المحتجون على كل مطالبهم، لكنهم
لم يخرجوا من الحراك بدون نتائج.
تخيلوا معي لو أن ما حصل في قضية المشروع المشؤوم حصل في ثمانينات القرن الماضي، هل كانت هذه القضية لتحصل على هذا القدر من اهتمام الناس وردات فعلهم؟، هل كانت الحكومة تحركت بهذه السرعة لتأجيل المصادقة على هذا القانون الخطير الذي يجهز على حرية الرأي والتعبير في مواقع التواصل الاجتماعي و يمنح قوة للشركات الخاصة على حساب المواطن ؟. لقد شهدنا في هذه القضية بالذات مسارا مختلفا في العصر الرقمي، بعد أن وجد الوزير بنعبد القادر ومن يقف وراءه وكذلك الحكومة أنهم محكومون بسلوك الضغط الشعبي الكبير، ودعم الإعلام و عشرات آلاف الناس على وسائل التواصل الاجتماعي، وحركة التضامن الواسعة بالمغرب وخارجه. ولا نُقلل هنا من الجهود المُعْتَبرة التي بذلتها القوى الحقوقية والسياسية وحتى بعض الحكومية، ومع ذلك لا يمكن إلا الإشادة بالدور الطلائعي الذي لعبته وسائل التواصل الاجتماعي في الدفع إلى سرعة اتخاذ قرار التأجيل، وإن كنا نطمح لأكبر من ذلك وهو سحب المشروع كليا. وقد أثبت الغضب الجماهيري في قضية المرسوم المشؤوم أن بإمكان وسائل التواصل الاجتماعي أن تعيد التوازن، وأن تمنع أي تعتيم، وأي شطط في استخدام السلطة وخرق الدستور والتضييق على حرية الرأي والتعبير. كذلك بَرْهَنَ التفاعل الشعبي مع القضية، أن وسائل التواصل الاجتماعي تستطيع مع الإعلام التقليدي والمجتمع المدني، أن تكون سندا ومصححا لبعض الهفوات، كما تبقى أداة شديدة الفاعلية، لها تأثير كبير على السياسيين و آراء الناس وخياراتهم، ويمكن استخدامها في مواجهة السياسيين والمسؤولين الفاسدين، ورصد التجاوزات لحقوق الإنسان وفضح حالات الفساد، وتحويلها قضايا رأي عام، بما يحقق ربط المسؤولية بالمحاسبة.