قراءة في كتاب: تصور الأهواء والانفعالات في الفلسفة العملية لديكارت(إدريس مقبول)
الكتاب:تصور الأهواء والانفعالات في الفلسفة العملية لديكارت بين الوصف وتحديد الوصفات
الكاتب: محمد سوسي
دار النشر: دار أبي رقراق للطباعة والنشر
صاحب هذا الكتاب باحث واسع الأفق يعشق دخول غابات الأسئلة ولا يطمئن للجاهز من الأفكار ولا تثبت عنده قناعة حتى يفتتها بمطرقة الأسئلة التي تعيدها لبساطتها قبل التركيب، اختار أن يشتغل في أطروحته على فيلسوف التنوير عبر (إيتيقا العواطف والانفعالات عند باروخ سبينوزا)، وفي هذا الكتاب الذي نقدمه عَرَّج على واحد من مؤسسي التنوير في الغرب وأحد الذين وضعوا حدا بين المعرفة العفوية التي تنشأ عن الحواس والمعرفة اليقينية التي لا سبيل إليها إلا من طريق الشك، ذلكم الشك الذي يصبح ضروريا لتحصيل اليقين، هذا بغض النظر عن الطابع المراوغ لليقين.
لقد اختار الأستاذ محمد سوسي في كتابه” تصور الأهواء والانفعالات في الفلسفة العملية لديكارت بين الوصف وتحديد الوصفات” أن يدخل عالم ديكارت من زاوية مختلفة وبهواجس ذاتية وأخرى موضوعية تلتقي عند نقطة البحث عن فلسفة عربية جديدة في لحظة السكون العربي، فلسفة تتأسس على فهم العاطفة والنظر إلى الأهواء والعواطف بوصفها مكونا أساسا في المعرفة بطبيعة الإنسان ووسيلة لتحرره وبخاصة في مجتمعاتنا التي تهيمن عليها أحكام الإدانة والتسلط والتضييق والطهرانية..إنه تفكير في رد فعل العقل إزاء ما نراه خارج العقل..مع استحضارنا لأهمية ما نعتبره خارج العقل، لأن تجارب الثورات في التاريخ كما هي تجارب الحب الكبرى كلها تحتاج لطاقة خارج العقل بتدفق لا محدود لتيار الانفعالات يصل بالتجربة إلى نهايتها بعيدا عن الحسابات الضيقة.
عاد الدكتور محمد سوسي إلى رسالة (الأهواء والانفعالات) لديكارت بوعي حاد بأهمية هذا المتن ضمن النصوص الديكارتية مميزا بين التصور الديكارتي والتصور اليوناني القديم لموضوع الأهواء، وقد سبق ديكارت دفيد هيوم في طَرْق موضوع الأهواء ومهد له السبيل بطريقة غير مباشرة ليجعلها موضوع الجزء الثاني من كتابه(رسالة في الطبيعة الإنسانية)، دون أن ننسى أن تناول الأهواء والانفعالات كان انشغالا عموديا لدى كثيرين طوال مسيرة التفلسف الإنساني على الأقل في العصر الحديث، نَتَذكّر في القرن الخامس عشر ميكيافلي وفي القرن السابع عشر هوبز وسبينوزا وفي القرن الثامن عشر جون لوك وإيمانويل كانط وفرنسيس هاتشيسون في كتابه (محاولة في طبيعة الأهواء والانفعالات وتطورها) ، ذلك أن سؤال الإنسان أنطولوجيا ما كان ليكون ممكنا دون شجاعة الوقوف عند تخوم الإيتيقا وتعرجات الأكسيولوجيا ضمن موضوع الأهواء والانفعالات وفهمها على النحو الذي يسمح بضبطها واستثمارها والانتقال بها من لحظة الخصومة إلى لحظة الانسجام بين أحكام العقل وأفعال الإرادة. ذلك أن رياضة الأهواء تمر أولا عبر معرفتها ودراستها.
في هذا الكتاب بسط الدكتور محمد سوسي بطريقة بيداغوجية مُحْكَمة فكرة الأهواء والانفعالات عبر ثلاثة فصول، تعكس تَمَرُّسه التحليلي وإحاطته المنهجية بموضوعه وحِسَّه النقدي وبخاصة في الشق المتعلق بالترجمة العربية، دون أن ينفي الصعوبات الكبرى التي تحيط بفهم نظرية الأهواء عند ديكارت باعتبارها جانبا من جوانب الفلسفة العملية التي لم تنل حظها من الدراسة، ولهذا خصص الفصل الأول لتقديم الموضوع في التقليد الفلسفي اليوناني وخصص الثاني للسياق والنهج الذي أسس عليه ديكارت مقاربته الفلسفية مع إلماع للنتائج الفلسفية والمعرفية للمنظور الديكارتي عن الإنسان، هذا المنظور الذي يُطَوّق الإنسان بالمسؤولية عن أخطائه بدلا من تعليقها على الله أو الطبيعة، الأمر الذي جر على ديكارت غضب رجال اللاهوت الكلفنيين في جامعتي أوترخت وليدن، إذ اعتبروا دفاعه عن الإرادة الحرة هرطقة خطيرة تنقض عقيدة القضاء والقدر. ثم أنهى الدكتور محمد سوسي دراسته بفصل ثالث عن المعرفة بالإنسان لدى ديكارت بين ما هو أنطولوجي وما هو أخلاقي عملي.
وهذا التصميم الثلاثي الذي بناه الأستاذ محمد سوسي بمهارة ودقة يوازي على نحو يكاد يكون هندسيا التصميم الثلاثي لديكارت في رسالة الأهواء، فقد خصص قسمها الأول لما هو ممكن عمليا، وجعل القسم الثاني لاقتراح قواعد عامة توجه السلوك، في الوقت الذي عاد في القسم الثالث ليؤسس ما يشبه نظرية في الفضيلة أو نظرية في تنظيم الرغبات.
لقد جاء هذا الاهتمام إذن بمسألة الأهواء لدى ديكارت ، أو نظام الرغبات كما يسميه أحيانا، لِمَنح الموضوع طابعا عقلانيا، وإن كان ديكارت نفسه يقر بتداخل العقلاني وغير العقلاني في الذات الإنسانية، كما جاء من أجل التمهيد لوضع طبيعي تأخذ فيه الأخلاق التامة منزلتها في علاقتها بالمعرفة التامة بكل العلوم وتقليص مساحات الخلاف بخصوص القضايا الأخلاقية.. فالموضوع وإن كان ذا بعد فلسفي إلا أن ثمرته سلوكية تستهدف مساعدة الكائن الإنساني على تَعرُّف ذاته أو لنقل الوعي بذاته وتعرُّف أخطائه وتبصيره بما يجب عليه تجنبه من الأفعال حتى لا يقع فريسة حالة “انفلات الأهواء والانفعالات”.
من القضايا الجديرة بالتأمل في هذا العمل المُمَيَّز تناوله للأخلاق المؤقتة من جانب ما قدمه ديكارت باعتباره وصفاتٍ من أجل مباشرة العلاج الضروري لسلبيات سوء فهمنا وتدبيرنا لحقيقة الأهواء والانفعالات، وقد تمكن الأستاذ محمد سوسي بمهارة معرفية في رد هذه المعالجات الأكسيولوجية إلى أصولها الرواقية من جهة والميتافيزيقية من جهة أخرى، وتوضيح معالم النموذج الديكارتي الذي يقابل النموذج الأرسطي ويتجاوزه في نظرته لعلاقة الروح بالجسد من جهة ولوظيفة كل واحد منهما على حدة من جهة ثانية.
مما يثير الانتباه أن الأستاذ سوسي وهو يعالج موضوع الأهواء والانفعالات عند ديكارت بطريقة تفكيكية، فإنه أحيانا ينزاح ليكون أقرب إلى برتراند راسل في بعض تحيزاته الفلسفية، فمعلوم أن راسل في كتابه(الدين والعلم) وجد الحل المناسب للمشكلة الأخلاقية من خلال تقدير خاص للانفعالات إذ رأى أنها ما يضفي على الحياة الدنيوية مُتعتها ويجعلنا نشعر بأهميتها، ومن خلال هذه الرؤية الفلسفية فإن الانفعالات والأهواء تعتبر أهم عناصر الحياة البشرية على الإطلاق، هذا رغم إقرار راسل بأن فهمنا للعالم من حولنا لا يتم في الغالب إلا عبر الأهواء الذاتية، فالانفعالات تجعلنا ننظر إلى العالم الخارجي في مرآة من الأهواء والمشاعر والميول الذاتية، فالعالم حينها يكون تارة مشرقا وتارة مُظلما بحسب ما يكون عليه وضع المرآة الخاصة بأهوائنا..إن الإنسان العادي كما يقول ميشيل مايير في كتابه (الفيلسوف والأهواء)لا يفكر في أهوائه بل يعيشها ويتلذذ بها أو يكتوي بها، لذلك فالأهواء في النهاية هي تجسيد لذاتية الكائن وتعبير عن تكامل نوعه أكثر من تعبيرها عن تنافره..المسألة التي ستغري بظهور سيميائيات الأهواء كمبحث في مدرسة باريس يهتم بتتبع هذا التعبير مع جوليان غريماس وجاك فونتاني بتحويل القبلة في دراسة الخطاب من حالات الأشياء إلى حالات النفس. وستصبح السيميائيات المحضن الجديد لدراسة الموضوع واختبار أسئلته والسعي لتطوير رؤيتنا عنه من خلال النصوص.
لا ينسى الأستاذ محمد سوسي كمثقف ملتزم من زاوية اهتمامه بواقع العالم العربي ورهاناته وتحدياته في كتابه أن يختم بتسليط الضوء على سؤال الوعي السياسي لدى ديكارت، وذلك من خلال قراءة الديكارتية بوصفها فلسفة تناولت الميتافيزيقا والعلم والفلسفة العملية التي تهتم بقضايا الأخلاق وتؤسس لكل اهتمام ممكن بالفعل السياسي. ما دامت تؤسس لصورة الفرد-الذات المريدة والحرة، والتي تستطيع السلوك بأفضل ما يمكن لديها من خير، وتتجنب الشر باعتباره مدمرا لها ولغيرها، وبالتالي لشروط العيش المشترك. وهو بذلك يراهن من خلال عمليات الفهم المناسب على تخليق وعقلنة في ذات الوقت للموقف وللرؤية في أفق تجاوز حالة الركود والسلبية. وبخاصة حين تصبح السياسة مجرد عمليات تدمير متصل للإنسان والطبيعة والعلاقات مع الآخرين.