المقالات

قراءة في كتاب: نحو الأندلس من خلال أمالي السهيلي (إدريس مقبول)

الكتاب: نحو الأندلس من خلال أمالي السهيلي

الكاتب: عبد المنعم حرفان

الناشر: مختبر الأبحاث المصطلحية والدراسات النصية: جامعة سيدي محمد بن عبد الله، كلية الآداب والعلوم الإنسانية_ظهر المهراز فاس_

من الكتب التي خُطت بنَفَس إبداعي نقدي مشاكس يقودُه حسّ الابتكار والحفر عن الجديد في تاريخ معرفتنا اللسانية، كتاب أستاذنا وصديقنا الدكتور عبد المنعم  حرفان “نَحوُ الأندلس: من خلال أمالي السهيلي”، وهو كتاب ينضاف إلى ما كتبه المستشرق ميكائيل كارتر عن نحاة الأندلس وسؤال اختلافهم، وما كتبه محمد إبراهيم البنا تحديدا عن أبي القاسم السهيلي و مذهبه النحوي وإلى كتاب أسماء عبد الله الثلايا عن (الأدوات النحوية في كتاب نتائج الفكر للسهيلي إستعمالاتها , ودلالاتها) وكتاب (نحو العطف) لمصطفى أنكزدم الذي خصه لنحو السهيلي وغيرها من الكتب التي احتفلت بصاحب الأمالي وصاحب نتائج الفِكَر في النحو.

الإمام السهيلي كان رحمه الله متعدد المواهب نشأ في بيت علم وخطابة كما جاء في تذكرة الحفاظ ، وبرز في اللغة والفقه والسيرة والحديث والتفسير وغير ذلك من الفنون، مما يضفي على البحث فيه متعة لا تخلو من مشقة لتنوع موارده واتساع ثقافته، وقد سرد الأستاذ عبد المنعم حرفان قصته مع جاذبية أبي القاسم السهيلي الذي اكتشف تميزه واستقلاله العلمي من خلال وقوفه على بعض آرائه وتعقيباته في أبواب مختلفة من النحو العربي، فكانت قصة اللقاء الأول الذي أدخل أستاذنا حرفان إلى عالم الأندلسيين وإلى عالم السهيلي الذي يفيض بالاجتهاد ويرفض التقليد.

 في كتاب “نحو الأندلس” يُوقفنا الكاتب بأفق واسع في النظر والاستدلال على حدود الاتصال والانفصال والموقف من العربيات والدوارج في تاريخ التأليف اللغوي، كما يُطلعنا على أوجه التقليد والتجديد اللسانيين في الغرب الإسلامي، هذا الغرب الذي جسد العقل البرهاني المتميز بلغة الجابري، إذ ظل مُصرا على أن يضيف لسجل التميز والاختلاف بما أملاه واقع التعدد اللغوي والتداخل الثقافي من جهة، ومسألة سبق النحو الكوفي كما يقول أستاذنا حرفان إلى الأندلس، وهي مسألة خلافية حرص أستاذنا عبد المنعم حرفان أن يكون فيها صاحب رأي مستقل ولو خالف الجمهور والجماعة، وعلى حد قول ابن مسعود رضي الله عنه: “الجماعة من كان معه الحق ولو كان واحدا”.

الدكتور عبد المنعم حرفان

وأستاذنا عبد المنعم حرفان أمة وحده بالفعل بما جمع من المزايا والفضائل، فهو عالم دمث الأخلاق لا يَعرف قدره إلا من جلس إليه أو قرأ له، وقد كنا محظوظين بالتتلمذ على يديه، فقد كان على الدوام حريصا على نفع طلبته وخدمة أصدقائه بتقاسم ما لديه، وهذا غيض من فيض حسناته وسجاياه، ومن يطلع على أعماله منذ أطروحته عن “بناء الكلمة في اللسانيات العربية” إلى عشرات الأعمال والمقالات والأوراق العلمية التي أغنى بها المكتبة العربية، يجده يقدم النموذج الحي للفكر المغربي اللساني المتنور، الجامع بين فنون التراث وإنجازات اللسانيات الحديثة، وهو في كل ما يكتبه  قد يناقش المسألة وليس شيء أسهل عليه من الحسم فيها والجواب عنها، ولكنه يفضل أن يُصغي لغيره ويستحضر مخالفه، ومع علمه المتسع الذي ناله بفضل قراءته بأكثر من لغة، هو جَمُّ التواضع قليل الكلام كثير الإنصات خفيف الظل مُحب للدعابة.

 وما يميز كتاب الدكتور عبد المنعم حرفان(نحو الأندلس) هو مساءلته المتصلة وشكه الدائم فيما يقرأه، فقد علَّمته اللسانيات التي تخصص فيها ودَرَّسها لنا ولسنين ذوات العدد أن لا يطمئن إلى رأي إلا بعد فحصه واختباره، فعملية الشك عنده ليست موقفا عرضيا  أو استعراضيا، بل هي قرار مبدئي، إنه قرار الذات العالمة في إخلاصها لموضوعها لحظة المعرفة، وذلك  بأن تسحب ثقتها المطلقة من الأحكام ومن الأشياء، وتعيد ترتيب العناصر بطريقة خاصة بعيدا عن أي توجيه مسبق وبعيدا عن الأحكام الجاهزة التي تملأ المحيط الأكاديمي.

مما يتعلمه القارئ لأعمال الأستاذ حرفان هو مقاومته لعطب التجاهل الذي تفرضه أحيانا كثيرة الترسيمات المذهبية والتصنيفات المدرسية التي تهيمن على الحقول العلمية، ومنها اللسانيات، فتضيع الكثير من المعارف الدقيقة والتفاصيل المهمة في ظل الخطوط الحادة التي لا تراعي طبيعة الواقع المتعرج والمعرفة المتطورة. مرة أخرى يعلمنا أستاذنا حرفان في هذا الكتاب أن الاهتمام ببعض التفاصيل والجزئيات البسيطة مهما كانت (صِفرية) قد يكون هو المدخل للفهم وحل الإشكالات، أو كما كان غابرييل لاوب يقول:” لنتعلم من الرياضيات عدم تجاهل الأصفار”.

هناك نزوع للتمرد على الجاهز في الكتابة اللسانية عند الأستاذ عبد المنعم حرفان، ولعله من نزوع صاحبه السهيلي في أماليه.. فنزوع الأستاذ حرفان يذهب إلى المواجهة والوضوح في المواقف التي لا يحتفل كثيرا أن تتفق معه فيها أو تختلف مادام يراها من زاويته العلمية التي تتسم بما يكفي من التماسك والحُجّية بعد أن أخضعها للامتحان والاختبار، لكنه مع نفسه يبقى دائم المراجعة لما يتوصل إليه، مستعدا للنزول عنه إذا وجد لذلك سببه العلمي المُقنع.

في كتابه “نحو الأندلس” انتهى أستاذنا إلى عدد مهم من النتائج غير المسبوقة، منها أن عناية السهيلي في البناء النحوي كانت بالمعنى على خلاف ما جرى عليه النحو في أخرياته، فالمعنى هو المنطلق، ولذلك كان عدد ما اقترحه السهيلي (مع أستاذه ابن الطراوة) من العوامل المعنوية كبيرا، كما أنه نظر نظرة جديدة إلى بعض الوظائف النحوية وإلى بعض المفاهيم النحوية.

كما خلص أيضا من خلال قراءة تأويلية ذكية للمناخ الثقافي الأندلسي وإلى مناهج الأندلسيين في النظر، إلى أن تمثل الأندلسيين للسان وللنحو مختلف عن تمثل المشارقة، وذلك من خلال تتبع مجمل الخلفية التي تؤطر المنتوجين العلمي والأدبي ومن المواقف التاريخية والسلوكات المجتمعية فضلا عن التحليل النحوي..محاولة لقراءة النحو في سياقه السوسيوثقافي والحضاري عامة، وذلك من أجل قراءة عابرة للحدود.

ومما كشفه الأستاذ عبد المنعم حرفان في رحلته مع السهيلي، أن منهجية صاحب الأمالي لا تختلف في شيء في دقتها عن منهجية المقالة العلمية الحديثة، فقد بنيت على تحديد الإشكال بوضوح، وطرح لافتراض جلي، تليها قراءة في التصورات السابقة، ونقد للتحاليل المنافسة، وافتراض للمعترض، واقتراح لمسلمات الانطلاق أو المبادئ العامة ثم فحص للمعطيات وتقديم للبدائل وتأكيد لها..وهي مسألة غاية في الطرافة، إذ تفتح أعيننا على جانب من جذور المناهج العلمية ونموها واتصال حلقاتها التاريخية، فضلا عن مساهمة العقل المسلم في بناء المنهج الذي كان أساس بناء الحضارة عامة.

هذه إطلالة سريعة على كتاب أستاذنا عبد المنعم حرفان، نعلم أنها لا توفيه حقه ولا تغني عن قراءة الكتاب، ولكنها تُطْمِع في طلبه وفي تصفحه، فإن القارئ لن يعدم فائدة في كتاب فريد مفيد كان سببُ تأليفه مسألة من مسائل النحو الفرعية، ألا وهي مسألة الممنوع من الصرف. فرُب كتاب كان السبب من ورائه كلمة استوقفت كاتبه حين قرأها في كتاب غيره كما كان يقول العقاد، أو رأيا سمعه من قائل، أو مشاهدة حركته للبحث، فجاء الكتاب شجرة مباركة من بذرة وعلما واسعا من خطرة وسيلا منهمرا من قطرة، والحمد لله رب العالمين..

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق