كورونا: رؤية فلسفية أخلاقية (منتهى طه الحراحشة_يونس بن علال)_1_
معنى كورونا، بين فلسفة العلم وسؤال الأخلاق
إن دهشة العالم اليوم أمام اختبار وباء كرونا، شكل صدمة إنسانية في إعادة فهم واستيعاب سنن الكون وخباياه، ليس من حيث رحابته الشاسعة، وإنما في إعجاز ضآلة عوالمه المتوارية بين منطق فلسفة السؤال وما تعكسه من قصور العقل في استيعاب أدبيات ظواهر الوجود المعقدة، ليصبح اللاممكن جوابا عن سؤال الممكن، أمام جدلية تصادم معنى المعنى، أي معنى الغيب بمفهوم معنى حقيقة العلم، إذ يشكل الأول مصدر تنبؤ لفهم ما بعد الحياة، والثاني مصدر ارتياح لتطويع الحياة تبعا لسلطة العلم، هذا الأخير الذي سرعان ما انقلبت موازينه وتوقعاته لتحدث شرخا في نفسية الإنسان، عبر هاجس الخوف من الخوف، أي الخوف من موت السؤال القابع تحت أقفال العجز التي يلفها الغموض الجاثم على عقل البشري وتطلعاته المستقبلية، أملا في فسحة الانعتاق للبحث عن الحياة داخل الموت، وعن القيم في ظل غياب دور الإنسان، هذا ما منح مذاق الحياة طعم الانعكاس في فهم جوهر الوجود، جراء تعالي المادة على الروح، ليصبح الجسد مستنقعا وباء تندحر فيه القيم وتختمر فيه الموت، أمام غياب سؤال الأخلاق وحضور جواب الشك في معنى فناء العالم أو ما يعرف بقيام الساعة. إننا الآن نقف أمام منعطف جديد ولحظة مصيرية نختبر فيهما انتظار ولادة العلم عبر إعادة استنبات صحوة الضميرالإنساني داخل العالم؛ حتى يتسنى لنا النجاح في إعادة قراءة العلوم الإنسانية من منطلق يؤطره علم الأخلاق، باعتباره ”علم القواعد التي تسير عليها إرادة المرء الكامل في أعماله ليصل للمثل الأعلى في الحياة”[1]؛ ذلك أن الوضع الحالي يحتاج منطق الوعي بقدرة التوازنات الفكرية للعقل البشري بغية ترتيب فوضى نظامه الواقعي عبر سؤال الأخلاق للإجابة عن ثغرات العلم، قصد كبح جماح حركة الوباء، وسرعة تفشيه داخل عالم لا يقوى سوى على وضع الحواجز، وإعلان حالة الطوارئ في ظل غياب التواصل القائم على مبدأ فهم دور الإنسان في الحياة. فتحقيقنا للأمن الروحي والنفسي والاجتماعي.. رهين بشرط التكامل الأخلاقي رغم الاختلاف الثقافي والديني الذي تعيشه الشعوب، فكلنا نلتقي عند مفهوم الإنسانية، لكننا نختلف في طريقة الإجابة عن جوهر سؤالها الذي تجرد من فطريته ليتخذ معاني نفعية برغماتية رسختها معاني الاكتساب الذاتي وما خلقته من محط تجاذبات بين متضرر من وباء كرونا ومنتفع به على حساب الآخرين، وكلها تصرفات تختلف حسب التقسيم الأخلاقي للإنسان داخل جغرافية هذا العالم المتضرر، والمنقسم إلى قوى عظمى وأخرى دنيا، ليبقى السؤال المطروح، ما العلم بدون إنسان؟ ومن الإنسان بدون أخلاق؟ وما العلم بدون أخلاق؟
كلها أسئلة تقودنا لصناعة جواب حقيقي، بعيدا عن زيف التوقعات والانتظارات العلمية، وإنما في فهم سبب انفلات الطبيعة عن سيطرة العلم، وأثر ذلك عن معنى المعنى، أي على إنسانية الإنسان.إن معنى كرونا وتداعيات العلاج منه، يعيدنا بالقوة إلى معنى فهم حقيقة االروح و الموت والغيب وقيام الساعة، لنقف أمام عجز علمي في مواجهة إعجاز رباني، يسائل ضعف العقل وقصوره، مصداقا لقوله تعالى: ” وما أوتيتم من العلم إلا قليلا”[2]، هذا معناه، أن مصل كرونا يحتاج لجرعة أخلاقية لا علمية، تستدعي التأمل في خبايا الفكر والتدبر في أسرار الوجود عبر” ثورة الانكشاف الطبيعي التي استفزت العقل البشري بغير الممكن لإرغامه في البحث عن الممكن”[3]، وفق مقامات تأملية تلتقي فيها القدرة بالعجز والحقيقة بالوهم من خلال ثنائيات ضدية تسعى للبحث عن انتصار الأخلاق لصالح العلم الذي يعيد للإنسان رفعته، لأن” تحليل وجود الإنسان هو الوسيلة الوحيدة والحقيقية التي يمكنها أن تطلعنا على حقيقة الوجود المطلق”[4]، وما يخفيه من عوالم تفوق التصورات التجريدية للعقل، لكن هذا لا يعني أن العلم واحد لا تتعدد طرائقه، أو أنه محصور عند فئة دون غيرها، فكل هذه التصورات أضحت مستبعدة في زمن كرونا، حيث بتنا نعاين ونسمع كيف تحكمت بعض الدول التي كنا نسميها سائرة في طور النمو، مع الجائحة بنوع من الترشيد والحكامة والاستباق العلمي، في مقابل سيادة الوباء وتفشيه بشكل عنيف وقاتل، في العديد من الدول العظمى التي كان من المنتظر أن تكون سباقة في إيجاد علاج للسيطرة على الوضع عالميا؛ أمر جعلنا نعيد النظر في موازين القوى العالمية التي باتت شكلا بلا مضمون، بل أصبحت لعبة إغراء تبكي الطفل ولا تسليه، وهو ما يتبدى لنا من ثغرات العيوب التي شوهت ثقوبها الثورة العلمية الجديدة على الرغم مما توصلت إليه من صيحات تكنولوجية وترسانة عسكرية وتجارب جينية سريرية..لم تشفع للعقل أمام فيروس أعادَه بالقوة إلى نقطة الصفر، حتى يبدأ تجربة علمية جديدة يراعي فيها المبادئ الأخلاقية للعلم، لأنها الرهان لسد ثغرات الإعجاب المتزايد بالعقل في ظل غياب اتهام قصوره أمام وباء لا يرى بالعين المجردة. إن معاني كرونا مقيدة داخل ألفاظ العلم، ولا تفتح إلا بمفتاح الأخلاق التي تسهم في إعادة بناء نهضة العمران الإنساني. ليصبح معنى كرونا ضمن هذا الطرح الفكري المادة التي تشتق منها كل الدلالات القائمة على إيجاد السياقات الممكنة لفهم معنى العلم كأخلاق وليس كتجربة فقط. أي ما السبيل لاستعادة سؤال الوجود في ظل إشكال ماهية الطبيعة؟
جدل كرونا بين بعث المعاني وموت المعنى
قد يتساءل السائل، ما الذي منح كرونا هذه الضجة العالمية، لدرجة أنستنا العديد من الهموم والقضايا الدولية والإقليمية، إذ لا يمر يوم إلا ويراودنا شبح هذا الوباء أكثر من مرة، كل هذا يرجع بالأساس إلى اقتران كرونا بالموت وما يحمله من دلالات الخوف والرعب، إذ تجاوزت كرونا مفهوم الموت الخفي إلى الموت الظاهر الذي يقتات من نفسية الإنسان يوما بعد يوم، بدءا بقتل معنى طعم الحياة عبر تسلل دبيب الخوف الذي يخنق الأنفاس، ويشل حركة الجسد، وهنا يكمن معنى الفرق بين من يموت فجأة دون شعوره بتربص الموت، ومن يموت في كل لحظة ألف ميتة بسبب تربص وباء كرونا المستأصل لمعاني كينونته؛ ويمكن مرد هذا الخوف الشنيع إلى افتقار النفس لمعاني الإيمان بالقضاء والقدر، فإذا كان معنى كرونا يجسد رمزية الموت والقهر الجسدي لدى البعض، فإنه لدى البعض الآخر، يشكل منحة ابتلاء ربانية، يذيق بها الله العباد اختبارا لحس إيمانهم، وتقديرا لنعم الله عليهم، وهنا تكمن معاني لغة البعث، أي بعث الضمير الإنساني من جديد، من طرف المرضى المتعافين من وباء كرونا، ومدى تأثير ذلك إيجابا على طرق عيشهم، عبر محاولة الوعي بأهمية الذات في بناء العمران الإنساني، وكذا في إعادة انتشال القيم من ردهات زيف الحياة وملذاتها العابرة.
إن اختبار كرونا، يمثل لحظة تَجَلٍ للبعث من جديد لدى المتعافين من قبضتها، وما ينتابهم بعد هذا المخاض المميت من شعور الاعتراف بقوة الخالق، ومن تغيير في سلوكهم نحو الأفضل، لما لا وقد وقفوا على جسر عبور يفصل بين عالمين، عالم يحرمنا من طعم الحياة، وعالم يجعلنا نولد من جديد، لكن كلا العالمين لن يسلبا أمل وشجاعة المرضى المبتلين بكرونا إذا أطرناهم ضمن البعد الديني، وقدرة استيعابهم لمفهوم الابتلاء الذي يطهر به الله العباد من براثين المعاصي، بإعادتهم لطريق الحق والرضا بقدر خيره وشره، وما لذلك من أثر في فهم ما بعد الميطافزيقا التي بقيت سؤالا عالقا في الفلسفة الغربية وما خلقته من أسئلة الخوف والشك في طبيعة تفكيرهم ووجودهم، على خلاف الإنسان المؤمن بعقيدة الإسلام وقدرته على تجاوز فكرة موت الجسد إلى رفعة تعالي الروح داخل سرمدية حيوات جديدة في العالم الأخروي، وهنا يتجلى معنى البعث الحقيقي الذي أسهم حدث كرونا في إبراز قِيَمِه، مصداقا لقوله تعالى: ” الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُم أَيُّكُم أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ”[1]، فموت المعنى عندنا، يعزى إلى عامل الخوف، إذ لا يمكن التغلب عليه إلا بإرادة الإيمان، لأن الخوف من كرونا أكثر من كرونا نفسها، وبالتالي يصعب قتل الموت حسب المعنى الميثولوجي، لأن الموت هو الوجه الآخر للحياة، إنه البعث والإقبال على فرصة جديدة في الحياة مبنية على شرط التضامن، من أجل الانتصار للذات البشرية عبر إعادة بعثها من رماد هذا الوباء.
إن موت الأخلاق أصعب من موت الجسد، وبعثها هو استنبات جديد لبناء مجتمع متماسك، تسود فيه روح العطاء، وهذا معنى من معاني البعث، لأن توقف العالم تدريجيا منذ البدايات الأولى لشهر مارس 2020 كان عبارة عن لحظة احتضار رهيب أبان أن العالم لا يساوي شيئا أمام معنى المعنى؛ أي بدون معنى إنساني، حيث ألغيت كل الفوارق والانتماءات ليجهر صوت الإنسانية بجميع اللغات مُكسرا ذلك السكون الرهيب الذي شنج حركة الحياة بسبب هذا الفيروس التاجي الذي لا يرى بالعين المجردة؛ من هنا نقول إن دينامية العالم وبقائه، غير مشروطة بحياة فرد واحد، وإنما بالتعايش الإنساني القائم على تنوع الأعراق والألوان والثقافات، وهذا ما يثبته المُفكر ديفيد بيناتار بقوله: ” الإنسان ليس فردا أو جزءا معزولا عن الكون، وإنما هو حضور مشترك تحركه روح القيم، داخل فيزيقية الحياة”[2]، إذ نقف مستحضرين في هذا الطرح، شرط التكامل لأنه أساس بعث المعاني من جهة وقتل معنى التفرقة من جهة أخرى، فما دامت المفاجأة وحدها تهزنا، وما عداها يعتبر أمرا عاديا، فإن معضلة الوباء شكلت مثيرا لاستجابة نفثت روح الحياة في البشرية بعد انجراف مخيف لموت القيم، لأن الكون لا يصبح مغايرا إلا عندما تحب النار الماء وعندما نستخرج من رحم الموت ولادة الحياة، عبر معاني الأسئلة التي نستخلص منها جواب الإنسانية في زمن كرونا، فالبشرية حاليا في أمس الحاجة إلى مصل الحب والرحمة وزرع الثقة والأمل داخل نفوس كانت منكسرة قبل كرونا، وهي الآن تُخْتبر أمام لحظة جمع الشتات عبر التكافل الاجتماعي والكفاءة السياسية والتطوع الميداني حفاظا على الكرامة الإنسانية في بلدان المهجر وغيرها، بتوفير معدات التعقيم والكمامات واللقاح، بنوع من العدالة الاجتماعية التي يحكمها صوت الضمير الإنساني قبل القانون، هذا علاوة إلى قتل معنى المُتاجرة بالأزمة عبر احتكار السلع، ودحض جميع أشكال التطرف العنصري الذي لم تسلم منه الإنسانية حتى في زمن تأجج كرونا، ويكفينا مثالا على ذلك ما شهدته أمريكا من ثورات في زمن كرونا جراء قتل المواطن الأمريكي جورج فلويد ذو الأصول الإفريقية في أواخر ماي 2020، من طرف جهاز الأمن، ليصبح هذا الحدث وصمة عار تنضاف لتاريخ البشرية، منذ أن قتل قابيل هابيل، ليتضح لنا أن هناك أشرس من كرونا، من خلال ما جاء على لساني محامي الضحية، بقوله: ”إن وباء العنصرية هو من قتل جورج فلويد لأنه أقوى من فيروس كرونا”.
إن الإنسانية اليوم أحوج للحرية وللأمن ولعدالة الاعتراف..حتى يتحقق شرط الحياة بما تحمله من معاني تتعالى عن زيف الواقع وما يعج فيه من حقد وبغض، لأن العيش بدون إدراك معنى العالم في أبعد تجلياته الأخلاقية، هو أشبه بالتجول في مكتبة عظيمة دون لمس الكتب، كما أن الإنسان الحي هو الذي يعلو بالسؤال حتى لا يُقبر جوابه داخل الحُفر، ما دام الإنسان يعلو على الإنسان بالبحث عن المعنى، فكذلك ينبغي العلو بالأخلاق لوجود معنى للحياة داخل ضائقة كرونا. إذن إن الاختبار بلا معرفة، لا معنى له في تذوق السؤال، لأن طبيعة الإجابة ستظل قاصرة في بلوغ مراد النجاح، والشأن نفسه ينعكس على فحوى هذا الوباء وما يمكن أن نستخلصه من أجوبة تعيد بعث الحياة في إعادة استنطاق الضمير الإنساني من حيث القيم، لأنها الأساس في امتصاص صدمة هذا الحدث الذي هو في أمس الحاجة للوعي الفعلي بمعنى الإنسانية قبل الوعي بالحديث عنها، لأن الإنسان لا يبتلى دائما ليعذب وإنما يبتلى ليهذب.