كيف يفهم المؤرخ أزمة جائحة كورونا؟(إبراهيم القادري بوتشيش)
أحسب أن السؤال المثار ذو طبيعة مركبة، فهو يروم إعادة التفكير في مسؤولية المؤرخ وانخراطه وتفاعله مع قضايا مجتمعه، وعدم بقائه في مقعد المتفرّج أو المراقب عن بعد، ومن ثمّ توسيع مساحات حضوره في الحراك المدني والنقاش المجتمعي، حتى يكون له دور ملحوظ وصوت مسموع في المجتمع، وهي المسؤولية التي دافع عنها بحرارة “مارك بلوك” الأب الروحي لمدرسة الحوليات. كما يسعى السؤال في الوقت ذاته إلى استكشاف آليات الاشتغال المنهجي التي تتيح للمؤرخ بناء رؤية لفهم أزمة جائحة كورونا، وتلمّس خيوط الأجوبة الممكنة، لما يحتمل أن تفرزه من تغيّرات في شكل الخريطة الجيو- سياسية، وما يرتبط بذلك من أسئلة التاريخ الراهن لاستشراف ما يلوح في أفق مستقبل العالم، لأن الأزمات لا تمرّ دون أن تنحت تغيّرات وتقلبات لا في الزمن البشري فحسب، بل أيضا في آليات وطرق التفكير.
تأسيسا على ذلك، فإن بناء محاور الفهم لأزمة جائحة كورونا يحتاج في تقديري إلى ترتيبات نظرية، وإلى تفعيل إجرائي تطبيقي.
- فرضيات وترتيبات نظرية للوقوف على عتبة الفهم الأولي لأزمة جائحة كورونا:
لا أعتقد أن المطلوب من المؤرخ هو الفهم الصحيح لأزمة جائحة كورونا، بل فهم هذا الحدث بطريقة صحيحة، وهو ما يستلزم التأني والتروي والانضباط، ومحاولة التشخيص والتعقل القادر على تفكيك الحدث، وفحص مكوّناته، وتحديد السياقات المؤطرة له، والتعلق بكل آليات الفهم وتشبيكاتها، لفرز الأصوب منها، وتركيب بناء مقبول في التفسير.
إن فهم مثل هذه الأحداث المفصلية في التاريخ، يبدأ – فيما أرجح – بسؤال، وينتهي بتناسل أسئلة أخرى، دون الادعاء بالقدرة على تقديم جواب دقيق مكتمل الأركان، علما أن الفهم يصبح أكثر تعقيدا بالنسبة لحدث من طينة وباء كورونا الذي أحدث شرخا في رتابة مسيرة التاريخ الراهن، وصار لغزا محيّرا. لذلك فإن فهمه او بالأحرى إمكانية فهمه لا يخلو من مطبّات، بسبب اللبس الذي يلفّه، والاستعصاء على اختراق أسواره التي تحجب عن المؤرخ عددا من الحقائق المنظمة لعملية الفهم والإدراك. فالأزمات في التاريخ لا تقدم للمؤرخ معلومات ناضجة ومستوفية، بل غالبا ما تمدّه بمعلومات مبتورة أو مشوهة أو عصيّة على الفهم.
كما أن وباء كوفيد 19 حدث آني بامتياز، لا يزال يتسم بفورانه، ولا تزال لحظاته في طور التشكّل بإيقاع سريع لا يسمح بالمراقبة الدقيقة. لذلك فإن فهمنا لمستغلقاته لن يتجاوز عتبة الفهم الأولي، في انتظار أن ينقشع الضباب، وتتضح الرؤية. ولعلّ أقصى سقف يمكن أن يبلغه المؤرخ في رحلة الفهم هو ما نعته الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط ب” الجرأة على الفهم”، لإدراك الأحداث وتفاعلاتها، وتقديم التشخيص الأولي من أجل فهم أفضل للأزمة، دون الزعم بإمكانية تقديم إجابات دقيقة.
مع ذلك، ثمة محددات أرى أنها تشكّل خيوطا ناظمة لآليات فهم الأزمة، وترتيب خريطة طريق تحليلها:
-أولا: إن هذا الوباء حدث معاش، لا يزال المؤرخ يعيش في قلب حركيته، ويحيا لحظات أهواله بالساعات والدقائق، ويقرأ عن قرب انعكاساته وتأثيراته في وجدان الناس ومشاعرهم، ويتابع عن كثب تطوراته وخرائطه المتغيرة والملتوية أحيانا. لقد وجد المؤرخ نفسه فجأة لصيقا بالحدث، غير مغترب عن الزمن الذي يؤرخ له. إنه حدث لحظي يطرح سؤالا راهنيا على لحظة تاريخية ساخنة، تجعل منه مؤرخا آنيا بامتياز، وكلما كان المؤرخ قريبا من الحدث، كانت مصادره وآليات اشتغاله أكثر وفرة وحظا للفهم.
ثانيا: إن زمن كورونا زمن غير طبيعي، بل يمكن وصفه بأنه زمن غريب، زمن ما فوق المألوف، تغيّرت فيه المفاهيم والسلوكات الطبيعية، وانقلبت فيه المعادلات، حيث ساوى بين الطبقات، وحتى بين الدول، فلم تعد الفوارق بين الدول المصنعة والفقيرة، حيث أصبح الجميع على قدم المساواة في الضعف وقلة الحيلة أمام فيروس دقيق لا يرى بالعين المجردة، مما هزّ اليقينيات والنزعات الوثوقية والمسلمات ومنطق العقل المطلق. ولا ريب أن هذه المعطيات غير المألوفة في مرحلة تاريخية غريبة، يهيّج غريزة الفهم لدى المؤرخ، وينشّط مسالك تفكيره لتفسير ما يحدث.
ثالثا: إن الحجر الصحي الذي يعيشه المؤرخ وغيره من خدام المعرفة هذه الأيام، هو فرصة للتفكّر والتدبّر، فالانعزال والتأمل عادة ما يزيد من طاقة العمق الفكري، ويساهم في إتقان الأسئلة وبنائها بناء سليما، ويحفّز على متابعة الموضوع بدقة، وبعين فاحصة من أجل الفهم وإعادة الفهم. ألم يكن الحجر الصحي الذي خضع له العالم “إسحاق نيوتن” إبان اجتياح وباء الطاعون مدينة لندن سنة 1665، وانعزاله في الريف مدة 18 شهرا فرصة ذهبية اكتشف خلالها أشهر نظرياته العلمية كحساب التفاضل والتكامل وقوانين الحركة والجاذبية كما أكدت ذلك الكاتبة “ميغان جونز” في تقرير نشرته مجلة “ريدرز دايجست” الأميركية-؟.ألم يقدم أشهر الفنانين والمبدعين لوحاتهم الفنية في عزّ أوبئة الطاعون كإدوارد مونش صاحب لوحة “بورتيرية شخصي مع الأنفلونزوا الإسبانية” وسالفاتور روزا وغيرهما، ناهيك عن المسرحيات والأعمال الروائية التي ولدت من رحم أوبئة الطاعون؟ فالحجر المنزلي في هذا السياق يشكل فرصة علمية للمؤرخ تسمح له بالتأمل والتفكير لفهم الوباء وقراءته قراءة تاريخية صاحية وعميقة.
رابعا: إن مراحل الأزمات التي تسبّبها الأوبئة والمجاعات أو الحروب، تؤدي في الغالب الأعم إلى تكسير رتابة التفكير والقيّم الجاهزة، وتجنح نحو إبداع أسئلة جديدة، وابتكار رؤى إضافية تتقوى من خلالها ملكة التفكير والفهم لدى المؤرخ. ولعلّ ما كتبه المؤرخ العربي ابن خلدون في ” المقدمة” والمؤرخ والفيلسوف الإيطالي “جيامباتستا فيكو” في ” أصول العلم الحديث” والمؤرخ الفرنسي “مارك بلوك” في ” مهنة المؤرخ” وغيرهم، قرائن تؤكد ارتباط الأزمة بيقظة عقل المؤرخ، وصقل ملكته الفكرية للفهم.
ويخيل إلينا أن قراءة أزمة كورونا هي قراءة مفتوحة تنتظمها خيوط متشابكة، يمكن أن تتمّ عبر مجموعة من دوائر من الفهم ، وترتب بناء على مجموعة من الفرضيات، منها أن هذا الحدث حدث كوني لا يمكن فهمه إلا في سياق عالمي متصل، أصبح يعرف في قاموس المؤرخين بالتاريخ المتصل Histoire connectée ، وهو ما يمكّن من فهم سرعة انتشار الوباء في جهات العالم الأربع انتشار النار في الهشيم. لذلك فالأمر في تقديري يستدعي فهم الجائحة ضمن منظومة “الزمن العالمي” الذي أصبحت الحضارات تعيش فيه لأول مرة كزمن بشري متزامن على الكرة الأرضية. وأحسب أن هذا المنظور النسقي الكوني يجعلنا نتجاوز الفهم السطحي المبني على قضايا جزئية ومبعثرة …
وتقوم فرضية الفهم الثانية على أساس أن سؤال فهم أزمة كورونا هو سؤال إبستيمولوجي يستدعي استنطاقه منهجيا من خلال مجموعة من المقاربات، منها على سبيل المثال: هل تفهم هذه الأزمة الوبائية كحدث ظرفي؟ أم أنها وليدة بنية تمتد في الزمن الطويل؟ وما علاقتها بالنزيف الديموغرافي الذي تخلفه على مستوى الطاقة البشرية والانكماش الاقتصادي وخراب العمران؟ وهل تندرج ضمن قوانين الحتمية التاريخية التي تفسّر الأحداث الكبرى في سياق إيقاع يسير وفق خطاطة زمنية عالمية تتحكم في مسار وانعطافات التاريخ وفق ما تقول به المدرسة المادية التاريخية؟ أم أن مجرى التاريخ يتغير من وضع لآخر دون أن يخضع لسنن أو قوانين كما ذهب إلى ذلك “بول ريكور”، و”كارل بوبر” اللذان اعتبرا مقولة قوانين التاريخ كبوة معرفية تنافي العلم؟
وفي نفس المنحى، نتساءل حول إمكانية فهم أزمة كورونا من مرجعية السؤال الحضاري انطلاقا من المنظور الخلدوني الذي يعتبر الأوبئة عاملا مفسرا لصعود وسقوط امبراطوريات وحضارات فشلت في السيطرة على الوباء، مما أحدث تحولات تاريخية لم يغفل ابن خلدون وضع إصبعه عليها من خلال سرده خبر وباء الطاعون، واعتباره عاملا حاسما في تحولات التاريخ البشري في القرن 14م كما يتجلى ذلك في كلماته المختصرة والمعبّرة:
((… وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض..، وإذا تبدلت الأحوال جملة، فكأنما تبدل الخلق من أصله، وتحول العالم بأسره، وكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدث، فاحتاج لهذا العهد من يدون أحوال الخليقة والآفاق وأجيالها والعوائد والنحل التي تبدلت لأهلها )) .
فضلا عن ذلك، هل نبني فرضية فهمنا لأزمة كورونا على محكّ السؤال الوجودي؟ خاصة أن الإنسان في زمن الأوبئة يكون على خط التماس بين البقاء والموت، وتكون نفسه في لحظة هروب وشيك من الجسد المحتضر. لذلك يفهم الوباء في هذه الحالة بوصفه خطا رفيعا يفصل بين الفناء والحياة، ومن ثمّ يمكن أن يكون سلطان الخوف من الموت مصدر فهم للمؤرخ، قد يوظفه لأجل الإمساك بمواقف وذهنيات غير مألوفة في السردية التاريخية في الزمن الطبيعي.
في نفس السياق النظري، نتساءل هل يمكن فهم أزمة كورونا في سياق سؤال الأخلاق الذي طرحه “مارك بلوك”، والقاضي بأن مسؤولية المؤرخ التي تفرضها أخلاقية حرفته، تتجلى في البحث عن الحقيقة التي لا تنفصل عن مبدأ الحق والعدالة. والحال أن نظام العولمة المتسيّد اليوم، والقائم على الرأسمالية المتوحشة، غادر كليا دائرة الأخلاق، وآثر الربح على صحة البشر، وفرض تنميطا ثقافيا سعى من خلاله إلى طمس القيّم الإنسانية التي شيّدتها الحضارات السابقة. ومن قلب هذه الدائرة اللاأخلاقية يتم تدفق المعلومات حول أزمة جائحة كورونا، وبالتالي يصبح فهم المؤرخ لهذه الأزمة يدور في حلقة صراع الخير والشر.
وعلى المستوى المنهجي، نرى أن لكل زمن سلطته المعرفية التي تنتج الخيوط الناظمة للفهم. وقد جاء وباء كورونا في زمن تحوّلت فيه الثقافة إلى ثقافة رقمية توجهها تكنولوجيا المعرفة، واقتصاد المعرفة، ثم مجتمع المعرفة، ما يجعل العالم يتكلم بلغة جديدة ينبغي للمؤرخ استحضارها في آليات اشتغاله لإنتاج فهم أفضل لأزمة كورونا الحالية. لذلك عندما نقوم بفحص دور المؤرخ في فهم الأزمة على ضوء منظور مدرسة الحوليات الذي تأسس في مرحلة ثلاثينيات القرن الماضي، لا يمكن إلا أن يكون فهمنا قاصرا رغم أهمية منهج مدرسة الحوليات في استقصاء دور المؤرخ في فهم الأزمات، لأن العالم كائن متحرك دائم التغيير، يتجدد باستمرار، خاصة بعد أن تمّ الانتقال في ظلّ الجغرافيا الاتصالية (الكونكتوجرافيا Connectography) من المفهوم التقليدي للحضارات والدول القائم على قاعدة الحدود، إلى حضارة الشبكات العالمية القائمة على بنيات الاتصال وسلاسل التوريد التي توحّد الشعوب، وتضمن السيولة الاقتصادية انطلاقا من القوة الناعمة القائمة على الاتصال والتواصل والاستيعاب، بدل الاحتلال العسكري التقليدي الذي ساد في القرن الماضي، وهو ما يعكسه نموذج طريق الحرير الصيني الرابط بين شنغهاي ولشبونة. وأحسب أن المؤرخ لا يمكن أن يغفل هذا التحول العميق في عملية الفهم والبناء لفهم الأحداث التاريخية وضمنها أزمة كورونا الحالية.
2-على مستوى الأجرأة:
لا يتأتى فهم وإدراك أزمة كورونا اعتمادا على الخلفيات النظرية فحسب، بل يستدعي تدخّل المؤرخ لتطعيمها بإجراءات تطبيقية. ومن بين النماذج التي تحتاج إلى الأجرأة والتطبيق إعادة قراءة النصوص الخاصة بالجوائح والأوبئة، لاستخراج دلالات الفهم لبعض الظواهر المصاحبة للأزمة مثل ثقافة التضامن. فاستعادة الذاكرة التاريخية لقيّم التآزر والتلاحم، قمين برفع منسوب السلوك القيّمي داخل المجتمعات في مواجهة هذه الأزمة، ورسم الخطوط الأولية لنظام القول في مواجهة الوباء.
كما أن العودة إلى التراث مهم للفهم، وهي قاعدة سبق أن أثارها ” جورح هانز غادامير” في كتابه ” الحقيقة والمنهج”، وجعلها بمثابة بوصلة مرشدة للفهم (براديغم). فأي باحث – كما يؤكد- لا يستطيع الفهم، دون الاعتماد على إدراك مسبق لما يودّ فهمه؛ وبالتالي يتأسس فهم ظاهرة الأوبئة وما يتمخض عنها من أزمات- فيما نرى- من التصورات التي يستنبطها المؤرخ انطلاقا من المرجعية التراثية.
وفي هذا المنحى، لا يمكن إنكار ما يتيحه النبش في التراث من إمكانية استكشاف ما يزخر به من إسهامات وتجارب للوقاية من الأوبئة كالحجر الصحي الذي عاشه المغاربة كغيرهم من الشعوب في بعض مراحل تاريخهم، والكمامات التي ثبت استعمالها في الأندلس، وقاعدة التباعد الاجتماعي التي أثبتت الأبحاث وجودها ضمن التنزيلات الطبية التي نهجها ابن سينا، وغيرها من الابتكارات التي من شأنها أن تطور فهم المؤرخ لمختلف وسائل الوقاية من الأوبئة، والتي توصي بها حاليا منظمة الصحة العالمية، مما يجعل الماضي زمنا يعيش في قلب الحاضر.
وفي سياق الإجراءات التطبيقية التي تشحذ فكر المؤرخ لفهم وإدراك أزمة كورونا، نحسب أنه ليس ثمة آلية إجرائية لفهم هذه الأزمة أكثر من إنصات المؤرخ إلى نبضات المجتمع في هذه اللحظة الفارقة، لأن في عملية الفهم تصبح كينونة الإنسان المبحوث عنه وعن تاريخه الداخلي (الأفكار والمشاعر والتمثلات) في عمق اهتمامات المؤرخ، وذلك من خلال متابعته لأحوال الناس ممن تعرضوا للبطالة أو أقفلت محلات بيعهم، وتشخيص عملية التعليم عن بعد بإيجابياتها وسلبياتها، ورصد المواضيع الساخرة التي واكبت كورونا، وكافة أنماط الفعل التي تظهر في شكل قولي أو غير قولي، وكل ما يندرج في ما يسميه بول ريكور ب” حضارة الكلام”، والتقاط هذه المشاهد بدقة، لأنها تحمل رسائل بلاغية تعبّر عن مواقف وذهنيات تجاه وباء كورونا، وتحتاج إلى تخزين فوري لذاكرة جماعية بالصوت والصورة، تستثمر في مرحلة التحليل والتفسير. وبنفس القدر، ينبغي أن يستغلّ كل ما ورد من معطيات وتدوينات في منصات التواصل الاجتماعي وغيرها من الوسائل التقنية لأنها مكتبات حية تساعد على تخصيب مادته التاريخية وتخزينها تمهيدا لفهم هذه الأزمة.
قد تكون أجرأة بعض هذه التطبيقات تستلزم بحوثا ميدانية على عينة من الأفراد من خلال ما يعرف “بالوصف المكثف” Thick description، اعتمادا على وجهات النظر التي يعبّر عنها المواطنون في تفاعلهم الاجتماعي مع هذه الجائحة. بيد أن البحوث الميدانية متعذرة اليوم بسبب الحجر المنزلي، لكن يمكن تعويضها بالوسائل التكنولوجية الحديثة والإمكانيات الوسائطية المتاحة عبر تطبيقات الحواسيب المتطورة والهواتف الذكية.
وبالمثل، فإن فهم المؤرخ لجائحة كورونا يعتمد في جانبه التطبيقي أيضا على المصادر الأساسية من إحصائيات ومؤشرات الأمن الصحي العالمي(GHS index) بالإضافة إلى الدراسات والأفكار التي طرحها المتخصصون والمفكرون الذين استطلعت آراؤهم حول هذه الجائحة، وتوظيف كل هذه المعطيات وفق منهج استقرائي.
وأخيرا يبدو لي أن فهم المؤرخ لأزمة جائحة كورونا لا يكتمل من دون محاولة استشراف المستقبل، إذ لا يمكن فهم هذه الأزمة بمعزل عن معرفة تداعياتها واحتمالاتها وتفاعلاتها عالميا، والتفكير مستقبلا بعقل جماعي تشاركي تبادلي. ومن هنا يمكن التخطيط لتكوين مختبرات جامعية تكون متخصصة في تاريخ الأوبئة، على أن يشارك فيها متخصصون في الطب، لأن ذلك يساهم في فهم تاريخ الأوبئة من زاوية طبية. كما يمكن لعلم النفس والسوسيولوجيا وغيرها من حقول المعرفة أن تقدم إضاءات وأشعة جديدة في الموضوع، تصبح فيها الحقول المعرفية المتنوعة سوقا مشتركة.
كما يستدعي التفكير مستقبلا في الرفع من جودة الفهم والإدراك، تكوين مؤرخ مفكر ومرقمن. وإذا كنا قد طرحنا هذه الفكرة منذ عشرين سنة خلت في كتابنا “مستقبل الكتابة التاريخية في عصر العولمة والإنترنيت”، فقد أثبتت الأزمة الحالية أن فهم كورونا وفهم ما سيتبعها من أحداث تاريخية كبرى، تتطلب مؤرخا متكيّفا مع عالم جديد، عالم لم يعد يعتمد على المادة كرأسمال، بل على الافكار الرقمية والبرامج المرقمنة التي بدونها ينخفض منسوب الفهم. وهذا ما يساعد على الرفع من قيمة التاريخ، وتسويق إنتاجه، ويسمح للمؤرخ بموطأ قدم بين المفكرين والمتدخلين في الشأن العام، بدل أن يبقى على قارعة الطريق.