لماذا كل هذا الإصرار على فَرنسَة المجتمع؟ (عبد العلي الودغيري)
أصابنا القرف من كثرة القول والتكرار بأن المشكل ليس في الفرنسية ولا في أية لغة نتعلّمها ونحثّ على تعلّمها لغاية علمية أو لغايات أخرى كثيرة، ولكن المشكل في فَرْنَسة المجتمع كله بفئاته المختلفة المحتاج منه لهذه اللغة وغيرِ المحتاج، حتى الفَحّام أو الطرَّاف الموجود داخل زقاق ضيِّق في حي بعيد أو قديم لا يصله أحد من الأجانب، قد تجد على مدخل حانوته لافتة بالفرنسية، وفي جيبه بطاقة زيارة بالفرنسية أيضًا. فما بالك بالمقاهي والمطاعم والمتاجر والملاهي والملاعب والشركات والإدارات والبنوك والفنادق واللافتات المعلقات على الواجهات ومداخل كل المرافق والقطاعات العامة والخاصة. ليست هناك إدارة أو مصلحة أو مؤسسة رسمية أو غير رسمية عامة أو خاصة، إلا وعلى بابها لافتة بالفرنسية، وليس منها إلا مصرّ على التعامل بالفرنسية. ما هذه الحُمّى التي تجتاح المجتمع؟ ما الحاجة لكل هذا؟ ما الضرورة الداعية إليه؟ ما الذي يقف وراء كل ذلك؟ لماذا ينساق الجميع انسياق القطيع مع هذا التيار الجارف الذي لا تجد له أيّ معنى ولا تفسير سوى أن يكون هناك مخطط مدروس وممنهَج يعمل على نخر المجتمع كله من الداخل، وإعادة تشكيله بمكوّنات ذهنية وثقافية لا تمتّ لواقعه وتاريخه بشيء؟ هل استعمال الفرنسية في كل صغيرة وكبيرة من حياة الناس، في جِدّهم وهَزْلِهم، حُمقهم وسخافاتهم، هو الذي يجعلنا مجتمعًا متقدِّما ومتحضِّرًا؟
لا نجد في الدستور المكتوب أو غيره من قوانين الدولة ما ينصّ على أن الفرنسية لغة رسمية أو وطنية للبلاد، ولكن الدستور غير المكتوب الذي تعاقدت عليه فرنسا مع الذين تسلّموا منها (العُهدة) وزمام (الاستقلال) المزيَّف، باسم الوطن والوطنية، هو الذي ينص بالفعل ـــ وقد أثبت الواقع ذلك ـــ على أن هذه اللغة يجب أن تُعامل معاملة ما فوق الرسمية والوطنية وكل التعبيرات الأخرى، وأن تُنشَر على أوسع نطاق، وتُرفَع رايتُها فوق كل البنايات، ويُحقَن بها كلُّ عضو في جسم المجتمع، بما يُعرَف ولا يُعرَف من الوسائل الممكنة والمفترَضة، بالمدرسة والجامعة والإعلام والإشهار والترغيب والترهيب، وبالعمل الدؤوب والإصرار المتواصل، عامًا بعد عام، وجيلاً بعد جيل، حتى تمَّ لهم ما أرادوا. والورشُ ما زال مفتوحًا، والإصرارُ ما زال قويّا، بل هو أضخم وأشد شراسةً وافتراسًا من الصورة التي تخيّلوها لذلك الوحش الذي زرعوه في واقعنا المفتون الممزَّق.
لقد احتلت فرنسا بلادنا لمدة لا تزيد عن ثلاثة وأربعين عامًا وحين خرجت لم يكن عدد مستعملي الفرنسية ذا بال، لأن الأمر كان محصورًا في طائفة من الموظفين والأطر التقنية ذات التكوين الفرنسي ولم يكن عددهم كبيرا. ولكن الذين تسلَّموا منها المفاتيح، وتصدّروا الواجهة حين قرّرت التواري قليلا في جانب من المسرح، هم الذين جعلوا من أنفسهم أدواتٍ ذكيّة وناعمة لتنفيذ رغبتها وتطبيق مخططاتها وسياستها اللغوية بأفضلَ مما كانت تستطيع فعلَه بأيديها وحضورها، ومن غير أن تظهر في الصورة. هم الذين حوّلوا البلاد حقّا من بلد مستقل إلى بلد محتل لغويا وثقافيّا، سواء منهم الذين مارسوا دورَهم عن قصد ونية خبيثة وسبق إصرار، أم الذين استُعمِلوا استعمالَ الكراكيز تُحرَّك خيوطُها من وراء الستار.