المقالات

لماذا يعاني القادة من الرؤية المشوشة: في الحاجة إلى بناء وعي تاريخي(إدريس أوهلال)

دعونا أولا نتساءل: ما التاريخ؟ قبل الحديث عن الوعي المضاف إليه.

التاريخ هو ذاكرة العالم، التي تختزن مجموع الأحداث التي نفتخر بها والأحداث التي كان بالإمكان تجنبها.. ذاكرة قوية لتجارب النجاح والفشل لمن أراد أن يتذكر.
والتاريخ ليس ذاكرة فقط، بل هو الحاضر أيضا.. الحاضر الكبير الذي يوجد في كل مكان وفي كل شيء؛ في الهندسة العمرانية وتنظيم المدينة واللغة واللباس والعادات والقانون والفقه… في كل شيء.. فالفقه مثلا بعضه فتاوى محكومة بظروف تاريخية وبعضه عادات المجتمعات الشرقية والباقي فقه.. إن قراءة التاريخ الاجتماعي للفقه تجعلنا نُميز بدقة ووضوح بين الفقه والتاريخ.. بين القوانين الكونية وقوانين قبيلتنا.. في كل شيء يوجد ثقل تاريخي في حالة استصحاب، وإذا أردت أن تفهم حقيقة أي شيء فاقرأ تاريخه.
وللعالم تواريخ لا تاريخ واحد: تاريخ الأشخاص وتاريخ الأحداث وتاريخ الأفكار، التاريخ الرسمي والتاريخ غير الرسمي، التاريخ المُزَوّر والتاريخ الحقيقي… تواريخ لكل منها خصوصية؛ فتاريخ الشعوب مثلا هو تاريخ نضالها ضد الاستبداد، وتاريخ الدول هو تاريخ ملوكها ورؤسائها، وتاريخ التجارة هو تاريخ التواصل بين الدول والشعوب، تاريخ الصناعة هو تاريخ تجلي القدرات البشرية.

والتاريخ أقسى معلم، خاصة مع الذين يعيشون خارجه.. من لا وعي له بالتاريخ يعيش مطرودا خارجه، ومن لا يعرف التاريخ ودروسه محكوم عليه أن يعيش أحداثه مرتين على الأقل، والجيل الذي يجهل التاريخ لا ماضي له ولا مستقبل. إن قراءة التاريخ ونقده هي أفضل وسيلة للتحرر من ثقل الماضي والاستفادة من دروس التجربة وفهم الحاضر والاستعداد للمستقبل.. من يقرأ التاريخ ودروسه يتعلم مرتين: من نجاحات الناجحين ومن فشل الفاشلين، ودروس الفشل أبلغ معنى وأعمق أثراً من دروس النجاح.

وللتاريخ دور آخر، ينضاف إلى دور المُعَلِّم، هو دور البَنَّاء، فهو يبني الوجود الإنساني ويُشَكِّله؛ فالوجود الإنساني له أبعاد متعددة: سياسي، اقتصادي، اجتماعي، تاريخي… وكل بعد منها يفترض وعياً خاصاً، وهذا الوعي هو وسيلة الفرد والجماعة والأمة لبناء البعد المقابل له. نحتاج إلى الوعي السياسي لبناء البعد السياسي في حياتنا، وإلى الوعي الاجتماعي لبناء البعد الاجتماعي في حياتنا… وهكذا فالوعي التاريخي هو وسيلتنا الأساسية لبناء البعد التاريخي لوجودنا، وبدون الوعي التاريخي يتقلص وجودنا إلى المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لا أكثر.

هذا هو التاريخ وهذه أهميته، فما الوعي التاريخي؟
يبدأ الوعي بسيطاً وأولياً، ثم إذا كُتب له أن ينمو ويتطور، يتقلب في أطوار من النمو ليصبح وعياً تاريخياً وفق سُلّم نضج الوعي الآتي:

اللاوعي، هنا الغياب المطلق لأي شكل من أشكال الوعي.. وهنا يتطابق نمط وجود الإنسان مع نمط وجود الحيوان، لأن الفرق الأساس بينهما هو الوعي. وصناع اللاوعي بارعون في إبقاء الناس أكثر الناس في هذا القاع.

الوعي المعاشي، يقابله زمن المعيش اليومي، هنا أدنى مستويات الوعي.. وهو لحظي منحصر في حدود الحرائق اليومية والانشغال بخصوصيات الأشخاص والأحداث.

الوعي السياسي، يقابله الزمن السياسي القائم على دورات من أربع أو ست سنوات.. هو وعي بالسلطة في حدودها السياسية، أي سلطة الخيل والبغال والحمير، المُرَوّضة منها والمتوحشة، الذين يعتقدون في غيبوبة سعيدة أنهم يمتلكون سلطة، أو واعون بحدود سلطتهم وباللعبة وقواعدها، فيقومون بالأدوار المرسومة لهم ويعملون على قضاء مصالحهم الشخصية ثم يرحلون.

الوعي الاجتماعي، يقابله الزمن الاجتماعي، زمن يمتد فيه التغيير والوعي به لجيل أو بضعة أجيال ثم يتوقف الوعي. وهو نوعان وعي باللعبة وقواعدها الخاصة بحقل معين، ووعي اجتماعي أوسع وأشمل عابر للحقول.. إنه وعي بأفق محدود بحدود جيل أو بضعة أجيال لا أكثر في أحسن حالاته، ومزبلة التاريخ مليئة بهذا النوع من المشاريع غير العابرة للأجيال.

الوعي التاريخي هو الوعي الذي نحصل عليه عندما نرى الأشياء والأحداث والأفكار من أعالي التاريخ لا من أسافل الأحداث، وهو الوعي الذي يمتزج بالإرادة الجماعية الحرة العابرة للأجيال.. لا شيء في هذا العالم أقوى من اجتماع الوعي التاريخي والإرادة الحرة والقدرة الكافية والمشروع العابر للأجيال في “أمة” يتقن أفرادها التفكير كمهاجرين والتحرك كمهاجرين. وفي المقابل لا شيء أضعف من مشروع يزعم أنه تاريخي لكن أسلحته في المواجهة سياسية فقط.

إن الوعي التاريخي هو وعي مُركّب، بل على درجة كبيرة من التركيب والتعقيد، إنه أكثر أشكال الوعي

تركيباً وتعقيداً لتعدد أبعاده وتداخلها، وهي من حيث المبدأ خمسة أبعاد:
1- وعي بدروس التاريخ وبالعود الأبدي لنفس دروس التاريخ! التاريخ لا يُعيد نفسه إلا في حالتين: عندنا يُعيد الماكرون استخدام استراتيجيات سابقة ثَبَتَ نجاحها، أو عندما يُعيد الطيبون استخدام استراتيجيات سابقة ثَبَتَ فشلها. الطيبون لا يتعلّمون أبداً ويُكَرّرون أخطاءهم في عود أبدي لنفس تجارب الفشل!
2- وعي بأزمات الحاضر والمسؤولية تجاه هذه الأزمات. إن الأزمات هي الشرط الثاني لانبثاق الوعي التاريخي، وهي اللحظات التاريخية اللازمة لحدوث التغيير النوعي. والعلماء يعرفون جيدا دور الأزمات الجيولوجية والبيولوجية والاجتماعية في ظهور الأشكال الجديدة للوجود والحياة. في مجال الكون والطبيعة نحتاج إلى انتظار ملايين السنوات لنحظى بفرصة أزمة طبيعية. وفي مجال المجتمع وحياة الأمم والشعوب نحتاج إلى انتظار مئات السنين لنحظى بفرصة أزمة اجتماعية. إن الأزمات هي العلامات التاريخية الدالة على نهاية دورة تاريخية وبداية دورة جديدة. إن الأزمة فرصة لانبثاق الوعي وحدوث التغيير.
3- وعي بمحركات التاريخ وغاياته. لكل حركة مُحركات، ولحركة التاريخ محركات أساسية أهمها: المكان والواقع والسلطة والروح والعقل والغريزة والإرادة والزمن. ولكل حركة غاية، ولحركة التاريخ غايات تسير إليها أهمها: التقدم أو الانحطاط أو الدورة الأبدية. والوعي بمحركات التاريخ وغاياته هو البعد الثالث للوعي التاريخي.
4- وعي بما يجب القيام به لاستدامة الوجود وتطوير سبل الحماية والبقاء. الوعي التاريخي هو أيضا وعي بالحركة والتغيير والتحول وتعاقب ظواهر الحياة والموت، وهنا ينبثق الوعي بتجربة الصراع من أجل البقاء. ويتجه نحو البحث عن مقومات الوجود العابر للأجيال.
5- وعي بنسبية المعرفة وارتهانها للعوامل الاجتماعية والتاريخية لنشأتها. إن الوعي التاريخي يُتيح لنا تنسيب المعرفة؛ فما ننتجه في كل عصر من معارف محدود بحدود ما نملك من أدوات إنتاج المعرفة، وبالعوامل السياسية والاجتماعية والأخلاقية لإنتاجها، أي لكل عصر سقف للحقيقة لا يمكن تجاوزه. لقد كان أرسطو أكثر عبقرية من فرانسيس بيكون، لكن بيكون أدرك من المعرفة والحقيقة ما لم يدركه أرسطو، والفضل في ذلك لا يرجع إلى عبقريته وإنما إلى ظروفه التاريخية التي سمحت له بإنتاج معرفة لم تسمح ظروف أرسطو التاريخية بإنتاجها. إن قصر النظر تجاه التاريخ الاجتماعي لا يساعد على بناء الوعي التاريخي، ويستحيل أن يكون فقهنا للأشياء عميقاً بدون التاريخ.. وحده التاريخ يقدم لنا أفضل الإجابات.. ففقه الشيء وتاريخه وجهان لعملة واحدة، وفقه بدون تاريخه الاجتماعي هو أطول طريق نحو القصور المعرفي.

من بين كل تمارين الوعي (الوعي السياسي، الوعي الاجتماعي، الوعي الاقتصادي، الوعي البيئي، الوعي التنظيمي…)، يعتبر الوعي التاريخي هو أكثر التمارين فائدة وفعالية خاصة لأصحاب المشاريع الكبيرة والعابرة للأجيال، والبديل عنه هو أشكال الوعي الأخرى، وهي على أهميتها أقل مرتبة وشمولية وفعالية من الوعي التاريخي.. فالوعي السياسي مثلا أقل فعالية من الوعي التاريخي لأن السياسة تتقبل الفشل، لكن التاريخ لا يتسامح معه.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق