المقالات

لماذا يمر الوقت بسرعة؟* فرانسوا لاسان ،جيل مارشان ترجمة:(شوقي المقري)

إذا كان الزمن ظاهرة يقيسها الفيزيائيون، فهو أيضا إحساس يخضع له كل واحد منا. ذلك أن العلوم العصبية neurosciences أخذت تميط اللثام عن حضور الزمن فينا، إلى درجة أنها أصبحت تقدم تفسيرات حول السبب الذي يجعلنا نعتقد أن الزمن صار يجري، على مر الأيام، بسرعة أكبر.

                          ****************

“لا يوجد هناك زمن !” هذه هي الخلاصة المعاكسة للبديهة، والتي خلصت إليها إحدى التجارب الفيزيائية الكمية الغربية، سنة 2003. آنذاك، بدا لنا هذا الإعلان مثيرا، لدرجة أننا قررنا أن نضعه في الصفحة الأولى لمجلتنا Science et vie   (انظر العدد 1024). وبعد مرور سبعة أعوام لم تتغير الأمور، حيث إن جزءا صغيرا جدا من الوقت لم يعد موجودا. وخلال هذه المليارديمات من الثواني، لم يتمكن الفيزيائيون، أثناء مراقبتهم للضوئيات photons، من الحديث عن الظاهرة التي تحدث “قبل” الظاهرة الأخرى أو “بعدها”. لنخلص بالتالي إلى أنه في بعض الظروف التجريبية، تحصل بعض الأشياء، ولكن الوقت لا يمر.

هذه الغرابة تختص بقوانين الفيزياء الكمية، ويصعب فهمها،قبليا، في عالمنا الطبيعي الذي تصل إليه حواسنا. كل هذا يجعلنا نطرح السؤال التالي: أليس الوقت مجرد وهم؟ إذا كانت المسألة ما تزال تثير الخلاف داخل الحقل الفلسفي، فإن العلم لم يتمكن من الإجابة عن هذا السؤال إلى يوم الناس هذا … ولكن العلم لديه مبدأ يقول: يوجد الزمن، عندما يكون بإمكاننا قياسه.

لقد تمكن الإنسان، منذ اكتشاف الساعة المائيةclepsydre  حتى ظهور الساعات التي تقدر الزمن بالأشعة horloge atomique، من أن  يجعل من الوقت سلسلة متتالية من المقادير الصغيرة جدا، مما يسمح له بأن يملي المدد الزمنية على الظواهر. هكذا يمكننا أن نعلم أن الدورة : (ليل- نهار) تدوم أربعا وعشرين ساعة، وأن  الضوء يقطع مسافة 300.000 كلم في الثانية…إلخ. ذلك أن هذه السيطرة المتنامية على قياس الزمن، صارت  تشوش على مجموع التمثلات. فالوقت، وهو المقدار الذي كنا نقيسه عالميا(الدقيقة في باريس  ليست أطول من الدقيقة في نيودلهي)، صار مع إنشتاين مفهوما نسبيا. ذلك أن القياسات الدقيقة جدا أكدت النتائج التي توصلت إليها نظرية النسبية: فالساعتان لا تعدان نفس العدد من الثواني، حيث تبتعد إحداهما عن الأخرى، أو تتقاربان.

  ما هو الزمن الذي ندركه؟

إن “تحريف” الزمن يظل ،على غرار “تواري” الزمن الذي نلاحظه في العالم الكمي، صعب الإدراك على حواسنا، إلا إذا تحركنا بسرعة قريبة من سرعة الضوء. في مثل هذه الظروف، ما هو الزمن الذي ندركه إذن؟

إن الأمر يتعلق، بالتأكيد، بظاهرة ندركها بشكل فردي، ولكن مع هذه الخصيصة التي مفادها أن الوقت الذي لا يمر داخل ذواتنا، بمثل الانتظام الذي يميز ذرات الرمل: إنه أيضا نسبي. ولعل كل واحد منا جرب ذلك : فالساعات أحيانا، تطول، وأحيانا أخرى تمر بسرعة، من دون أن نرى أن الزمن ينقضي. فلكأن الوقت يمر بوجه مخالف بالنسبة للأفراد. فالبعض ليس بحاجة إلى ساعة يدوية لمعرفة الوقت، بينما يفاجأ البعض الآخر، دائما، بأن الوقت يمضي بسرعة كلما نظر إلى الساعة. فهل يمكن أن يكون الوقت ذاتيا بصورة مطلقة؟  وهل يمكن أن نقول “لكل أذواقه، وألوانه ….ووقته” ؟

لن نتعجل في الإجابة عن هذه الأسئلة. ذلك أن اعتبار مرور الوقت إذا كان يفضي إلى نتائج تختلف من فرد لآخر، فإنه يتعلق بمبدأين يشترك فيهما كل من بدأت هويته تتحقق.

المبدأ الأول: يستطيع دماغ الإنسان أن يحقق دقة موضوعية كبيرة، عندما يكون عليه أن يحدد المدة التي تستغرقها ظاهرة ما.

المبدأ الثاني: هذه القدرة تتسم بالهشاشة. فهي تكون قوية كلما أولينا الاهتمام للوقت، ولكنها تضعف كلما أهملنا الوقت، وكلما صار الدماغ مشغولا بجهود الاستدلال أو الانفعال… أو خضع الدماغ إلى تغييرات نتيجة عامل السن.

إن هذه القوانين لم تقل بها قوانين الفيزياء، ولكنها الملاحظة الدقيقة لسلوكنا تجاه الوقت، والتي تتم داخل مختبرات علم النفس التجريبي، إضافة إلى التقدم الذي عرفته العلوم العصبية مؤخرا؛ حيث صارت تكشف، شيئا فشيئا، عن الدواليب الدماغية للمؤقٍّت الإنساني horloge humaine.

إن هذا المؤقت يشتغل وفق آلية مضبوطة، ذلك أن النشاط الكهربائي لبعض الخلايا العصبية neurones يبدأ خلال جُزيء صغير من الثانية، ويمتد بالنسبة لخلايا أخرى، خلال ثوان عديدة. والكل ينتظم وفق توزيع دقيق .

إن بعض الأفعال التي نقوم بها، والتي تكتسي أهمية في حياتنا، كأن نمشي،أو نمسك بشيء متحرك، أو نناقش، أو نجري على استدلال معين: هذه الأفعال لا يمكن أن تتم إلا إذا أدركنا مرور الوقت وفق مقاييس مختلفة، بدءا من بعض الميلي الثواني millisecondes، وصولا إلى عدة دقائق، إن لم نقل عدة ساعات.

كرنومترات عقلية

هل نتوفر على تشكيلة تامة من “الكرنومترات العقلية” التي يعد بعضها مطابقا للدقائق، وبعضها الآخر للساعات، وبعضها للسنوات؟

يمكن أن نجيب عن ذلك، ولو جزئيا، بنعم. ولكن هذا يهم الأزمنة القصيرة جدا، والأصغر من ثانية أو ثانيتين، والتي يبدو أن بعض مناطق الدماغ “تعدها”، بصورة خاصة . فإذا جاوزنا هذه الأزمنة القصيرة جدا، فإن الأمور تجري وكأن نفس الآلية الدماغية المشتركة مع “الكرنومتر العقلي” تخدمنا في الكثير من الأزمنة… عند تغيير الإيقاع، ووفق ما نشعر به من انفعالات، ووفق المجهود البدني والعقلي الذي نبذله، ووفق السن أيضا. وعندما يتقدم عمر الإنسان بهذه الطريقة الخاصة، يظهر أن مرور الوقت يتطور في اتجاه أحادي: إنه يتم بوتيرة سريعة… ما هو السبب إذن؟

إن هذا السؤال ما زال يطرح إلى يوم الناس هذا. فعندما كتب عالم النفس الأمريكي ويليام William James يقول “يبدو أن نفس المدة الزمنية تتقلص كلما تقدمنا في السن”، فإن هذا هو نفس ما ذهب إليه العلماء من أن المرء كلما طعن في السن، صار الردح من الزمن( والمكون من أشهر معدودات، أو سنوات)، يمثل جزءا صغيرا من عمره. ولذلك، فإن الأشهر المعدودات، أو السنون تمثل مقادير زمنية قليلة الأهمية…،ويبدو،إذن، أنها تمر بسرعة. ثم إن هناك تفسيرا آخر: إذا أخذنا بالاعتبار أن الأحداث الجديدة تصير، انطلاقا من سن معينة، نادرة الوقوع، وأن تكرار التجارب المعلومة يصير كثير الوقوع( تبضع، لقاء مع أصدقاء قدامى، احتفال بعيد الميلاد)، فستكون النتيجة أن السنين تتشابه، ويتوالى بعضها وراء بعض، من دون أن تكتسب إحداها “وزنا” معتبرا في الذاكرة… مما يعطي الانطباع أن سيل الوقت ينساب بسرعة، لدرجة أن لا شيئا بارزا يمكن أن يعيقه.

تجارب للإثبات

إن هذين التفسيرين مازالا يروجان إلى يوم الناس هذا، وقد جاءت بعض التجارب لتثبت ذلك. فلقد قامت عالمتا النفس سوزان فينش Finch Suzane، وليندا برينغ Linda Pring(جامعة لندن)، منذ عشر سنين، بمقاربة الطريقة التي يؤرخ بها فريقان من البالغين( الفريق الأول تبلغ أعمارهم 39 سنة، أما الثاني فتبلغ أعمارهم 67 سنة) عشرين حدثا: كلها وقعت في الماضي، ونشرت في الصفحات الأولى  من الجرائد البريطانية بين سنتي 1977 و 1989( انفجار المكوك الفضائي شالنجر، سقوط جدار برلين…). النتيجة كانت أن كبار السن يموضعون الأحداث أبعد في الزمن من تاريخها  الحقيقي، وكأن لديهم الانطباع بأن سنين عديدة مرت منذ حصول كل حدث من الأحداث المشار إليها في اللائحة المقترحة. بوجه آخر: كأن زمن هؤلاء الأفراد يمضي بسرعة، مع استثناء وحيد، هو أن هاتين الباحثتين تجنبتا الحديث عن هذه الخلاصة. فقد أشارتا، بكل تواضع، بأن النتائج التي توصلتا إليها “يمكن أن تساعد على تفسير كيف أن الوقت يبدو أنه يمر بسرعة، كلما تقدمنا في السن”.

هذا الاحتراس يمكن تفهمه؛ ذلك أن التجربة المعاكسة يمكن أن تتوصل إلى نفس النتيجة: شخص يرى في الحدث الذي مر عليه خمس سنوات، أنه لم يقع إلا منذ سنتين( فهو يرى، إذن، خلاف ما تراه المجموعة الثانية محط البحث)، وأن هناك فرصا كبيرة من أن هذا الشخ لمّا يعي خطأه، سيدهش من أن الوقت يمر، فعلا، بسرعة …

كيف نتفادى هذا النوع من اللبس؟

إن الباحثين المتخصصين في علم النفس التجريبي يمتلكون هامشا للتصرف: إنهم لا يعنون بسرعة الوقت، كما تدرك بها هذه السرعة استعاديا(وهو ما فعلته تجربة الباحثين اللندنيين)، ولكنهم يعنون بسرعة الوقت كما تدرك في الحال.

هل يسرع الوقت؟

للإجابة على ذلك، يكفي أن نطلب من بعض الأشخاص أن يقدروا المدة التي تستغرقها بعض المنبهات(أصوات، صور معروضة على شاشات….)، على أن مقارنة هذه المدد الذاتية بالمدة الموضوعية للمنبهات(وهي التي يدل عليها الكرنومتر) تشير، حينئذ، إلى السرعة التي يستغرقها مرور الوقت، كما يدركها كل فرد خلال التجربة. أما سلبيات هذا المنهج، فهو أنه يعنى بإدراك “تشكيلات” من الوقت، لا تتعدى دقائق معدودة. وأما مزاياه، فهو أن الباحثين  يعلمون بالضبط ماذا يقيسون.

إن هذا المنهج هو الذي مكن بيتر مانغان Peter Mangan( أستاذ علم النفس بجامعة أريزونا الشمالية) من إبداء ملاحظة هامة عام 1996. فقد طلب من مجموعتين من المتطوعين(المجموعة الأولى تتراوح أعمارهم ما بين 19 و 25 عاما. أما الثانية فتتراوح أعمارهم ما بين 60 و 80 عاما) من “إحداث” مدة زمنية من ثلاث دقائق: بعد أن يعلن الكرنومتر بدء العملية، سيكون على المتطوعين الذين يمنع عليهم عدُّ الثواني أن يقولوا فقط :نعم، عندما يشعرون بأن الدقائق الثلاثة قد تكون انقضت. لقد تبين، في المتوسط، بأن الأفراد الأصغر سنا أوقفوا الكرنومتر بعد ثلاث دقائق وثلاث ثوان. أما الأفراد الأكبر سنا فقد تركوا الوقت يمر أكثر مما ينبغي، بأربعين ثانية ! ومنذ ذلك الحين، تابع الباحث الأمريكي هذه التجربة مرات عديدة، لدرجة أنه يؤكد اليوم أنه »عندما نطعن في السن، فإننا ندرك الوقت بشكل سريع. وكلما تقدمنا في السن، فإننا ننحو إلى عدم اعتبار المدد الزمنية التي مضت”. وهي خلاصة نخلص إليها عبر تمرين منطقي: يرى بيتر مانغان أن الوقت إذا كان يمر بسرعة بالنسبة لكبار السن، فإن مقدار الوقت الذي “يشعرون بأنه يمر” خلال مدة معينة، هو أصغر من ذاك الذي يعده الكرنومتر …، أو من  مقدار الوقت عند الأفراد الأصغر سنا. فعندما يفرغ بعض الشباب من شيء ما، سيتعجب كبار السن من انقضاء الوقت بهذه السرعة ! وسيشعرون، بالتالي، بأن الوقت مر بسرعة.

عمر الإنسان يعدل الإدراك

إلا أنه في واقع الأمر، تبدو العلاقات بين تقدير الوقت وعمر الإنسان أكثر تعقيدا. فالأفراد المسنون يقللون من تقدير الوقت أحيانا، ولكن لا يفعلون دائما نفس الشيء. فالأمر يتعلق بالوضعية التي يوجد عليها هؤلاء. لذلك يعتقد جون ويردن Jhon Wearden(أستاذ علم النفس بجامعة كيل بالمملكة المتحدة) أن “مسألة معرفة لماذا يبدو أن الوقت يمر بسرعة كلما تقدم عمر الإنسان، مسألة جد معقدة” . لقد أجرى هذا الباحث عدة تجارب، طلب خلالها من مجموعة من المتطوعين أن يصنفوا المدد التي تستغرقها المنبهات، باعتبارها مددا ” قصيرة ” أو ” طويلة “، أو الفصل  في مسألة التماثل بين المدتين اللتين يستغرقها المنبه. فإذا اتضح من خلال هذه الأدوار البسيطة نسبيا، أن هناك فعلا تمايزا بين صغار السن ومن أهم أصغر سنا، فلأن ذلك يعود إلى ضعف كبير في الإحساس بتقدير الوقت مع تقدم السن. ففي المتوسط، بإمكان الأفراد الأكبر سنا، أن يتعرفوا مدة زمنية معينة، أو يصنفوا بدقة مددا قصيرة أو طويلة. ولكن أخطاءهم تبقى كثيرة، وأفدح من أخطاء الأفراد الأصغر سنا. ولكن ليس هناك أي تسريع أو إبطاء للزمن.

إن ما يدعو إلى الغرابة، هو أن هذه الحساسية الجزئية في التمييز بين فترات طويلة إلى حد ما، تظهر، ليس فقط، عند الأشخاص المسنين، ولكن أيضا عند الأطفال. فلقد قامت سيلفي دروا – فولي Sylvie Droit – Volet(مديرة وحدة التكوين والبحث في علم النفس بجامعة بليس- باسكال في كليرمون فيرون، وعضو في مختبر علم النفس الاجتماعي والمعرفي بالمركز الوطني للبحث العلمي – فرنسا) خلال السنين الماضية، قامت بتجارب على أطفال من أعمار مختلفة (ثلاث سنوات، خمس سنوات أو ثماني سنوات)؛ وهي نفس التجارب التي أجراها الباحث البريطاني. وحدهم الأطفال الذين يبلغون من العمر ثماني سنوات هم الذين يقتربون من الإدراك الزمني للبالغين . أما القدرة على قياس الوقت بالنسبة للأفراد الأصغر سنا، فهي تشبه القدرة التي توجد لدى الأفراد في سن أجداد هؤلاء، وكأننا أمام نفس الصعوبات في تقدير مرور الوقت، مع بدء الحياة ونهايتها .

فهل يفهم من ذلك أن هناك مسؤولية للآلية المكرسة لقياس الوقت –أي “مقياسنا الدماغي”- التي لا تكون دقيقة بالشكل الكافي قبل سن الثامنة، ثم تكون وظيفية بشكل تام بعد هذا السن، لتفقد ،شيئا فشيئا، إمكانية الاشتغال مع تقدم السن؟

ولكن الباحثة الفرنسية لم تنته إلى هذه النتيجة. إنها تؤكد على أنه لا يمكن أن نختزل الإنجاز في الكفاية “فكما أن الطفل يمكن أن يحصل على نقطة ضعيفة في الواجب المدرسي، وإن استظهر دروسه جيدا. يمكنه أن يجد صعوبة في تقدير الوقت، وإن كان مقياسه الدماغي يسمح له بأداء ذلك بشكل دقيق.

أما عند الأفراد المسنين، فلاشك أن تطور إدراك الزمن يرتبط أشد الارتباط بالتغيرات التي تطرأ على قدرات الانتباه . إن من له القدرة على تقدير الزمن، تكون له القدرة على تركيز الانتباه فيما يخص مضي الوقت، مهما كانت المدة التي يستغرقها ذلك. والحال أنه مع تقدم السن، يصبح هذا شيئا عسيرا”. وبالتالي، عندما يلاحظ الباحثون أن الوقت يمر بطريقة مختلفة عند كبار السن، فلربما تعلق الأمر بالتغيير الذي طرأ على وظيفة الدماغ، أكثر منه بالتغيير الذي طرأ على تعداد الوقت. يقول جون ويردن “إن الضعف الذي يصيب الدقة مع تقدم السن، خاصية يمكن ملاحظتها بالنسبة لأغلب الأدوار المعرفية، كلما طعن المرء في السن. فلا علاقة،إذن، بين الضعف الذي يصيب تقدير الزمن مع تقدم السن، والآلية الخاصة لمرور الوقت! “.

ما هي،إذن، العلة في حدوث التغيير الذي يطرأ على إدراك الوقت في حياتنا؟

من بين التجارب التي أجرتها سيلفي تجربة توصلت فيها إلى أدلة مهمة. فقد وضعت بين أيدي مجموعة من الشباب صورا لوجوه أفراد من نفس الأعمار، وصورا لوجوه بعض المسنين. كل ذلك خلال مدد متفارقة من الزمن. وقد طلبت الباحثة من هؤلاء الشباب تقدير المدة التي يستغرقها عرض الصور.

نموذج دماغي نظري

لقد خلصت الباحثة إلى ما يلي: “عندما تم عرض وجوه الأشخاص المسنين، تبين أن المدة التي استغرقها عرض الصور هي مدة غير معتبَرة.  إننا نلحق إدراك الوقت لدى الأشخاص الذين يشبهوننا(بما في ذلك أعمارهم) في إدراكنا الخاص . فقد أخذ “مؤقِّت” المتطوعين “يدق” بمعدل أبطأ من العادي، على إيقاع الأشخاص المسنين” .

إن هذه الملاحظة وأغلب النتائج التي خلصت إليها التجارب السابقة في مجال تقدير الزمن تعتبر من الناحية الرياضية قابلة للنسخ، في إطار نموذج يمثل الإدراك الدماغي للوقت. وهو إطار ينظمه المؤقِّت الداخلي. وفي هذا الصدد تقول فيفيان بوتاس Viviane Pouthas(أستاذة في مختبر العلوم العصبية المعرفية، ومبحث المصورة الدماغية في المركز الوطني للبحث العلمي بفرنسا) : ” إن الأمر يتعلق بنموذج مستعار يضم من الناحية التخطيطية “مذبذبا” oscillateur  تتحرك دقاته على إيقاع متغير، ولكن تردداته المتوسطة تبقى ثابتة، إضافة إلى “ِمِركم” accumulateur يستقبل دفعات المذبذب. هذه الحركات تنتقل من قسم إلى آخر عبر القاطعة interrupteur. فالمذبذب والقاطعة والمركم، كلها تشكل “المؤقِّت”. أما الطابق  الأول من هذا النموذج، فيعدُّ الوقت عندما تكون القاطعة مغلقة. وأما محتوى المركم، فيمكن أن يُنقل إلى الطابق الثاني من النموذج: الذاكرة. وأما الطابق الثالث فهو مِقران comparateur يحدد الفرق بين محتوى المركم  والذاكرة؛ ذاكرة العمل أو الذاكرة على مدى أبعد “. و لكن  أن تنفتح القاطعة، نتيجة سهو أو خطأ، أو أن تخفق عملية نقل محتوى المركم نحو الذاكرة، أو أن تمحي الذاكرة جزئيا أو كليا، أو أن يبدأ المذبذب في تغيير الإيقاع… فهذا يعني أن إدراك مرور الوقت سيطرأ عليه التغيير. ورغم بساطة هذا النموذج، فإنه يبقى الأفضل لدى الباحثين من أجل عرض مقاساتهم. ويعتقد بعض الباحثين في المدرسةالأساسية العلياENS بفرنسا، أنه يمكن اليوم ربط بعض مناطق الدماغ بهذه الطوابق الثلاث، وهو ها يفسح المجال لنقل”الاستعارة” إلى الواقع البيولوجي… والكشف عن الأسباب البيولوجية لبطء المؤقت الداخلي مع تقدم السن؟

إن بعض القرائن تجعلنا نعتقد ذلك. تقول فيفيان بوتاس “عندما نطلب من شخص تعيين إيقاع نبضي تلقائي، يتبين بشكل عام أن الشباب ينبضون  كل 0,6 ثانية. أما  البالغون الذين تتراوح أعمارهم بين 60 و 65 سنة، فبشكل بطيء”. فما هي العلاقة بين هذه الإيقاعات، و إيقاعات بيولوجية أخرى- على غرار ما نجد في دقات القلب، أو تغيرات الأيض métabolisme مع تناوب النهار والليل-

والمؤقت الداخلي للنموذج الذي رأيناه؟ تقول الباحثة الفرنسية ″إنه من الصعب الإجابة على ذلك، و لكننا نعلم أن المؤقت يتحرك بسرعة عندما تزداد حرارة الجسم، أو عندما يجد المرء نفسه تحت تأثير الانفعال. مثلا: عندما نتعرض لحادثة سير، يحدث لنا انطباع بأن الأمر استغرق مدة طويلة، لأن “مؤقِّتنا” يجري بسرعة. ذلك أننا نلاحظ أيضا أن إيقاع نبضات القلب يتم بسرعة، و أن الاستجابة الكهروجلدية تزداد . فإذا كان  بالإمكان أن تتسبب الشيخوخة في بطء المؤقت الداخلي، فإن هذا يحتاج إلى الإثبات…

هل يتعلق الأمر بالإدراك أم بالواقع؟   

إن الأمر يختلف  في حالة أخرى من حالات التغير الذي يصيب القدرات الدماغية مع تقدم السن، و الذي لم يعد أثرها خافيا على إدراكنا للوقت. تقول فيفيان يوتاس ” إن ما هو مؤكد أن هناك، بشكل عام، نقصا في مصادر الانتباه، مع العلم أن القدرة الانتباهية تعد أمرا حاسما في إدراكنا للوقت”.  يبدو أن الوقت يمضي،على نحو مميز، بسرعة كلما كان المرء منهمكا في إحدى الأنشطة التي تستدعي تركيز الذهن. وهو ما تمت ملاحظته، منهجيا، داخل المختبر، من خلال نموذج “المؤقت الداخلي “؛ حيث تظل “القاطعة” في وضع مفتوح. ثم إن الدماغ يعبئ قدراته التعاملية، من أجل دعم النشاط الجاري …. وليس لعدّ الوقت.

إن هذا الاهتمام البالغ الذي يحظى به الزمن، جعل جون ويردن يعرض للإحساس بسرعة الوقت مع تقدم السن، مستعينا في ذلك بالشهادة التي أدلت بها والدته التي تبلغ من العمر 87 عاما، وتقول فيها “السنون تبدو طويلة، ولكن الأشهر تمر كالبرق”. وهي مفارقة  يجب أن تحثنا، حسب هذا الباحث، على عدم تقييد التجارب بالزمن المدرك حالا – رغم النجاح الذي عرفته هذه التجارب- ولكن ينبغي أن نعكف على الزمن المدرك استعاديا. ويتعلق هذا، في اعتقاد هذا الباحث، بالاستدلال أكثر منه بالإدراك . ” تصور أنك في حفل، وأنك لا تعير الوقت أي اهتمام. عندما تهم بالانصراف، ستلاحظ أن الساعة هي الثالثة صباحا. إنك خلال هذه اللحظة،فقط، ستستدل أن الوقت مر بسرعة،. ولكن في الواقع، لم يكن لك أبدا مثل هذا الإحساس”.

 ولكن كيف نتحقق من هذا، من الناحية التجريبية؟ يسعى الباحثان المنتميان إلى جامعة كيل وليفربول لأن يقدما سوارا إلكترونيا إلى مجموعات من المتطوعين، إضافة إلى استمارة للتقدير الآني للوقت( “ماذا تفعلون حاليا؟”، “هل لديكم الانطباع بأنكم مستعجلون؟” . خلال النهار، سَيَرِنّ السوار بانتظام، وسيكون على المتطوعين أن يجيبوا على بعض الأسئلة: “تتلخص الفكرة في أن يسمح الاستبيان من إدراك التجربة المباشرة للوقت، بمعزل عن الأحكام الاستعادية أو الاستدلالية التي تتم انطلاقا من وقائع يومية. وأعتقد أن الاستبيان سيظهر  بالنسبة للأفراد المسنين، أن الوقت يمر خلال اليوم ببطء”.

فهل بإمكان هذه التجربة أن تَعتبر في المآل الإحساسَ المشتركَ وحقيقة الوقائع؟

ربما يتحقق ذلك، ولكن شريطة أن يضحي المتطوعون بشيء من وقتهم الثمين.

             ——————————————————

*François Lassagne,Gilles Marchand,Pourquoi le temps passe de plus en plus vite. SCIENCE ET VIE, fev 2010,N.1109, pp45-57.

**شوقي المقري،أستاذ الصوتيات،كلية الآداب، جامعة محمد الأول، وجدة. 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق