إلى أيّ حدٍّ يجوز قبول التنازلات باسم أخلاق الحوار والتفاوض والوساطة؟(عز العرب لحكيم بناني)
في سائر أصناف صيرورة الوساطة médiation نفضل الوصول إلى حلول مؤقتة بدل عدم الوصول إلى أي حل. ونحاول بعد ذلك نقل الوساطة بين الناس إلى الوساطة بين الثقافات، حتى لا تظل الوساطة آلية تدبير النزاع بين الأفراد فقط. وما يشجع على البحث عن الوساطة الثقافية هو أن العلم كان يلعب دوما دور الوساطة بين الأطراف الثقافية المتنازعة، من خلال البحث في أخلاقيات العلم والآليات الأخلاقية لتدبير النزاعات. فنحن نضع سلم الأولويات المعيارية على نحو جديد: نختار السِّلم ونبذ العنف عوض اللجوء إلى الصراع ونؤمن بعقلانية الآخر وبحاجتنا إلى التعايش معه، من خلال وضع آرائنا الذاتية أو مذاهبنا الجماعية بين قوسين، ولو إلى حين.
نحن نحمل قناعات أساسية بخصوص التاريخ الثقافي للجماعة التي ننتمي إليها، كما نحمل قناعات أساسية بخصوص الجماعات أو الثقافات التي لا ننتمي لها، أو نعتبرها منافسة لنا أو تحمل أحكاما مسبقة عنا. وعندما تحولت النزاعات الثقافية الدولية إلى موضوع الدراسات ما بعد الكولونيالية اعتمدت مفاهيم ما بعد الحداثة Postmoderne الفرنسية.
تحاول هذه الدراسات تحرير البلدان التّابعة من رواسب الاستعمار الثقافي la décolonisation ومقاومة الغزو الثقافي والسياسي. ولكن هذه الدراسات لم تضع إطارا معياريا واضحا للتخفيف من الصراعات الثقافية أو للبحث عن قيم مشتركة بين الأمم قبل الشروع في بسط القول في الخلافات.التنازلات الأخلاقيةحينما نتحدث عن ” تقديم تنازلات” Kompromisse نتحدث عن مقولة أخلاقية، بحيث أننا نستطيع الحديث عن “تنازلات” أخلاقية قادرة على تقديم وساطة بين الأخلاق والتحدّيات القائمة في الزمان والمكان.(راجع Illhardt, FJ : Der Kompromiss: Ethik-Beratung gegen moralischen Rigorismus )”لا تتم مفاوضات على أساس مصالح مادية خالصة واختيارات منافع مشتقة منها. على العكس من ذلك تخلق القواعد المعيارية وعلى الخصوص الإنصاف Fairness والعلاقة المتبادلة القاءمة على المساواة واحترام المصالح المتبادلة Reziprozitätالخطوط الموجهة المعيارية وتطبع انتظارات نتائج المفاوضات على كل واجهات جماعة التفاوض.” (راجعHarald Müller: Grenzen der Logiken und Logik der Grenzen: أخلاق التنازل Kompromisseبما أننا لا نستطيع فرض قناعاتنا الرئيسية على الآخرين أو على باقي الجماعات والأمم، نقبل البدائل التي تسمح برضى أغلب الأطراف على الأقل (مثل المسارعة إلى قبول مبادئ حقوق الإنسان، رغم الاختلاف حول الخير والمصالح والمنافع) على اعتبار أنها أفضل الحلول في هذه الظروف.
لا يعني قبول البديل الثاني (الحق) أن الأطراف تراجعت عن قناعاتها الشخصية الرئيسية (بخصوص الخير والهوية الثقافية والقيم الجماعية). تظل تلك القناعة الرئيسية موجودة بالرغم من الاضطرار إلى قبول الاختيار الثاني، وهو قبول التنازلات والتسامح واحترام مشاعر الآخر وآرائه. معنى ذلك أن القناعات الذاتية تظل قائمة ولا تتغير بسهولة، حتى ولو لزم الأمر منا أن نضعها بين قوسين حينما نختار بديلا ثانيا أقل إقناعًا.إذن يوجد فرق بين القناعة الأصلية بخصوص الخير والقناعة الجديدة بخصوص الاتفاق على مجموعة من الحقوق المشتركة. قد نعيش فصاما بين القناعتين إذا لم نحسن الجمع بينهما؛ ونحتفظ بالقناعة الأولى بينما نقبل الحل الثاني وهو الأفضل حاليا لتفادي استعمال العنف. يتزامن اختيار البدائل الثانية مع الشعور بالأسف والإحباط نتيجة التخلي المؤقت عن قناعاتنا الجماعية.خاتمة:إن “التنازل” الأخلاقي، يحمل نكهةً سلبيّةً في المعجم العربي وهي نكهة غير موجودةٍ في المعجم الفرنسيcompromis moral، والسَّببُ هو أنَّ الفرنسيةَ تُمَيِّزُ بين التنازل الأخلاقي (المقبول ولو على مضض) والتنازلِ غير الأخلاقي compromission (غير المقبول)؛ وأظنُّ أنَّ عدم التمييز بينهما في العربية جعلَ أيَّ تنازلٍ عن القيم الجماعية تنازُلاً عن الأخلاق؛ وهذا ما لم يُشجع على انتشار ثقافة التفاوُضِ. كما لا ندري هل “يمكن “التنازل” compromised في بعض الظروف للوصول إلى السلم الاجتماعي.يطرح مشكل بخصوص ترتيب منزلة السلم فوق منزلة العدالة حين نشوب تنازع فيما بينهما كما قال Avishai Margalit في مقدمة كتابه:On Compromise and Rotten Compromise. Princeton University, 201 ومع ذلك يمكننا إيجاد أرضية لوضع اتفاقية بين أطراف النزاع بواسطة قيم العلم والسعي إلى التسامح ونبذ العنف. ونحن نعتبر بطييعة الحال أن سائر الحلول مؤقتة ونسبية.
وفي الأخير لا بد أن نشير إلى أن النجاح في خلق الوساطة العقلانية بين الثقافات سينجح في مراجعة النظرة الإطلاقية والمتعصبة التي تملكها سائر الأمم عن ثقافاتها الجماعية. كما تسمح القناعات الثقافية بتطوير آليات الوساطة وتطوير قيمها في إطار تغذية راجعة feedback بين مراجعة الذات القيم الجماعية و مراعاة المبادئ أو المصالح التي لا تقبل المساومة. ملاحظة: قدّمت جزءًا من مداخلتي في ندوة “الوساطة الاجتماعية” من تنظيم اللجنة الجهوية لحقوق الإنسان فاس- مكناس. أتقدم إليها بجزيل الشكر على الدعوة الكريمة.