مأزق الفقه الإسلامي اليوم (معتز الخطيب)
تبلور مصطلح “الفقيه” في نهايات القرن الهجري الأول ثم تطورت الممارسة الفقهية الحرة إلى أن تم ضبطها وتقنينها مع نشأة المذاهب الفقهية وتَشَكل السلطة المذهبية في القرن الرابع الهجري. ولكن ما أسميه “النظام الفقهي” لم يكن ليستمر من دون مواجهة تحديات، منها ما شخّصه الإمام أبو إسحاق الشاطبي بعاملين: الهوى والجهل، وقد خصّ كتابه “الاعتصام” كله بأهل البدع وطرائقهم، ورأى أن “الزَّيْغ راجع إلى الجهالات”.
ولكن الإشكال الحديث الذي واجهه التقليد الفقهي أكثر تعقيدًا من ذاك الذي واجهه أو شخصه الشاطبي، فالإشكال الحديث يدخل فيه تَغَير المحلّ الذي كانت تتنزل فيه الأحكام، وهو ما أدى إلى تأزم التقليد الفقهي والخروج من منطق الأزمنة الكلاسيكية التي نشأ فيها ولها الفقه الإسلامي. فقد تَشَكَّل وتَنَزل في سياق تاريخي محدد في ضوء خلفية سياسية ومؤسسية متنوعة الصور منذ عصر النبي صلى الله عليه وسلم مرورًا بخلفائه إلى دولة الأمويين ثم العباسيين.
نشأ الإشكال الحديث مع متغيرات السلطة ونشوء جهاز الدولة الحديثة في ظل نظام دولي، ومع التغيرات التي أصابت موقع الشريعة من الدولة والمجتمع، وهو ما أدى إلى انفصال النص الديني والفقهي عن الجماعة المسلمة، فتَذَرّرت الجماعة ونشأت توجهات عدة شكّلت استجابات متنوعة لهذا التحدي الحديث ومثّلت خروجًا على التقليد بدرجات متفاوتة.
ويمكن رَصْد أربعة أشكال لتلك الاستجابة الحديثة تتمثل في الآتي:
1. تلفيقية الإصلاحية: وتتمثل في إصلاحية محمد عبده التي سعَت إلى استثمار فكرتي المقاصد والمصالح لتوسيع القياس الفقهي المنضبط والخروج على التقليد من جهة، ولتشريع المؤسسات والاقتباس عن الغرب من جهة أخرى.
2. انتقائية الإحيائية: وتتمثل في حسن البنا ومدرسته (الإسلام السياسي) وقد سعت إلى تأسيس “النظام الشامل” وصياغة “فقه الدولة” عبر انتقائية شديدة من التراث والحداثة سُميت في المجال الفقهي “الاجتهاد الانتقائي”.
3. اختزالية الجهادية: وتتمثل في حين اختزال الجهاديين الإسلام في “فقه الجهاد” وسعيهم لاستعادته عمليًّا لإعادة الخلافة، وكان لهذه الحركة موقف مختلف من الفقه عبّر عنه سيد قطب بالقول: “أما الفقه الخاص بأنظمة الدولة وشرائع المجتمع المنظم المستقر، فهذا ليس أوانه … إنه ليس على وجه الأرض اليوم دولة مسلمة ولا مجتمع مسلم قاعدةُ التعامل فيه هي شريعة الله والفقه الإسلامي! هذا النوع من الفقه يأتي في حينه وتُفَصَّل أحكامه على قَدر المجتمع المسلم حين يوجد ويواجه الظروف الواقعية التي تكون محيطة بذلك المجتمع يومذاك!. إن الفقه الإسلامي لا يَنشأ في فراغ ولا تُستَنْبَت بذوره في الهواء”.
4. اجتزائية السلطوية: وتتمثل في فقهاء السلطة/الدولة الذين انخرطوا في جهاز الدولة ودافعوا عنها وعن نُظُمها؛ فقد رأوا أن كل أحكام “الإمامة” السياسية المسطورة في كتب فقه ما قبل الدولة تَتَنَزل على شخص رئيس الدولة القائمة بالفعل بغض النظر عن المتغيرات الجذرية التي حصلت في جهاز الدولة وأشكال السلطة ووظائفها وعلائقها بالمجتمع والعالم.
هذه الطرائقُ المختلفة لاستثمار الفقه تعكس الوعيَ بمأزق الدولة القائمة (دولة ما بعد الاستعمار) التي ورثت الخلافة العثمانية، ومأزق الفقه والفقهاء في الأزمنة الحديثة، ووطأة التاريخيّ وسطوته على “الديني” ومحاولة استعادته أو التخلص منه أو المواءمة بينه وبين الحاضر والمزاوجة بينهما توفيقًا أو تلفيقًا.
وإذا كان الإصلاحيون قد استخدموا الفقهَ الإسلامي للانفتاح على العالم والتواؤم مع منجزات الحداثة الأوروبية، فإن الإحيائيين جعلوا الفقه أداةً للثورة على الأنظمة وفق الأدوات الحديثة للسياسة (التظاهر، والانتخاب، والبرلمان…)، ووسعوا الفقه ليشمل كل تفاصيل السياسة بمفهومها الحديث كما سعوا إلى توسيع دائرة “المباح” الاجتماعي و”الواجب” السياسي حتى يمكن الانخراط في الأزمنة الحديثة والعيش فيها.
وفي المقابل استخدم فقهاء السلطة الفقهَ لشرعنة الوضع القائم الذي قَنعوا به وانتفعوا منه، فوضعوا الفقه في سياقٍ يكون فيه أداةً من أدوات الاستبداد السياسي والقهر، في حين استخدم منظرو الجهاد الفقهَ للثورة على العالم أجمع وعلى الأمة والدولة، ووضعوه في سياق غربة عن الأعراف والحاجات الاجتماعية بل والقيم الأخلاقية ليغدو لا يصلح للتطبيق إلا على أنقاض العالم الحديث. وفي المحصلة تتعمق إشكاليات الفقه اليوم في هذه السياقات جميعًا.
نشأت الجماعة المسلمة تاريخيًّا على النص الإلهي، وبقي هو الحقيقةَ الأساسية فيها، بل إن الجماعة الأولى لم تكن لتستمر بغير النص، فقد كان “المسوِّغَ الوحيد لاستمرارها، وهو الذي يمنح وجودها شرعيته المتعالية، ولقد دار صراعٌ عبر القرون حول المؤسسة البديلة التي يمكن أن تَرث النبي في تأويل النص وحَمله” كما لاحظ ذلك رضوان السيد في الثمانينيات، واعتبر أبو بكر الصديق (الخليفة الأول) الجماعةَ المرجعَ والحَكَم؛ رغم وجود أصوات كانت تحاول أن تمنح السلطة/الخلافة حقَّ ادعاء وراثة النبوة، وهكذا بقي النص مستعصيًا على الاستيعاب وعلى التمأسس فيما عدا مؤسسة الأمة التي وَضَح استخلافها لتحيا وتستمر وتنمو وتمتد في رحاب النص وفي تَوَحد معه وبه.
والنص الإسلامي هنا: قرآن وسنة وإجماعٌ، والإجماع عبارةٌ عن التجربة التاريخية للجماعة، وفيها يتواصل السياسي والديني، بل لا يمكن تواصلهما إلا في التجربة التاريخية، وحينما طرأت تطوراتٌ على مؤسسة الخلافة وظهرت الدولة السلطانية أمكَنَ للفقهاء شرعنتها وشرعنة حكم التغلب؛ بدوافع أخلاقية كالحفاظ على وحدة الجماعة وصيانة الدم الحرام بعد أن هالَهم ما شهده القرن الهجري الأول من صراعات دموية هددت وحدة الجماعة.
حافظَ التقليد الفقهي على قوته واستمراريته إلى أن تَرَكت “نهاية الإمبراطورية العثمانية الإسلام دون دولة مركز، وتم تقسيم أراضيها بين قوى غربية، وعندما انسحبت تلك القوى خلّفت وراءها دولاً مؤسّسة على نموذج غربي بعيد كل البعد عن تقاليد وتراث الإسلام، وهكذا فإنه على مدى معظم القرن العشرين لم يكن لدى أي دولة إسلامية قوة كافية ولا ثقافة كافية ولا شرعية دينية للاضطلاع بهذا الدور لكي تصبح مقبولة من الدول الإسلامية والمجتمعات غير الإسلامية كزعيم للحضارة الإسلامية. فغياب دولة مركزية إسلامية عاملٌ مساعد وأساسي على الصراعات الخارجية والداخلية المستمرة التي تُميز الإسلام، وعلى الوعي دون تماسك، كما أنه مصدر ضعف بالنسبة للإسلام ومصدر تهديد للحضارات الأخرى” كما لاحظ صمويل هنتنغتون، وقد حاولت فئاتٌ وجماعاتٌ متعددة من أنظمة وتنظيمات إسلامية حركية وجهادية حيازةَ دور المركز السلطوي أو المرجعي دون جدوى.
فالخلل يتجلى اليوم عبر عمليات استعادة الفقه استعادة لا تاريخية لواقع مفارق، وهي استعادةٌ مفارقةٌ لمقاصد الفقه ومن خلال قوانين غير قوانينه. ومقاصد الفقه هي البحث عن حكم الله عبر نظام محدد في حركةِ تفاعل مستمر بين النص والجماعة. فالحركات الجهادية – وخاصةً تنظيمَ الدولة الإسلامية – تُقدم مشروعها في مواجهة العالم بأسره في بُعديه: الفكري والسياسي، بما فيه الفضاء الإسلامي الفكري الذي انغمس في “الجاهلية” أو تواءم معها، وأبو بكر ناجي – ومن قبله أبو مصعب السوري وغيره – نسف كل المشاريع الفكرية والقوى (الجيوش والشعوب)، وكل التشكيلات المحلية والدولية القائمة، وطَرَح “حركة التجديد المعاصرة” التي هي حركة الجهاد، كخلاص وحيد ونهائي لبناء “الجماعة” التي انفصلت عن الشريعة فاندثرت، وإنما يُعاد بناؤها عبر بوابة “الشريعة” وفق تصور الجهاديين. وهو التجسيد الأبرز لفكرة الشريعة ضد الدولة والأمة كما شرحته في كتابي “العنف المستباح”، في حين أن الشريعة بالمفهوم التاريخي كانت ذات وظيفة مجتمعية وتُجسد تَلاحمَ النص بالجماعة، كما أن “عمل” الجماعة كان يُحدّد مدلول النص ويضيّق من خياراته عبر عملية ضبط وتقنين شديدة التعقيد لم تُدرس جيدًا بعدُ.