من تاريخ مؤسسة الاستخبارات في الإسلام(براء نزار ريان)_1_
“ما كان أحوجني إلى أن يكون على بابي أربعةُ نفرٍ لا يكون على بابي أعفُّ منهم..، هم أركان المُلك ولا يصلح المُلك إلا بهم..: أما أحدهم فقاضٍ (= وزير عدل) لا تأخذه في الله لومة لائم، والآخَر صاحبُ شرطة (= وزير داخلية) ينصف الضعيف من القوي، والثالث صاحبُ خَرَاج (= وزير مالية) يستقصي ولا يظلم الرعية..، والرابع.. صاحبُ بريد (= مدير مخابرات) يكتب بخبر هؤلاء على الصحة”!!
هذا قول عزاه الطبري (ت 310هـ/922م) -في تاريخه- إلى المؤسس الحقيقي للدولة العباسية الخليفة أبي جعفر المنصور (ت 158هـ/775م)، وهو يشير إلى أي مدًى وصل حجمُ التعقيد والتفصيل في الفكر المؤسسي داخل نظام الدولة الإسلامية، وخاصة في مربعها الإستراتيجي الذي ندعوه اليوم “الوزارات السيادية”: العدالة والأمن والاقتصاد والمعلومات. وهو يكشف أيضا -عكس ما يظنه البعض- ما اتسمت به هذه الدولة من براعة في التقسيم الإداري الهيكلي، ودقة في توزيع الأدوار الوظيفية لدوائر الحكم.
والحق أن تأسيس جهاز لجمع المعلومات هو شيء منطقي في تاريخ الدولة الإسلامية التي كانت على خط النار طوال تاريخها، فلم تتوقف لحظةً التدافعاتُ البينية بينها وبين منافسيها العالَميِّين، ولم تفتر محاولات اختراقها من الداخل بالعملاء والجواسيس؛ وبالتالي كان من الضروري أن تخوض الدول الإسلامية دروب ممالك الظلمات الاستخبارية، وقد وصلت إلى أقصى ما يمكن رصده في فنون هذا اللون من العمل الخفي التخصصي، وبتتبع تاريخ جهاز الاستخبارات الاسلامية يجد الباحث أن ثمة نوعا من التطور المتواصل والتراث التراكمي في الخبرات والممارسات.
ولعل من الحقائق المهمة هنا القول إنه مهْما كان إحكام هذه الأجهزة وكفاءتها فإن دورها ظل يتركز أساسا على الحماية ومكافحة الخصوم المنافسين، ولم يكن -في معظم الأوقات- مسلطا على الجماهير بإحصاء الأنفاس وكتم الآراء والتدخل في التفاصيل الحياتية، على نحو ما هو معروف حاليا. وهدف هذا المقال هو إماطة اللثام عن نمط غير معروف كثيرا من الفكر المؤسسي التاريخي للدولة الإسلامية؛ عارضا باختصار نشأة جهاز مخابراتها، ومستعرضا بعض ما شهده من نمو وتعقيد في الغايات والآليات، وما طبعه من طرافة وبراعة في الرسائل والوسائل، مما يجعله نموذجا رائدا ورائعا في العمل الأمني والفكر الإداري والفقه المقاصدي.
بذور التأسيس
لم يعرف المسلمون في زمن النبيّ -صلى الله عليه وسلّم- وخلفائه الراشدين نوعًا منظّمًا من العمل الأمنيّ، غير أنّ ذلك العهد المبكر شهد جهودًا أمنيّةً عظيمة استخبارًا عن الأعداء ومكافحةً لأنشطتهم التجسيسة التي اشتدت جرّاءها معاناة المجتمع الإسلاميّ الأول.
ففي المرحلة المكية؛ نجد أن “الحكم بن أبي العاص كان يتجسس على النبي صلى الله عليه وسلم، وينقل أخباره إلى الكفار”؛ كما يروي سبط ابن الجوزي (ت 654هـ/1256م) في ‘مرآة الزمان‘. وحين هاجر المسلمون إلى المدينة تعاظم الاستهداف بانضمام يهودها إلى قريش وحلفائها في التخابر عليهم. ومن صور ذلك ما ذكره البُلاذري (ت 279هـ/892م) -في ‘أنساب الأشراف‘- أنّ “مالكًا بن أبي قَوْقَل كان متعوِّذًا (= متظاهرًا) بالإسلام، ينقل أخبار النبي صلى الله عليه وسلم إلى يهود”!
ومن جراء هذه الأنشطة التجسسية الخطيرة دفع المسلمون ثمنًا غاليًا للاختراق الأمنيّ؛ ومن وقائع ذلك ما رواه الإمام البيهقيّ (ت 458هـ/1066م) -في ‘دلائل النبوة‘- من أنه لما رجع النبي -صلى الله عليه وسلم- من عمرة القضاء سنة 7هـ/629م بعث سرية إلى قبيلة بني سُليم قرب المدينة، “وكان عينُ (= جاسوس) بني سليم معهـ[ـا] فلما فصلـ[ـت السَّرِيةُ] من المدينة خرج العين إلى قومه فحذرهم، وأخبرهم فجمعوا جمعا كثيرا..، فلما رآهم أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورأوا جمعهم دعوهم إلى الإسلام فرشقوهم بالنبل، ولم يسمعوا قولهم”.
وقد كان للنبيّ -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه قصصٌ كثيرة في مكافحة جواسيس أعدائهم، منها ما رواه البخاريّ (ت 256هـ/870م) -في صحيحه- أنه “جاء عينٌ من المشركين إلى رسول الله”، فلما خرج خفيةً قال صلى الله عليه وسلم: «عليَّ الرجلَ اقتلوه»! فتسابقوا إليه فقتله سلمة بن الأكوع (ت 74هـ/693م).
وفي المقابل؛ كان للنبي -صلى الله عليه وسلم- عيونه الذين يخترقون صفوف أعدائه فيأتونه بأخبارهم مفصّلة؛ ففي صحيح البخاريّ أنه -صلى الله عليه وسلم- أحرم مرة لأداء عمرة “وبعث عينًا له من [قبيلة] خُزاعة” يتحسس له أخبار الطريق، ومضى النبي في طريقه حتى جاءه “جاسوسه الخزاعي” -الذي قيل إنه كان مشركًا- بمعلومات يقينية عما تعتزمه قريش.
وقد قال هذا الجاسوس للنبي صلى الله عليه وسلم: “إن قريشا جمعوا لك جُموعا..، وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت (= الكعبة)”! وجاء في كتاب ‘الاستيعاب‘ لابن عبد البر (ت 463هـ/1070م) أن العباس بن عبد المطلب (ت 32هـ/652م) كان “إسلامه قبل [غزوة] بدر، وكان.. يكتب بأخبار المشركين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم..، وكان يحب أن يقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن مقامك بمكة خير”.
وأما في عهد الخلفاء الراشدين؛ فقد أورد سبط ابن الجوزي -في ‘مرآة الزمان‘- ما يدل على اعتناء بالعمل الأمني لدى الخليفة أبي بكر الصديق (ت 13هـ/624م)؛ فجاء في وصيته لقائده العسكري يزيد بن أبي سفيان (ت 18هـ/629م): “وإذا قدم عليك رُسُل عدوّك فأحسن نُـزُلَهم فإنه أول خيرك إليهم، ولا تـُطِلْ مُقامَهم عندك لئلا يطلعوا على عورات المسلمين، واحفظ سرك لئلا يخرج أمرك..، واستر الأخبار في عسكرك، وأذْكِ (= نشِّط) العيون والحرس” في معسكرك.
وكذلك فعل عمر بن الخطاب (ت 23هـ/645م) الذي أرسل إلى معاوية بن أبي سفيان (ت 60هـ/680م) يأمره بالاهتمام بسواحل الشام و”إقامة الحرس على مناظرها واتخاذ المواقيد لها”؛ وفقا للبلاذري في ‘فتوح البلدان‘. واشتُهر عنه أنه كان يخرج بالليل “يحرس الناس”؛ كما ذكر ابن شبّة (ت 262هـ/876م) في ‘تاريخ المدينة‘.
ويحكي لنا الواقدي (ت 207هـ/822م) -في ‘فتوح الشام‘- العديد من المراوغات الجاسوسية بين المسلمين والروم؛ بيد أن “الأجهزة الأمنيّة” لم تُعرف بشكلها “المؤسسي” إلا في الدولة الأموية، قياسا على ما ذكره ابن حجر (ت 852هـ/1448م) عن نشأة جهاز الشطة، فقد قال -في ‘فتح الباري‘- إن “‘صاحب الشرطة‘ (= مدير الشرطة) لم يكن موجودا في العهد النبوي عند أحد من العمال، وإنما حدث في دولة بني أمية”.(يتبع)