ماذا تبقى من فلسطين؟(حمدي علي حسين)_1_
سارت المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية منذ مؤتمر مدريد للسلام، عام 1991، وصولًا إلى توقيع اتفاق أوسلو،1993، وانتهاء الفترة الانتقالية التي حددها الاتفاق بخمس سنوات ما بين عامي (1994-1999) للانسحاب التدريجي والتفاوض على قضايا الوضع النهائي، ولم يتم التوصل إلى اتفاق حول هذه القضايا وبقيت تراوح مكانها. وأعادت إسرائيل انتشارها بعد الاجتياح الكامل لمدن الضفة الغربية بين عامي (2002-2004)، لتصبح السلطة منزوعة السيادة حتى داخل المناطق المصنفة (أ)، والتي من المفترض أن تتبع أمنيًّا ومدنيًّا بشكل كامل للسلطة الفلسطينية كما نصَّ عليه الاتفاق المرحلي، وعادت الجولات التفاوضية، عام 2007، بشكل غير منظم حتى عام 2014، وتوقفت بسبب رفض إسرائيل إطلاق سراح الدفعة الأخيرة من أسرى ما قبل أوسلو، ورفضها إيقاف الاستيطان في الضفة كأرضية للعودة للمفاوضات. وفي ظل ذلك، استمرت إسرائيل في مشروعها الاستيطاني وأمعنت في تقسيم الضفة الغربية إلى كانتونات معزولة بالحواجز والطرق الالتفافية والمستوطنات، واستمرت ببناء جدار الضم والتوسع الاستيطاني الذي بدأته عام (2003) لفرض واقع جغرافي وديمغرافي في الضفة الغربية، وتثبيته أمرًا واقعًا يناقض جدوى البحث عن الحلول السياسية.
تبحث هذه الورقة في الفرص المتبقية لإمكانية إقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو/حزيران عام 1967 في إطار مشروع “حل الدولتين”، أو إقامة دولة فلسطينية في إطار أي من الحلول التي يمكن أن تطرح وينطبق عليها خصائص الدولة والسيادة، في ظل المؤشرات الجيوسياسية المتعلقة بواقع الضفة الغربية، الذي فرضته إسرائيل عبر سياسات الاستيطان والجدار والشوارع الالتفافية وأنظمة العزل وغيرها. وتبحث في مآلات هذا التقسيم بالنظر إلى العناصر المطلوبة لإقامة الدولة ومنها السيادة والاستقلال، والاتصال الجغرافي للأرض والسكان. وتعتمد الورقة على مؤشرات كمية تتعلق بالأرض من ناحية المساحة المتبقية بحوزة الفلسطينيين في ظل التقسيمات الجغرافية التي رسخها اتفاق إعلان المبادئ “أوسلو”، وما آل له الوضع بالأرقام بعد تقسيم الضفة الغربية إلى كانتونات معزولة.
أولًا: العملية السياسية بعد أوسلو
لم تتوصل السلطة الفلسطينية وإسرائيل إلى تسوية نهائية بعد توقيع اتفاق أوسلو(1) والدخول في المرحلة الانتقالية التي حُدِّدت بخمس سنوات، ضمن إطار عمل كان من المفترض أن يتم فيه تمكين السلطة الفلسطينية من القيام بدورها، ومن ثم دخول الطرفين في مفاوضات الوضع النهائي للتباحث في ملفات “القدس، واللاجئين، والمستوطنات، والترتيبات الأمنية والحدود، والعلاقات والتعاون مع جيران آخرين، وقضايا أخرى ذات أهمية مشتركة”(2). وشمل الاتفاق أيضًا التفاهمات الأمنية المشتركة، وشكَّل أساسًا للانطلاق في مفاوضات مشروع السلطة الفلسطينية لإقامة دولة فلسطينية في المناطق التي احتلت عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، استنادًا إلى القرارين 242 و 338 الصادرين عن مجلس الأمن الدولي، وتم توقيع اتفاق أوسلو 2 (28 سبتمبر/أيلول 1995)(3) بعد ذلك ومنحت فيه السلطة صلاحيات للعمل في المناطق (أ) و (ب)، فيما نصَّت الاتفاقية على سيطرة إسرائيلية كاملة على المناطق المصنفة (ج)، (انظر الخارطة رقم (1) أدناه).
شكَّل اتفاق أوسلو وملاحقه المختلفة نقطة انطلاق نحو مفاوضات فلسطينية-إسرائيلية بجولات تفاوضية برعاية أميركية، لكن هذه المفاوضات فشلت ولم تؤدِّ إلى تحقيق أهداف السلطة، ومعنى هذا الفشل هو فرض أمر واقع على السلطة الفلسطينية لممارسة دورها سلطةَ حكم ذاتي، في الوقت الذي كان يسير فيه المشروع الإسرائيلي على الأرض في الضفة الغربية بشكل مغاير لطموح السلطة ويزيد من العقبات والحجج عبر تثبيته مع الزمن أمرًا واقعًا فُرض على الفلسطينيين بالقوة، وهذا ما رفضته القيادة الفلسطينية آنذاك، وفتح مجالًا لاشتعال انتفاضة شعبية تحولت إلى انتفاضة مسلحة في سبتمبر/أيلول من عام 2000.
فيما دخل المشروع السياسي للسلطة الفلسطينية في مرحلة جديدة بعد عام 2005، تسعى فيه لعودة المفاوضات على أسس الشرعية الدولية للوصول إلى حل الدولتين، عبر تفعيل أدوات الدبلوماسية الدولية للضغط على إسرائيل لتحقيق هذا الهدف. ودخلت في مرحلة جديدة من التعاون الأمني مع إسرائيل بعد انتهاء الانتفاضة الثانية عام 2005 عبر تعزيز التنسيق الأمني دون ربطه في برنامج سياسي أو مفاوضات مرحلية كما كان سابقًا، واعتباره مصلحة مشتركة للطرفين. ولم تتوصل السلطة إلى صيغة واضحة لبرنامجها السياسي في ظل انقطاع المفاوضات التي اتجهت أكثر إلى القضايا المدنية المتعلقة بالملفات المعيشية وعائدات الضرائب وغيرها. وتراجعت المفاوضات بشأن القضايا السياسية لأسباب مختلفة أهمها فشل جولات التفاوض المختلفة، ومن أبرزها المفاوضات التي جرت عام 2013 برعاية وزير الخارجية السابق، جون كيري، والتي فشلت بحلول أبريل/نيسان 2014(5)، بسبب الرفض الإسرائيلي تقديم “تنازلات” للفلسطينيين، ورفض وقف الاستيطان شرطًا لاستمرار المفاوضات وإطلاق سراح الدفعة الأخيرة من أسرى ما قبل أوسلو، وغياب الطرف الذي يرعى هذه المفاوضات، وصولًا إلى الانحياز الأميركي التام لإسرائيل في عهد الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب. ومن هنا تعمقت الفجوة بين ما تريده السلطة الفلسطينية من جهة، والواقع الجيوسياسي الذي تفرضه إسرائيل على الأرض من جهة أخرى، وبات اتفاق أوسلو موجودًا بشكل نظري تتمسك به السلطة الفلسطينية، ولم يعد هناك ما يُلزم إسرائيل بالوفاء بأية اتفاقيات تم توقيعها.
رفضت السلطة الفلسطينية صفقة القرن التي جاءت بها الإدارة الأميركية، عام 2020، باعتبارها لا تحقق أدنى ما تطمح له، ولم تكن هذه الصفقة تلقى قبولًا إسرائيليًّا بشكل مباشر بل تم عرضها على السلطة في إطار مشروع صدر عن البيت الأبيض الأميركي ولم تجرِ بشأنه أية مباحثات مشتركة. وتستمد صفقة القرن فكرة حل الدولتين من اتفاق أوسلو الذي شكَّل نقطة اعتراف بإسرائيل، لكن صيغة الصفقة لم تكن بناء على تفاهمات مشتركة بل كانت طرحًا أحادي الجانب بخلاف أوسلو، ولم تنص على انسحاب إسرائيلي -ولو حتى مرحليًّا- كما نص أوسلو الذي أشار إلى ضرورة الانسحاب الإسرائيلي من 80% من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 قبل توقيع الاتفاق على قضايا الوضع النهائي. وكانت صفقة القرن تتناول في بنودها تقديم دعم مالي للسلطة الفلسطينية يصل إلى 50 مليار دولار(6)، وأن يكون المسار الاقتصادي موازيًا للمسار السياسي، وهي الأقرب إلى الوضع الراهن؛ حيث تعطي الفلسطينيين سيادة على مناطق مصنفة (أ، ب) في حدود التجمعات القائمة وتضم القدس جميعها عاصمة لإسرائيل، ويتم ربط الضفة الغربية بقطاع غزة عبر نفق طويل، مع إنشاء منطقة صناعية ومنطقة زراعية سكنية للفلسطينيين في جنوب فلسطين المحتلة (انظر الخارطة رقم 2 أدناه).
أتبعت إسرائيل هذه الصفقة بمخطط الضم الذي نوت فيه ضم جميع المناطق المصنفة (ج) إضافة إلى أجزاء من المناطق المصنفة (ب) في الريف الفلسطيني للضفة الغربية، وفرض السيادة الكاملة عليه لربط المستوطنات الإسرائيلية ببعضها عبر احتلال جميع المساحات الفارغة بينها، وهذا الإعلان (أي الضم) كان أشبه بإعلان تثبيت الواقع الراهن في الضفة الغربية ورسالة مفادها أن هذا الوضع القائم هو الأقرب لما تسعى له إسرائيل. واجهت السلطة الفلسطينية هذه الخطوة بإعلانها وقف التنسيق الأمني، والمدني مع إسرائيل حيث رفضت السلطة استلام عائدات الضرائب الواردة ضمن بنود بروتوكول باريس الملحق باتفاقية أوسلو، وسحبت قواتها من بعض المناطق المصنفة (ب) والتي دخلتها في ذلك الوقت بتنسيق مع إسرائيل في إطار تدابير مواجهة وباء كورونا. ولكن ما لبثت أن أعادت السلطة لاحقًا العلاقات مع إسرائيل ومن ضمنها التنسيق الأمني والمدني بعد استلام كتاب من منسق الإدارة المدنية الإسرائيلي (كميل أبو ركن) يؤكد فيه أن إسرائيل لا تزال ملتزمة بالاتفاقيات مع السلطة، لتعلن الأخيرة بناء على هذه الرسالة عن عودة هذه العلاقات. والجدير بالذكر أن قرار مخطط الضم كان قد تأجل قبل قرار السلطة إعادة العلاقات مع إسرائيل بثلاثة أشهر، وتحضَّرت السلطة لاحقًا للانتقال من عهد “ترامب” إلى عهد الرئيس “جو بايدن” الجديد، واعتبرت أن ما حدث في فترة ترامب هو صفحة طُويت ولن تتكرر مع بايدن، لكن ملف المفاوضات لم يتحرك في ظل الإدارة الأميركية الجديدة، وجاء الواقع بخلاف آمال وتوقعات السلطة الفلسطينية.
ووصل نهج التفاوض بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل إلى طريق مسدود، فلم يعد يجري الحديث عن عودة المفاوضات في ظل مطالبات فلسطينية متعددة لعودتها برعاية أميركية وفق شروط السلطة الفلسطينية، لكن إسرائيل تسير باتجاه مغاير خاصة أن لا ضغوطًا حقيقية عليها، كما ان الجنوح المستمر نحو اليمين المتطرف يقلل من فرص عودة جولات التفاوض، في ظل الرفض الإسرائيلي لشروط السلطة الفلسطينية المتعددة وعلى رأسها وقف الاستيطان.