ما بعد الحداثة من فساد الوسميات(أبو يعرب المرزوقي)
إذا كان القرآن يخاطب الإنسان بلغة طبيعية تشير ولا تدل وكان ما تشير إليه هو آيات الآفاق والانفس، فإن الآفاق والانفس هي بدورها اعيان من معان وراءها يمكن ان تعتبر قوانين الطبيعي وسنن التاريخي فيها اعيانا ارقى من لغة المعاني التي لا يوجد تعين من دونها دون أن ترد إلى الاعيان التي تمثل لها دون أن تكون إياها، وإذا اعتبرت إياها صارت أوثانا. لكن القرآن يستعمل لغتين:
اللغة الأولى التي يستعملها هي العربية وهي لغة طبيعية مثلها مثل كل اللغات الطبيعية وكل من يعتبرها افضل اللغات كاذب. فالقرآن يقول إن كل أمة يأتيها رسول بلسانها.
ومن ثم فكل اللغات البشرية تؤدي نفس الدور.
واللغة الثانية التي يستعملها تصحب اللغة الطبيعية وكأنها تمسرحها فتصبح الاقوال التي تستعمل اللغة الطبيعية أفعال تحاكي الدلالات التي تقصها اللغة الطبيعية.
وكل المشكل هنا وهو في الحقيقة ما ينبغي تقديمه على اللغة الطبيعية. ذلك أن الأفعال التي تقصها اللغة الطبيعية هي في نسبة عبارة البدن التي تصحب عبارة اللسان. فتكون اللغتان اللسانية والبدنية متبادلتين دور الترجمة: كلتاهما ترجمان الثانية.
لكن يبدو أن اللسان يسمي الدلالات والدراما تعرض المعاني. ولهذه العلة فإن العبارة البدنية اقل قدرة على المطابقة مع المعاني من العبارة اللسانية التي تردها إلى دلالات اللسان فتوثنها.
ولعل مترجم كتاب أرسطو في الشعر قد فهم هذا المعنى لما سمى الممثل بالمنافق أي إنه الكاذب الذي يظهر غير ما يبطن فيحاول التعبير بأفعال ترد المعاني إلى دلالات الاقوال وهو جوهر التمثيل.
فعندما ننظر إلى مشهد الرب يحاور الملائكة فيعلمهم “إني جاعل في الأرض خليفة” والملائكة ترد عليه “أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء” فيرد عليهم “إني اعلم ما لا تعلمون” ثم “وعلم آدم الأسماء كلها”
ثم يطالبهم بأن يسموا الموجود في ذلك المشهد فيعجزون فيأمر آدم بالتسمية فيسمي ما عجزوا عن تسميته فيختم المشهد “ألم اقل لكم إني اعلم ما لا تعلمون” ذلك هو ما أسميه اللغة المصاحبة للأقوال بالأفعال في لغة القرآن.
وما أظن أحدا يبلغ به الحمق إلى حد أن يخطر بباله أن هذه المعاني قابلة للرد إلى دلالات هذا المشهد التي تكون للفعل الدرامي أو للعبارة المسرحية باللغة الطبيعية. فلا احد يمكن ان يصور الله في حوار مع الملائكة وخاصة مع ابليس بعد حصول ما يثبت حرية آدم وحواء.
فهما بالعصيان يوثنان ذاتيهما متصورين حريتهما -التي يدل عليها نهيهما على الاكل من الشجرة الملعونة-منطلقا لأن يتألها بالعصيان الدال على مطلق الحرية.
وإذن فما غرهم به ابليس إذ وسوس لهما بكونها تحقق لهما الخلود هو رمزية الأكل من الشجرة الدالة على القدرة على العصيان منطلقا للخلود الذي يجعلهما حاصلين على مماثلة الرب ببيان أنهم أحرار في العمل بالأمر وفي عصيانه.
وحتى نفهم الفرق بين اللغتين التي تحيل إلى دلالة متعينة والتي تحيل إلى معنى لا يمكن أن يطابق تعينا محددا كما هي حال كلا التقديرين الذهنيين-التيمي والذي قسته عليه-
فلنتدبر معنى الآية والآلاء في القرآن أي الرموز التي التي لا تتعين بصورة توثنها وذلك بمحاولة فهم رمزية شهادة الجوارح على صاحبها يوم الدين عندما يحاول الكذب والإنكار خلال الحساب.
فالجوار التي ترمز إلى التعبير البدني تشهد عليه فتكذبه لأنها لغة فعل وليست لغة القول. فشهادتها ليس قولا فحسب بل هي لا يمكن أن يكذب لأن عالم الغيب بخلاف عالم الشهادة لا تبقى السرائر فيه من الغيب المحجوب على الشاهد والمشهود.
وما كان القرآن بحاجة لقول ذلك لو لم يكن الأمر مقصودا لبيان الفرق بين علاقة الإنسان العلمية والعملية بآيات الآفاق والانفس في عالم الشهادة وبهما في عالم الغيب.
فالقرآن يذكر أن كل ما يجري في عالم الشهادة غيبه إضافي إلى الإنسان لكنه مطلق الشهود عند الله: وهو شاهد عنده لأن كل ما يحصل مسجل في كيان الإنسان العضوي والروحي وهي تخبر الرب دائما بكل ما يحدث دون وعي من صاحبهما لأن ما فيه من أفعال الغيب أو سرائره لا يعلمها إلا الله.
ولا يعنيني ألا يصدق المخلدون إلى الأرض وموثنو ما يسمونه الواقع والعقل. وقد سبق فكتبت مقالة منذ أكثر من عقد حول هذين الوثنين: الواقع والعقل.
وتتجلى وثنيتها الفلسفية عند هيجل ودلالتها على الحمق عند ماركس وذروة الغباء فيها عند “مكري” العرب ممن يتفلسفون في الأديان وفي العقلانية: ولنا منهم في تونس “صابة” تعدل عدد “صبابة” الداخلية في المؤسسات الجامعية.
وما يعنيني هو أن عدم التصديق بالمعادلة الهجيلية أكثر وجاهة من التصديق لأن الثقة في معادلة هيجل من علامات الحمق. فلا يوجد عاقل يجعل المجهول معلوما بمعادلة بين بين مجهولين. فهي معادلة غير قادرة على تعريف الواقع والعقل ومن ثم فلا يمكن أن تعدل بينهما إلا بوصفهما مجهولين.
ومن ثم فهي لا يمكن أن تؤسس لعلم أو لعمل جديرين بالثقة. ومن يصدق إمكان ما يقتضيه وصف حجة القرآن هو الممكن الوحيد لأننا نعلم علم اليقين أن ما نعلمه ونعمله بالقياس إلى ما نجهله ونعجز دونه منهما كلا شيء بالقياس إلى كل شيء.
فما المخمس اللغوي الذي اقترحه لتجاوز التثليث في نظرية الترميز اللساني؟ الثلاثة التقليدية (السانتاكس والدلالة والتداول) والاثنان المضافان (المعنى إلى جوار الدلالة ذات المرجعية المتعينة والتداول المعنوي إلى جوار التداول الدلالي ) للوصل بين:
• الترميز في مستواه الخصوصي: وهو ترميز اللغات الطبيعية.
• والترميز في مستواه الكوني: وهو ترميز لغتي التقديرين الذهنيين.
• فعل الترميز الثاني في الترميز الأول: كيف يكون التقدير الذهني شرطا في العبارة عما يستمده من التجربة مع البقاء علة للتشوف اللامتناهي لما يتجاوز الدلالة إلى المعنى الذي لا يقبل المطابقة مع أي تعين. ولذلك فهو يلغي كل إمكانية للقول بالمطابقة في النظر والعقد وللتمام في العمل والشرع.
• فعل الترميز الأول في الترميز الثاني: كيف يكون التعبير اللساني حائلا دون العبارة العلمية والعملية على التجربة لأنه يمكن أن يحقق التواصل بين متكلميه.
فيرد العلم والعمل عندئذ إلى عادات خاصة بحضارة من الحضارات تعبيرا عن رؤيتهما للوجود لكنها ليست قادرة على الوصول إلى الكوني الذي يتشوف إليه التقدير الذهني للمعاني. ولذلك فهو يغري بالقول بالمطابقة في النظر والعقد وبالتمام في العمل والشرع. فينتج عن ذلك الخصوصي الذي يدعي الكلية فتكون سلبية لأنها فلا تعترف لغيرها من الخصوصيات بنفس الدعوى في تمثيل أحد تعينان الكوني الجزئية.
• فيصبح الهدف المشاركة في الترميز الكوني الجامع بين البشر وهو أصل كل ترميز اي المشترك بين التقديرين أي التقدير الذهني الرياضي والمنطقي والتقدير الذهني السياسي والخلقي.
فهذان التقديران الذهنيان يرفضان الخلط بين المدخل الخصوصي الذي يستثني المداخل الخصوصية الأخرى بل يعتبرها بداية الإنسانية التي تكتمل عندما يصبح محركها التعالي عليه بحيث تتساوى لديه دليلا على المشاركة في الإنسانية بالحد الأدنى وهو الناطقية الطبيعية.
• فالفاعلية الأولى هي التي تفرض إضافة باب المعاني إلى جوار باب الدلالات إلى علوم الترميز اللغوي
• المتجاوز للغة الطبيعية إلى لغة التقدير الذهني المحرر من المرجعيات العادية الخاصة بالتمايز بين الثقافات للارتفاع إلى ما يوحد بين البشر في شروط الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها.
وبذلك نصل إلى إضافة باب التداول المعنوي إلى جوار باب التداول الدلالي إلى علوم الترميز للغوي المتجاوز للغة الطبيعية تجاوزا يكتمل في لغة التقدير الذهني المحرر من المرجعيات العادية والتي تبقى دائما خصوصية لحضارة بعينها
فيوحد الإنسانية توحيدا لا ينفي التعدد بل يعتبره طريق التكامل بين الحضارات في تحقيق شروط الوحدة الإنسانية: ومن ثم فآيات الآفاق وآيات الأنفس ذات نوعين:
• أولهما يقدم الخصوصي والعادي وهو لا يمكن أن يكون موضوع العمل والعلم إلا في الأعيان التاريخية من حيث تعينها التاريخي
• والثاني يقدم الكوني ومتجاوز العادي وهو يمكن أن يكون موضوع حركة العمل والعلم اللامتناهين تشوفا جهاديا في العمل واجتهادي في العلم للوصل بين عالمين عالم الشهادة وعالم الغيب :
• فيكون الأول رهن عالم الشهادة المادي وهو الفلسفي الذي يعبر عن العقل الحر الذي له القدرة على تسمية الأدوات بإبداع نظائر قد يرتقي فيصل الشهادة بالغيب في الأمر بتشوف القدر على الأمر النسبي لمحاكاة الأمر المطلق.
• والقدرتان أولاهما هي المعنى العميق للاستخلاف لتقدم الإرادة على العقل والغاية على الأداة في العمل والشرع وهما جوهر الدين والأخلاق السياسية للتقدير بنوعيه.
• والثانية هي المعنى العميق للاستعمار في الأرض لتقدم العقل على الإرادة والأداة على الغاية في النظر والعقد وهما جوهر الفلسفة والمنطق الرياضي للتقدير الذهني بنوعيه.
والقرآن مضمون استدلالاته كلها متعلقة بالخلق والإمر الإلهيين وبما يحاكيهما به الإنسان في الاستعمار وفي الاستخلاف لأن الأول هو شرط بقائه العضوي والثاني هو شرط بقائه الروحي ومن ثم فغايات الخلق تتعلق بكن الخالقة وأدوات الخلق تتعلق بكن الآمرة.
والله خالق وآمر (أي مشرع) مطلق والإنسان خالق وآمر (موضوع العمل والعلم وهما جوهر الاخلاق والسياسة) يحاكي الفعلين إما:
إما بوصفه خليفة وتلك هي الاستراتيجية السياسة القرآنية: الإنسان يجاهد ويجتهد متشوفا ما يراه من آيات الله في الآفاق والأنفس بصدق وعدل في التساخر أو بادعائه الألوهية وتلك هي الطاغوت الذي لا يؤمن الإنسان إلا إذا كفر به حتى لا يدعي أن جهادة واجتهاد مغن عن رؤية آيات الله في الآفاق وفي الانفس وعدل التساخر.
وطبعا فمثل هذا الموقف الثاني علته توهم صاحبه أنه قادر على عصيان المستخلف: وهو لا يدري أنه حتى في عصيانه يكون دائما خاضعا للوجه الثاني من المسؤولية التي امده بها ربه حتى يمتحن اهليته للاستخلاف.
• وتلك هي كل منهجية التبليغ والاستدلال الحمدي الذي هو من ألفه إلى يائه حوار بين الخالق والإنسان الذي يصفه القرآن بكونه “خصيما مبينا” و”اكثر شيئا جدلا” بهذا المعنى
• وإذن فالقرآن استراتيجية سياسية بالتربية والحكم وهي الاستراتيجية الرئيسية المنظم لعمل الإنسان وعلمه بدلا من الميتافيزيقا التي لا تتجاوز العالم الشاهد حتى لو جعلت العقل غير مادي.
• وتلك هي علة خلو القرآن من كل خرافات الإعجاز لا علمي ولا عددي فهو يتكلم لغة طبيعية ويشير بلغة رياضية منطقية وسياسية خلقية لا تتعين في التاريخ الفعلي إلا بالصورة التي تجعل الخصوصي مشدودا للكوني.
• فالخصوصي ضروري لأن التنوع والتعدد شرط التعارف معرفة ومعروقا بين البشر بشرط الاستخلاف الذي يحرر من التفاضل بالعرق والطبقة والجنس ولم يبق إلا على الأخوة (النساء 1) والتفاضل بالتقوى (الحجرات 13)
• وهو يخلو مما لا ينكره عن الأديان السابقة من الخوارق التي هي من خصوصياتها وليست ضرورية في الإسلام بدليل رد القرآن بأنها جعلت للتخويف ولم تحل دون التحريف. وأعسر عقبة عانى منها الخاتم هو معاجزة اهل عصره. فهم لم يفهموا أن المعجزة هي النظام وليست خرقه.