ما بين الحداثة وما بعد الحداثة في الصراعات الثقافية.(عزالعرب لحكيم بناني)
تقدم الدراسات ما بعد الكولونيالية في الأدب تأويلا سياسيا للأعمال الإبداعية الخيالية وتزجُّ بها في الصراعات الحضارية الكبرى بيننا وبين الدول ذات الماضي الاستعماري. تسعى الدراسات ما بعد الكولونيالية إلى تحرير المخيال الإسلامي من رواسب الاستعمار الثقافي la décolonisation في مختلف الحقول السياسية والاجتماعية والثقافية وحتى الشرعية. كما أنها تستخرج رواسب الحروب الصليبية و الإمبريالية والاستعمار من باطن الأعمال الفكرية العالمية. وقد استوحت هذه الدراسات مبادئها من مداخل ما بعد الحداثة في الفكر الفرنسي ولاسيما في أعمال الفلاسفة فوكو ودريدا وليوتار. وعليه، فالدراسات ما بعد الكولونيالية ردُّ فعل ما بعد الحداثة على الأدب الكولونيالي. هل هذا هو الطريق الوحيد للتعامل مع الصراعات الثقافية؟ يحقُّ لي أن أبرز تحيُّز كانط وهيغل إلى الغرب وإصدار أحكام جائرة في حق السود والأسيويين. لكن هل هذا مبرّر كاف كيف نعتبرهما عنصريين أنتجا فكرا متحاملا على الثقافات غير الأوروبية؟ لا أدّعي أنه يجب علينا أن نتغاضى عن الأحكام الجائرة التي أطلقها بعض الفلاسفة والمفكرين، دون أن نحوِّلَ كلَّ ما يكتبه الفلاسفة إلى دعم مباشر للإيديولوجيات السائدة، دون أن نعرف أمهات الكتب وتاريخ مفعولها في مظانها.استندت الدراسات ما بعد الكولونيالية إلى قيم ما بعد الحداثة، وإلى التأويل السياسي للقيم التي نعتقد أنها كونية؛ وهكذا يتحول كل شيء إلى جزء من أحكام مسبقة سياسية. على عكس هذه الكتابات، استمرت كثير من الأقلام الأوروبية تواجه الشرق بنفس الطرق التقليدية التي اعتمدها العصر الحديث، مثل قيم الثورة الفرنسية والحداثة وعصر الأنوار الفرنسي وحقوق الإنسان (لدى فولتير وبيير بييل ومونتيسكيو وغيرهم). وقد شعر بعض المثقفين أنهم لا يستطيعون اتخاذ مسافة نقدية تجاه تاريخهم (مثل مواجهة تاريخ ألمانيا المظلم) إلا بفضل القيم الأخلاقية والمبادئ السياسية الحديثة. وجّه بعض المثقفين سهام النقد إلى تاريخهم الثقافي اعتماداً على القيم الإنسانية التي أفرزتها الحداثة وقد اعتمدوا بكل ذكاء نفس الأداة للتحامل بصورة واضحة على الإسلام العثماني الذي غزا أوروبا، كما فعل Dirk Hoeges فس كتابه عن الآداب الأوروبية والتحدي الإسلامي Europäische Literatur und islamische Herausforderung. Kampf um Europa. منذ أن توحدت ألمانيا سنة 1871 انتصب الأدباء الألمان ضد حقوق الإنسان، بدءا من توماس مان، إلى هيدغر وكارل شميت وكورتيوس وجوتفريد بين وريلكه وإرنست يونغر وبورشارد وفي أشعار شتيفان جورج وريلكه ؛ وقد بسط ديرك هوجس القول في ذلك في كتابه عن حقوق الإنسان وأعدائها :Die Menschenrechte und ihre Feinde: Machiavelli Edition, Köln 2013. وقد نتج عن ذلك أن الألمان “رفضوا الحداثة السياسية الاجتماعية وشوهوا صورة ألمانيا وعزلوها، وهو الأمر الذي أدى إلى عواقب وخيمة.” انطلاقا من نفس المنطق، استثمر الأوروبيون نفس القيم الإنسانية الحديثة لترسيخ الصورة التي ترسخت في المخيال الغربي عن الغزوات الإسلامية وانتشار الإسلام في أوروبا وعن الحضور الإسلامي في الأندلس الإسبانية وإسقاط القسطنطينية ومحاصرة فيينا مرّتين. ولا ينظر الأوروبي عامة إلى العربي إلا من خلال الصورة التي توارثها عن الرومان. ذكر توم هولاند في كتاب ” في ظلال السيف” In the Shadow of the sword. The battle for the Global Empire and the end of the Ancient World: Little, Brown, London, 2012 أن الرومان كانوا يُشغّلون القبائل العربية كحلفاء foederati مرتزقة على حدود سوريا وفلسطين، وسخّروا ابتداء من القرن الثاني القبائل، مثل قبيلة ثمود المذكورة في القرآن، لتأمين المعابر وحراسة المقاطع الطرقية في الصحراء، مقابل تعويضات مالية هامة. وقد نحت الرومان منذ القرن الرابع مصطلح “الشِّركة” ومصطلح Sarazin والمورو الذي يقال على ساكنة شمال أفريقيا، كما كان اليونان قد نحتوا مصطلح البرابرة قبل ذلك لتسمية الأجانب. ظل الرومان ينظرون إلى الشرقيين كقبائل رحل وقطاع طرق ومتوحشين يفتخرون بتجارة الرقيق وبالسطو على القوافل التجارية لصالح أولياء نعمتهم من الرومان والفرس. وهذا ما يسمح بفهم جرائم الحدود في الإسلام التي تصدت بكل حزم للسرقة وقطع الطريق والبغي والحرابة، وهي العادات التي كانت مألوفة في الجاهلية.استمرت نفس النظرة القديمة في النقد المباشر الذي وجهه Dirk Hoeges من خلال رواد الأنوار إلى الإسلام العثماني. كان الرجل المريض الذي أسقط القسطنطينية وغزا أوروبا لا يختلف عن المسيحية وعن اللاتسامح الديني؛ يذكر مثلا كيف استعمل دانتي صورة نبي الإسلام أداة في الصراع بين القيصر وبابا الكنيسة في الكوميديا الإلهية. كما انتقد دانتي فريديريك الثاني الذي كان شهوانيا ومنغمسا في ملذات الحياة التي تعرفها الثقافة الإسلامية الشرقية. وقد كان نقد مظاهر جمود الإسلام العثماني مناسبة عمل من خلالها الأدباء وفلاسفة الأنوار على نقد الاستبداد السياسي والحجر على الفكر. فقد ذكر Dirk Hoeges كيف منع بايزيد استعمال المطبعة سنة 1483 على سبيل المثال. وذكر كيف ترجم كتاب سيرفانتيس “دون كيشوت” إلى العربية مع حذف كل المقاطع التي تثير السخرية من الإسلام. وخصص حيزا هاما لمقالة فولتير الساخرة من الجمود العثماني الذي اعتبر القراءة وممارسة الطب جريمة سنة 1765 de l’horrible danger de la lectureكانت الكتابة التي تتهكم من الشرق العثماني مناسبة لنقد الواقع الاجتماعي الفرنسي كما تخيله فولتير في “قصر البلادة”. نحن ننتقد الغرب اعتمادا على أدوات ما بعد الحداثة، بينما يقوم الغرب بانتقاد المجتمعات الشرقية اعتمادا على أدوات الحداثة التي لا تعتبر موضة عابرة. وقد يكون من الأفضل أن نعتمد الأدوات التي تنتصر للقيم الكونية المشتركة بدل تقليص جوهر الصراع في قضايا سياسية عابرة. وهذا ما يتطلب منا أن نتعرف بعمق على المرجعية الأخلاقية والحقوقية التي ينطلق منها الغرب، قصد الكشف عن وجهه التاريخي الذي لا علاقة له بالأنوار ولا بحقوق الإنسان.