المقالات

مدينون لغزة (حسناء أشادو)

إن من سنن الله تعالى أن العاقبة للمتقين، وأن الأرض يرثها عباد الله الصالحون، وأنه إذا تخلى أهل الإيمان عن إيمانهم يستبدل الله قوما غيرهم، ويأتي بقوم يحبهم ويحبونه، رحماء بينهم أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيله ولا يخافون فيه لومة لائم، قال الله تعالى:

﴿ وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم﴾ [سورة محمد آية 39]

﴿  إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير﴾ [سورة التوبة آية 39]

﴿  فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون على أن نبدل خيرا منهم وما نحن بمسبوقين﴾[سورة المعارج الآيتان: 40-41]

لقد أصبح كل حر في هذا العالم يعي حق الوعي أنه مدين لغزة، مدين لبقعة جغرافية صغيرة مطهرة أحيت الموات، وأيقظت الإنسانية في القلوب بعد سبات، وعلم أهلها العالم معنى العزة والحرية والصمود، مدينون لها إذ أعادت ترتيب أولوياتنا، وأزاحت عن أيامنا معارك الحياة الفارغة التي طغت عليها الاستهلاكية والماديات، فعدنا نبصر القيمة الحقيقية للنعم التي من الله بها علينا، وأعادت غزة ضبط بوصلتنا التائهة، فاعتقدنا أن هذه الدنيا أتفه من أن يركض وراءها.

مدينون لغزة، فهي من دفعت ثمن فضح ازدواجية المعايير، ثمن المنافحة والذود عن المقدسات، ثمن رفع راية الإسلام والمقاومة في وجه محتل غاشم لا يتقن إلا قتل الأطفال والنساء، ولو أنه برز إلى ميادين القتال لرأيته يفر فرار الجبناء، وأنى لهم النصر على من يقاتل بعقيدة جليلة لا يرجو فيها إلا إحدى الحسنيين: إما النصر فيحيا حرا كريما، وإما شهادة في سبيل الله فيفوز فوزا عظيما، فما ظنك  بمن هذه عقيدته؟‼ وبمن هو أحرص الناس على حياة ولا يقاتل إلا في قرى محصنة أو من وراء جدرỊ.

قال الله تعالى: ﴿  لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون﴾ [سورة الحشر آية 14]

إن هؤلاء الصهاينة أهون من  بيت العنكبوت ولن يستأسدوا على أمتنا وإن أضعفتها الجراح، فقد حاول استئصالها من قبلهم من هم أشد وأقوى، فعادوا يجرون أذيال الخيبة والهزيمة، ورد كيدهم الرجال الصادقون من هذه الأمة رغم ما كانت تعانيه من تفرقة وقلة العدد والعتاد.

نعم، إنه وعد الله تعالى، ووعد الله حق: ﴿  لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون﴾ [سورة آل عمران آية 111]. فقتلة الأنبياء لا خوف على أمتنا منهم، ولا سلطان لهم علينا، فيومهم قريب، يشهد بذلك الوحي الرباني الذي وعد أن يبعث عليهم عبادا لله مخلصين لإنهاء إفسادهم في الأرض ﴿ فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا﴾ [سورة الإسراء آية 5]. وتشهد به كذلك السنن التاريخية أن تلك الأيام يداولها الله بين الناس؛ ويشهد به بعض عقلائهم الذين يرون تأسيس دولتهم لعنة وخطيئة.

فزوالهم آت لا محالة، ولكن لكل أجل كتاب.

مدينون لغزة لأنها أماطت اللثام وأظهرت ما كان جليا خفيا، جليا لذوي الألباب والأبصار، خفيا عمن راح ضحية الاستخفاف بعقله وفهمه؛ الاستخفاف الذي أصبح مقصودا للتلاعب بعقول الأمة، وأداة فعالة لتزوير الحقائق الواضحات، وتحريف صفحات التاريخ المتجليات، وقد ضرب الله لنا الأمثال في قصة فرعون: ﴿  فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين﴾ [سورة الزخرف آية 54]. فما أشبه اليوم بالبارحةỊ.

فكأني بالتاريخ يعيد نفسه، فحرب غزة لا تكاد تكون إلا غزوة أحزاب معاصرة، كشفت ما كانت تخفيه قوى الظلام المتآمرة – عربا وعجما- من خبث وعداء مضمر في صور شعارات وقيم لا يغرنك زيفها، فهي كالسراب يراود العطشان، إذ بدت حقيقتهم سافرة بلا زينة ولا بهرجة، فهم أنفسهم من نصبوا في شرعهم ميزانا للعدل والحقوق أخسروه بازدواجية معايير جعلت قتل المسلم مرغوبا مطلوبا، لا تجنيا وجرما ، وقطرة دم إنسان غربي تقام لها الدنيا ولا تقعد؛ فانطلت علينا حيلتهم دهرا، وعشنا ردحا من الزمن نلوك أكذوبة سلامهم وتعايشهم معنا. فها هو الغرب الحقوقي الذي يزعم الحضارة والإنسانية يهدي أساطيله ومدافعه للمحتل الصهيوني كي يعيث في أرض العروبة فسادا، ويمعن في سفك دماء المستضعفين من النساء والولدان، لا لشيء إلا لما وجده في نفسه من هزيمة وخيبة لما زمجر رجال غزة طوفانا، وصاح أهلها من الحصار والظلم كفانا؛ فصار النضال – في رمشة عين- لنيل الحرية وكسر قيد الاحتلال اللعين إرهابا في قاموسهم الإنساني المزعوم.

وللقصة بقية، فإذا كنا نتجرع الظلم من محتل جبان مدعوم بمناصريه الغربيين الذين يكيلون بمكيالين، فإننا نتجرعه ضعفين من قوم محسوبين على أمتنا يشاركوننا العروبة والإسلام، ويخفون في صدورهم للأمة من العداء وللغرب من الولاء ما الله مبديه، ويقفون على ضفة الحياد في معارك الحق والباطل، ويرتدون زورا قناع الموضوعية والرصانة؛ فهؤلاء هم العدو فاحذرهم.

فإن كان الاحتلال لا يستطيع استعباد أهل غزة الأحرار، رغم محاصرتهم وقتلهم وتجويعهم؛ فإن هؤلاء المرجفين لم يتركوا بابا إلا ولجوه، ولا طريقا إلا سلكوه لاستعباد أبناء الأمة فكريا بتعليم معوج، وتخريب للأسرة ممنهج، وإعلام مشوه سقيم لا ينتسب لقيم الأمة الإسلامية ولا يخدم قضاياها في شيء، وإنما غايتهم قتل الانتماء للدين والهوية في قلوب شبابها، فلا يعرفون بعد ذلك حقا، ولا يميزون باطلا، يخبطون خبط عشواء مع هزيمة نفسية، واحتقار لنفسهم ولأمتهم، مقابل تمجيدهم لكل ما له صلة بالغرب وحضارته المادية ؛ فيعيشون عيشة جاهلية، وإن لم تدركهم رحمة الله ماتوا ميتة جاهلية.

ومن هاهنا يتبين لنا جليا سبب الخذلان الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف: “لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك[1]، وفي رواية أخرى:” لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء، حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك، قالوا: يا رسول الله، وأين هم؟ قال: ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس[2]. فالخذلان لا يأتي من عدو، فالعدو عداوته ظاهرة والأذى منه متوقع، وإنما يأتي من القريب والصديق الذي يرتجى منه الخير والنصرة، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:” لا يضرهم من خذلهم” ولم يقل:” من عاداهم”.

فما تعرضت له غزة من خذلان من إخوانها في العروبة والإسلام ما جاء إلا نتيجة عقود من التدجين للعقول، والتلاعب بالفطر، وقلب الحقائق، وترسيخ الهزيمة النفسية، وتشويه الهوية الإسلامية؛ فتولدت لنا شعوب ناكصة على أعقابها، ذاهلة عن كل نافع إلا عن التفاهات والسفاسف، ومثقفون مردوا على النفاق والتزلف إلى الأبواب العالية، وحركات إسلامية بان عوارها وضعف مناهجها ومحدودية آفاقها، وعلماء ومشايخ يعد السلطان فيهم من حرك شفتيه مرة بدعاء، وإعلام فاسد جند منابره وأقلامه لجلد المقاومة، تارة باسم التهور نظرا لاختلاف موازين القوى، وتارة باسم التنطع Ị لكم هو مؤلم أن يتطاول حبر الزور على دم الشهادة ỊỊ يقول الله عز وجل: ﴿  يا أيها الذين ءامنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما تجمعون﴾ [سورة آل عمران الآيتان: 156-157]

ويقول سبحانه: ﴿  الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل﴾  [سورة آل عمران آية 173].  فأبت غزة إلا أن تنادي في العالمين أن هذا الجهاد ماضِ دفاعا عن مسرى الرسول صلى الله عليه وسلم، ولن يوقفه إجرام عدو ولا خذلان حبيب، وعند الله تلتقي الخصوم. ﴿  فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم﴾ [سورة آل عمران آية 174].

 ولتعلم أن أمة الإسلام الحقيقية مهما مرضت لا تموت، ومهما عانت لا تستسلم، فكل أعدائها ذهبوا إلى مزابل التاريخ وبقيت هي مرفوعة الجبين رغم الجراح. فكذلك غزة كانت وستظل مقبرة لغزاتها، وإنما هي أيام وستمضي بثقلها، سيخرج منها الحق منتصرا، وسيخرج منها الباطل خائبا زهوقا؛ وكان وعد الله مفعولا، يقول الله:﴿ هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا﴾ [سورة الأحزاب آية 11]

﴿ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما ياتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين ءامنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب﴾ [سورة البقرة آية 212]. وإلى شهود النصر نسأله تعالى المدد والسند لأهلنا في البقعة المباركة وأكنافها الطاهرة.


[1] رواه مسلم، 1920.

[2] رواه أحمد، 22320. قال شعيب الأرناؤوط معلقا: حديث صحيح لغيره.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق