مركزية تربية الإنسان في فكر مالك بن نبي(عبد القادر بنقدور)
إن العجز والتراجع الحضاري للأمة الإسلامية في تصور مالك بن نبي إنما سببه الانحطاط الديني والفكري والخلقي وتعطيل ملكة التفكير والاجتهاد، وسيادة الاستكبار والتقليد الأعمى والتعصب للثقافة والأعراف، ولذلك يعتبر تربية الإنسان من شروط تحقيق النهضة عند مالك بن نبي، وتربية الإنسان تستوجب من المسلم الاعتزاز بإسلامه وإيمانه وكرامته وقيمه الحضارية.
ولذلك فإن الإنسان يمثل العنصر الأساسي في المعادلة الحضارية عند مالك بن نبي، وبناء على ذلك فإن من واجب الإنسان الاضطلاع بالوظائف المنوطة به في تحقيق النهضة.
وتأسيسا على ذلك يؤكد مالك بن نبي أن كل إصلاح لابد أن ينطلق من تربية الإنسان وتغيير سلوكه، وهذا يبدأ بتشخيص الداء ثم إجراء عملية جراحية تربوية للإنسان المسلم وتوجيه سلوكه نحو بناء الدولة والعمران والحضارة.
ومن هذا المنطلق فإن الإصلاح في تصور مالك بن نبي يجب أن يرتكز على منهج وخطة تربوية واضحة المعالم والأهداف. فما المقصود بالتربية عند مالك بن نبي؟ وماهي وسائل تحقيقها؟
يراهن المشروع الحضاري لمالك بن نبي على الإنسان وفعاليته وهو حجر الزاوية في المعادلة الحضارية، فهو المنشئ للدولة والحضارة، وهو المعول عليه في تحقيق شروط النهضة، ولا يمكن أن تنبعث الحضارة من جديد إلا بتربية الإنسان وتغيير ما بنفسه من وهن ومن رواسب الماضي والتاريخ. قال الله تعالى:﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [1]
وفي هذا الإطار يرى مالك بن نبي أنه لابد من إعادة بناء وتربية وتأهيل إنسان ما بعد الموحدين؛ حتى يستطيع أداء الأمانة والمسؤولية المنوطة به، وبذلك يدخل المجتمع الإسلامي إلى حلبة التاريخ الحضاري من جديد كممثل ومبلغ وشاهد.
قال الله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [2]
قال الله سبحانه:﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ [3]
يقصد بمفهوم التربية في المشروع الحضاري عند مالك بن نبي أنها:” عملية تركيب لعناصر الثقافة في نفسية إنسان ما بعد الموحدين “. كما يقصد بها أيضا: ” عملية تثقيف متواصلة “.[4]
وقد ركز مالك بن نبي على مجموعة من الوسائل في تحقيق التربية ومنها: العناية بالتعليم والتعلم وذلك بإعادة النظر في مناهج التعليم وصياغة أهدافه وقيمه بحيث حيسهم في حل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية. كما يشكل عنصر الوقت والتراب أحد دعائم تأهيل الإنسان وبث روح الفعالية والإنتاجية في فكره وسلوكه.
ومن زاوية أخرى يؤكد مالك بن نبي على ضرورة تنمية الوعي لدى الإنسان وشحذ إرادته حتى يستطيع اقتحام عقبات التغيير، ومحاربة الجهل والفقر والقابلية للاستعمار.
إن التربية عند مالك بن نبي هي إعادة بناء القيم الأخلاقية والحضارية في شخصية الفرد والأسرة والمجتمع، كي تصبح هي القوة الأساسية الدافعة والموجهة إلى العمل والإنتاج، وهي السبيل لتوجيه عناصر الثقافة وتغيير السلوك الفردي والجماعي وبناء مجتمع متحضر ودولة ديمقراطية، وبهذه التربية الشمولية القائمة على المبادئ الأخلاقية والجمالية والعملية والفنية يتم بناء الإنسان، وبناء المركب الحضاري للمجتمع والدولة.
إن الاشكالية التي تطرح نفسها عند بعض الحركات الاصلاحية هي: من أين يبدأ التغيير والإصلاح؟ هل الأولوية لبناء الإنسان أولا أم بناء المؤسسات؟
لقد تباينت آراء المصلحين في الإجابة عن الإشكالية بين من يرى أن الإصلاح يبدأ من القمة وبناء مؤسسات الدولة، وبين من يرى أن الأولوية تبدأ من تربية الإنسان وتهذيب نفسه وروحه والرقي به في مدارج الإيمان والإحسان، وبين من يرى الجمع بينهما من خلال دعوة الحاكم إلى التوبة العمرية ( توبة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ) فإن تاب ورجع إلى الله أصبح التغيير من القمة ممكنا، وإن تعذر ذلك كانت الأولوية للبناء من القاعدة ومن تربية الإنسان وتوعية الشعب بحقوقه وواجباته.
ويتضح من خلال المشروع الحضاري لمالك بن نبي أنه بذل مجهودات جبارة في بناء مؤسسات الدولة سواء قبل أو بعد ” الاستقلال “، وذلك من خلال الوظائف التي تولاها في الجزائر، خاصة في قطاع العدل والتعليم… لكن الدولة العميقة لم تتح له الفرصة في بناء مؤسسات الدولة. [5]
لذلك يعتقد مالك بن نبي أن الأولوية في بناء وصناعة الإنسان، فهو الركيزة واللبنة الأساس في أي إصلاح أو تغيير، ولهذا المقصد مكث النبي صلى الله عليه وسلم 13 سنة في مكة يربي جيل الرجال من الصحابة الذين ضحوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله تعالى.
إن إصلاح المجتمع وبناء مؤسسات الدولة في تصور مالك بن نبي يبدأ بتغيير الإنسان ما بالنفس من وهن وحب الدنيا وكراهية الموت. ولذلك نجد مالك بن نبي يركز على غرس ثقافة القيام بالواجب وضرورة المداومة على إتقان العمل، وهو ما يجعل الإنسان يكون عنصرا فاعلا في عملية التغيير الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والحضاري.
واستنادا إلى ما سبق فإن تغيير ما بالنفس الإنسانية يبدأ بالعودة إلى القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وما كان عليه السلف الصالح، ثم التمسك بالعقيدة الصحيحة والاجتهاد في أداء العبادات والنوافل، والرقي بالنفس البشرية في مدارج الإيمان والإحسان، ورفض العبودية لغير الله.
إن مركزية تربية الإنسان عند مالك بن نبي هي السبيل الأمثل لتحقيق التغيير والإصلاح المنشود، وهي المدخل الحقيقي لبناء دولة حرة ومستقلة وتحقيق نهضة حضارية شاملة.
وحول هذه الغاية الكبرى يتفق مالك بن نبي مع غيره من المصلحين: مثل ابن باديس، عبد الكريم الخطابي، عمر المختار، علال الفاسي، عبد السلام ياسين، رشيد رضا، الكواكبي، محمد عبده، جمال الدين الأفغاني، حسن البنا، محمد اقبال وسعيد النورسي وغيرهم.
إن التربية بمفهومها الشامل للإنسان نتج عنها تأسيس دولة النبوة والخلافة الراشدة، لكن سرعان ما ستتراجع هذه الجذوة الإيمانية مع حادثة صفين وامتداد حركة الفتوحات الإسلامية، لتغيب هذه الروح الإيمانية عند سقوط دولة الموحدين أو ما أطلق عليه مالك بن نبي ” إنسان ما بعد الموحدين ” حيث ساد التخلف والانحطاط في كل الميادين الدينية والحضارية والعلمية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ويشكل سقوط الدولة الموحدية وسقوط الأندلس وسمرقند وبغداد أحداثا جعلت الأمة الإسلامية خارج التاريخ، حيث لفظت الدولة والحضارة أنفاسها، وأصبح إنسان ما بعد الموحدين يتصف بمجموعة من الصفات منها: [6]
_انتشار الفساد الإداري والمالي والأخلاقي، والاستبداد بالرأي.
_تقليد السلف في اجتهاداته، والاندفاعية في التعامل مع الأحداث.
_ التسامي والعقدة النفسية والشعور بالمذلة والمهانة، حيث أصبح إنسان ما بعد الموحدين يحمل في كيانه جميع الجراثيم والنقائص.
_الحرفية في التعامل مع النصوص الشرعية وتخلف في الذهنية العقلية، والصراع بين النقل والعقل.
_ فقدان الفاعلية والإيجابية وحرص إنسان ما بعد الموحدين على تكديس المنتجات.
_ قابلية إنسان ما بعد الموحدين للاستعمار.
هكذا يرى مالك بن نبي أن إنسان ما بعد الموحدين وصل درجة السقوط الحضاري في مختلف ميادين الحياة، وبذلك ساد الجمود والانحطاط في مختلف المجالات، وأصبح المغلوب مولعا بتقليد الغالب في أحواله وعوائده كما يقول ابن خلدون، ويبدو أن الشرط الأول في معالجة آثار ومآسي ورواسب الانحطاط والتخلف الحضاري يبدأ بتربية الإنسان وتغيير سلوكه والرقي بعقله وروحه ونفسه وقلبه في مدارج الإيمان والإحسان.
بعد بناء هذا الشرط الذاتي والتحرر من القابلية للاستعمار، يصطف الناس حول المشروع الحضاري الإسلامي، فيسعون إلى مقاومة بنية الفساد والاستبداد وأبواقه، ويبدأ ذلك بعصيان مدني وثورة سلمية تشارك فيها كل القوى الحية والوطنية في المجتمع، بغية التأسيس لدستور ديمقراطي وبناء دولة مدنية ديمقراطية.
يقول مالك بن نبي: ” إن نجاح ثورة ما أو فشلها، هو بقدر ما تحتفظ بمحتواها أو تضيعه في الطريق وهذا كله يخضع لقانون. فالثورة لا ترتجل، إنها اطراد طويل، يحتوي ما قبل الثورة، والثورة نفسها، وما بعدها. والمراحل الثلاث هذه لا تجتمع فيه بمجرد إضافة زمنية، بل تمثل فيه نموا عضويا، وتطورا تاريخيا مستمرا، وإذا حدث أي خلل في هذا النمو وهذا التطور، فقد تكون النتيجة زهيدة تخيب الآمال “. [7]
إن إصلاح المجتمع وبناء الدولة المدنية الديمقراطية في المشروع الحضاري عند مالك بن نبي يتطلب تربية إنسان ما بعد الموحدين وبمصاحبة المجتمع وتوعيته وتأطيره سواء قبل الثورة أو في الثورة نفسها أو بعدها، كما لابد من الاصطفاف حول مشروع وطني جامع يؤسس لدولة مدنية ديمقراطية، والحرص على التوافق في تدبير المرحلة الانتقالية وفي تحقيق مطالب الثورة: الحرية والكرامة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وقضاء مستقل وبناء دولة المؤسسات.
ختاما: يظل تربية الإنسان وبث روح المسؤولية والأمانة في نفسه وعقله هي حجر الزاوية في المعادلة الحضارية عند مالك بن نبي، فهي المعول عليها في تحقيق شروط النهضة وتغيير الواقع الاجتماعي.
[1] سورة الرعد الآية: 12
[2] سورة البقرة: 142
[3] سورة آل عمران: 110
[4] أنظر: مالك بن نبي، شروط النهضة، مصدر سابق، فصل العنصر الأول: الإنسان الصفحة 73 وما بعدها.
[5] عمل كاتب عدل في المحكمة الشرعية في منطقة آفلو، ثم انتقل بعدها إلى محكمة شلغوم العيد، ولم يعجبه تسلط كاتب محكمة آنذاك فقدم استقالته. وعمل بالقاهرة مستشارا للأمين العام للمؤتمر الإسلامي حيث حرص على دعم الثورة الجزائرية وحشد الدعم لها، كما قام بدعم القضية الفلسطينية، وبعد عودته إلى الجزائر سنة 1963 م عين مستشارا للتعليم العالي، ثم مديرا لجامعة الجزائر، ثم مدير التعليم العالي ولكنه استقال من منصبه سنة 1968 م. تفرغ للعمل الدعوي بعد عودته إلى الجزائر حيث كان يلقي محاضراته وندواته من بيته.
[6] أنظر مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، مصدر سابق، ص: 36
[7] مالك بن نبي، بين الرشاد والتيه، مصدر سابق، ص: 14