مصيرنا وقرارهم: ارتباطات التاريخ والسياسة:(عبد السلام ديرار)
كل البلدان المسماة ب”العالم الثالث” أو “البلدان التابعة”، كانت مستعمرات لبلدان الغرب، و لا نقول جديدا حين نقول أن المستعمرين لم يغادروا مستعمراتهم إلا بعد أن ربطوا مصيرها بقرارهم، ضمانا للاستمرار في نهب خيراتها (و لسخرية التاريخ، بدون تكاليف هذه المرة…). و بناء على ذلك، فكل ما يحصل بالغرب (المركز) تكون له ارتدادات مباشرة بالمستعمرات السابقة، و على مستوى الارتدادات الاقتصادية، نجد كمّاً هائلا من الدراسات و الأبحاث التي ترصد طبيعة العلاقات الاقتصادية بين “المركز” و “المحيط”، أو “شمال – جنوب” أو بين “البلدان المتقدمة” و “البلدان النامية”… إلى حد أن هناك نظريات و مذاهب حول هذا الموضوع. و بدرجة أقل، هناك كتابات و دراسات ترصد العلاقات السياسية بينها و تبني بشكل أو بآخر، الارتدادات السياسية لتغير “السياسي” بالغرب أو بهذا البلد أو ذاك منه (فرنسا أو بريطانيا مثلا) (انتقال السلطة من اليمين إلى اليسار أو العكس، في الغالب)، بهذا البلد أو مجموعة من البلدان من “العالم الثالث”. و أما ارتدادات التغيرات في البنية العميقة للمجتمعات الغربية، أو “الاجتماعي” فيها، “بالعالم الثالث”، فتكاد تكون من المسكوت عنه، أو الغير مفكّر فيه، أو مختزلة في”الاقتصادي” و “السياسي”، و في أحسن الحالات إشارة إلى “الثقافي” و ارتداداته (كارتدادات انتقال الأفكار الوجودية، أو التحليل النفسي أو التفكيكية… إلى الناطقين بالعربية مثلا)، و هو ما لا يخدم عملنا أيضا، و الذي هو محاولة الإمساك بأثر عودة القديم (الاجتماعي)، الذي فصلناه سابقا (بالغرب)على هذه المجتمعات المسماة “عالما ثالثا”.
و إذا كان التدمير الهمجي الحاقد، على النمط القديم، كما حصل مع العراق، الذي فصلناه سابقا، واضح و عاري، إذ تمّ تدمير بنياته الأساسية و تقطيع أوصاله، بشهادة أحواله اليوم و شهادة و افتخار الفاعلين (تصريح جيمس بيكر المشار إليه سابقا)، فإن أحداثا و وقائع كثيرة، رهيبة تجري بالمستعمرات السابقة، “تتفوّق” على كونها نتائج “رأسمالية متوحشة”، أو “الرأسمالية في مرحلة الامبريالية”، بل حاصل اختلال أعمق، في البنية الاجتماعية للمجتمعات الغربية، و بالضبط في اختلال موازين القوى لصالح عودة “نبلاء جدد”، بكل بشاعة القدماء، في قسوتهم و عدوانيتهم وعشقهم (المرضي) للذهب!، و عنجهيتهم و حقدهم على الآخر (المختلف) و نزعاتهم الإمبراطورية…
و قد يقول قائل ، أن هذا، و لربما أبشع منه مارسه الغرب، في حق الشعوب المضطهدة، طيلة القرن التاسع عشر و النصف الأول من القرن العشرين، و أن الذي كان يقود المجتمعات الغربية آنذاك هو البورجوازية!. و هنا نعيد الإشارة مرة أخرى إلى ما حاولنا توضيحه في مدخل هذا العمل، حول كون التاريخ ليس خطيا أبدا، و أن ليست هذه المرّة الأولى (و الوحيدة) التي سمحت فيها شروط موازين القوى الاجتماعية للطبقة السائدة بالنموذج الاجتماعي (الجديد) بالغرب، ألا تسلك بناء على “معايير” و “قيم” هذا النموذج، و لنا في فرنسا نموذجا أمثل، إذ سنوات قليلة بعد الثورة على النظام القديم، عاد إمبراطور مطلق السلطة لحكم الفرنسيين (1803- 1814)، و عادت الملكية ثلاث مرات (1815- 1824، 1825- 1830، 1830- 1848)، ثم إمبراطورية ثانية بإمبراطور بسلطة مطلقة. كما عرفت هذه المرحلة ثلاث ثورات كبيرة (1830،1848،1871). إنه القتال، تقاتل فيه قوى من أجل دفن الماضي إلى الأبد، و تقاتل أخرى من أجل بعث الحياة فيه، أو تتمادى إلى الفعل و “السلوك” بمعاييره متى أصاب الوهن القوى المقاتلة من أجل دفنه، أو تمّ تغييبها بحرمانها ممّا به ” ترى ” و ” تسمع ” رنات و تقاسيم الواقع والوقائع حولها. و ما اللحظة الراهنة التي تخصّنا ضمن هذا العمل، سوى حال لموازين القوى، و مسار لاتجاه التغيّر (الاجتماعي)، ضمن ذلك القتال بين القديم و الجديد، نحاول الإمساك بخيوطه.
و الأحداث و الوقائع الرهيبة التي تجري بجغرافيا المستعمرات السابقة، و التي هي نتاج أو ارتدادات لعودة القديم بالغرب، متعددة و متشابكة ، سياسية و اقتصادية واجتماعية… و حتى روحية!، و بالتالي فإننا سنقتصر على ما نعتبره شديد الارتباط بالذي يحصل في “الاجتماعي” بالغرب، أي على ما يؤشر بشكل أكثر وضوحا على تخلّص البورجوازية من بورجوازيتها و العودة للنّهل من الماضي، و انعكاس ذلك، فظاعات خارج الغرب.
فغداة أحداث ماي 1968 الشهيرة بفرنسا، و التي كانت شرارتها انتقلت إلى عواصم الغرب، و كشفت الحركية اللافتة التي بلغتها الحركة العمالية مسنودة بالطبقات الوسطى التي وجدت ذاتها ضمن هذه الحركية و حسمت في أمرها بربط مصيرها بها، وجد المالكون للثورة و السلطة أنفسهم أمام خيارين: إما السماح لهذه الحركية بالمضي إلى الحدود القصوى، و التي ليست سوى انتصار الطبقة العاملة سياسيا و اقتصاديا، و إما تدمير هذه السيرورة، أي “الكشف عن وجههم الحقيقي” بلغة السياسة، أو النكوص باتجاه الماضي بلغة عملنا. هكذا بدأ العالم مع بداية السبعينات من القرن الماضي يشهد ما سمي ب”المناطق الحرّة”! (Zones franches) و التي يقصد بها مناطق للصناعة أساسا، وكذلك للتجارة، و حتى الخدمات، يقيمها المستثمرون الغربيون خارج الغرب، أو في “العالم الثالث”، بالموازاة مع إغلاق معامل في عواصمهم. و اتخذت هذه العملية وثيرتها القصوى مع وصول مارغريت تاتشر إلى رئاسة الحكومة البريطانية في بداية الثمانينات، ثم وصول رولان ريغان إلى رئاسة البيت الأبيض، إذ ضمن مخطط شامل لتدمير الطبقة العاملة و التضامن (الرائع!) بينها و بين الطبقة المتوسطة، و حرمان هذه الأخيرة من “قاعدتها”، و من تمّ الإجهاز على كل ما تحقق ضمن النموذج الاجتماعي القائم و هو في حال تحقق وعوده، انتقلت تاتشر (و معها عواصم الغرب) إلى السرعة القصوى في إغلاق المناجم و المصانع، ونقلها إلى “العالم الثالث”، حتى بات الحديث عن “انقراض الطبقة العاملة” بالغرب، و عن “دوخة” الطبقة المتوسطة و دخولها حالة من التنافس الطاحن، طمعا في الحفاظ على موقعها!. و ما تزال هذه المناطق المسماة “حرة” تتسع إلى اليوم، إن لم نقل بوثيرة أكبر. و بالعودة إلى تعريفها، يقول François Bost الذي يشتغل عليها منذ ما يزيد عن عشرين عاما، أن”Free Zone” تترجم في الفرنسية إلى”Zone Franche” ، و في الانجليزية ” Free” تعني في نفس الوقت “حر”و”بدون ثمن” (libre et gratuit). حرّ، و الدخول ليس كذلك، يلزم المرور عبر مراقبة، فنحن في منطقة استثناء و إعفاء… المنطقة الحرة هي منطقة مخصصة للشركات التي تخصص إنتاجها للتصدير.فهي تستفيد من شروط ازدرائية (dérogatoires) للقواعد المحلية. فلا ضريبة على القيمة المضافة (TVA) (الإنتاج المخصص للتصدير لا يخضع لها، وكذلك المواد الأولية (intrants)، أو المنتوجات النهائية). و الضرائب جد محدودة، و لنقل منعدمة. والحصول على عقار لإقامة مشروع، وكذلك الماء و الطاقة، مجّاني أو بثمن بسيط ([1]).