مع ماكلوهان ضد الماكلوهانية في عصر الميديا الرقمية(نصر الدين لعياضي)_2_
3. مرتكزات الفكر الماكلوهاني
تصب مختلف كتابات ماكلوهان في إشكالية العلاقة بين البشر والتكنولوجيا التي شدَّت اهتمام الكثير من الباحثين. فوظَّف أطروحة هارولد إينيس التي تعتمد على عنصرين: الفضاء والزمن، لتفسير دور وسائط الاتصال في نشوء الإمبراطوريات واستمرارها. لقد آمن ماكلوهان بأن كل وسيط يملك خصائص تسمح له بالتحكُّم في أحد العنصرين المذكورين. ومن أجل ديمومة الإمبراطوريات يجب إحداث التوازن بين الوسيط الذي يروم التحكُّم في الفضاء، والوسيط الذي يسعى إلى إعادة إنتاجه عبر التحكُّم في الزمن مستثمرًا الخصائص التالية: الخفة/الثقل، والديمومة/شدة الزوال(29). وإن كان ماكلوهان استوحى أطروحاته من تبعات هذه الثنائية على النظام المركزي، وبسط النفوذ، واحتكار المعرفة، والسرعة في نقل الأوامر والمعلومات، فإن قوة مقاربته تكمن في فكرة التحول الذي يطرأ على الوسيلة وما تحدثه من تغيير في البيئة في الوقت الذي كانت البحوث الإعلامية عاكفة على دراسة قدرتها على نقل الرسائل(30)، وتحليل مضمون ما تنقله.
من الصعوبة بمكان تلخيص جُلِّ أفكار مارشال ماكلوهان التي تضمَّنتها كتبه ومقالاته التي حررها في مجلة “إكسبلوريشنز” (Explorations)(31)، ومقابلاته الصحفية. لذا سنكتفي بعرض أبرز أطروحاته في المحاور المتداخلة التالية:
أولًا: من الوسيط كامتداد للإنسان إلى البيئة الإعلامية
آمن ماكلوهان بأن “الوسيط (Medium) هو امتداد للإنسان”(32). ولم يحصره في وسائل الإعلام التي تحظى بالإجماع، مثل: الصحيفة، والمجلة، والمذياع، وجهاز التليفزيون، بل رآه في كل وسائل النقل والمواد والتجهيزات التي تُمدِّد حواس الإنسان، وتوسِّع نشاطه، ووصفها بأنها امتداد للإنسان لكونها تتوسل بأحد مؤهلاتنا البدنية أو الحسية.
في تأويل مقولة: “إن الميديا امتداد للإنسان” في البيئة الرقمية، ذهب بعض الكتَّاب، مثل: بول لفينسون (Paul Levinson) وروبرت لوغان (Robert Logan) إلى التأكيد أن “مستخدم الميديا الاجتماعي أصبح عبارة عن محتوى”، أي إن الإنسان الذي يستخدم الويب 2، على سبيل المثال، قادر على إنتاج المحتوى أو يسهم فيه(33)، بل إن الإنسان ذاته تحول إلى ميديا، وهذا يحيلنا إلى كتاب “نحن الميديا”(34).
وعندما يتحدث ماكلوهان عن الوسيط فيقصد به البيئة أحيانًا، والتي تعنى أن ظهور أي ميديا جديد يخلق بيئته الخاصة التي تسعى إلى تغيير شروط الإدراك الحسي الخاص الذي يميز هذه الثقافة(35). وغني عن القول: إن هذا المعنى الذي منحه ماكلوهان للبيئة الإعلامية، في سبعينات القرن الماضي، يختلف عن المعنى الذي اكتسبته في مطلع الألفية الحالية، “أي إنها منظومة الفاعلين، والتكنولوجيات، ومحتويات المنتجات في مجال مخصوص أو المتعلق بموضوع معين”(36).
في انتقاله من التفكير في الوسيط إلى البيئة الإعلامية، توصل ماكلوهان إلى فكرة مهمة جدًّا مفادها أن كل ميديا لا تولد مكتملة، بل تسعى في بدايتها إلى استعمال محتويات الميديا التي سبقتها وحتى لغتها. وهذا ينطبق تمامًا على كل وسائل الإعلام تقريبًا. لقد لخَّص أول معدٍّ لشبكة البرامج في التليفزيون الفرنسي، في 1946، هذه الفكرة في الجملة التالية: “إن التليفزيون يتوجه بإمكانيات الإذاعة إلى جمهور ينتظر منه أن يُقدِّم له ما يعادل السينما”(37)، وبالتدريج تستقل الميديا عمَّا سبقها من وسائط الاتصال بعد أن تفرض خصوصيتها، أي تشكِّل بيئتها الخاصة.
ثانيًا: الرسالة المُضَعَّفة
على الرغم من الطابع المطاطي الذي يتسم به تعريف ماكلوهان للوسيط، إلا أنه تضمن فكرة أصيلة، لم يلتفت إليها مجايلوه أو من سبقوه إلى الدراسات الاتصالية والإعلامية، تجسدها المقولة التالية: “إن الوسيلة هي الرسالة”. لقد شكَّلت هذه المقولة مركز الثقل في فكر ماكلوهان. ففي الوقت الذي هيمنت فيه المدرستان: الوظيفية والسلوكية على بحوث الإعلام والاتصال لغاية سياسية (الدعاية) أو تجارية (الإعلان)، طرح ماكلوهان “إشكالية ظلَّت غائبة عن بحوث زمانه وترتبط بعلاقة أنماط الاتصال في المجتمعات. لقد ورد الوسيط في مخطط الاتصال الذي وضعه هارولد لازويل (Harold Lasswell) بيد أن معظم النظريات لم تركز عليه، ولم تسأل قط عن البعد التقني المحض في الاتصال الاجتماعي. لقد ظل الوسيط (الوسيلة)، بشكل ما، علبةً سوداء تُرِكَت مُهِمَّة شرحها وطريقة تشغيلها وبثها لمؤرخي التقنية والمهندسين”(38).
لتوضيح فكرته هذه، ضرب مارشال ماكلوهان مثلًا بمصنع الصناعات الميكانيكية الذي يؤثِّر على عماله وعلى المجتمع بصرف النظر عمَّا ينتجه، بل إن تأثير وجوده في حدِّ ذاته يكون أكثر أهمية من تأثير منتجاته(39). ففي هذا الإطار، يمكن أن نفهم كيف ربط ماكلوهان المطبعة بتشكُّل القوميات ونشوء الإمبراطوريات (الرومانية على سبيل المثال) والحروب “الدينية” في القرن السادس عشر.
إن الميديا من منظور ماكلوهان تتضمن في الغالب رسالة مُضَعَّفة. فالقول بأن تأثير الوسيط قوي وكثيف، لأننا مَكَّناه من وسيط ثان كـ”محتوى”. فمحتوى الفيلم هو رواية، أو أوبرا، وتأثير الفيلم لا علاقة له بمحتواه(40).
ثالثًا: من الخصائص التاريخية للميديا إلى الخصائص الميدياتيكية للتاريخ(41)
لم تكن غاية ماكلوهان التحقيب التاريخي لوسائل الاتصال، بل سعى إلى الكشف عن التحول الذي أحدثته وسائل الاتصال في نماذج الإدراك لدى البشر وتأثيرها الاجتماعي والثقافي على المجتمعات. لذا قسَّم التاريخ البشري إلى ثلاث مراحل أساسية انطلاقًا من هيمنة وسيلة الاتصال في كل مرحلة، وهي: المرحلة الشفوية، تسيطر فيها الكلمة، التي يعتبرها ماكلوهان أول ميديا وأول تكنولوجيا في تاريخ البشرية، والتي تنجز التواصل عن طريق الصوت. لقد سيطرت فيها حاسة السمع لإدراك الكلام، وشكَّلت بذلك الفضاء الصوتي الذي يمنح له ماكلوهان الكثير من الأهمية في تفسير العديد من الظواهر العلمية، مثل الهندسة الإقليدية.
ومرحلة الكتابة والطباعة (مجرًّة غوتنبرغ): تُشكِّل الكتابة في نظر ماكلوهان مرحلة انتقال حاسمة في تاريخ البشرية؛ إذ أزاحت هيمنة الاتصال السمعي لصالح الاتصال المرئي: بروز الثقافة المرئية بعد الثقافة السمعية، التي رُسِّخَت أكثر بفعل اكتشاف المطبعة التي مَكْنَنَة الثقافة، وعملت على توطيد التصور الخطي للزمن والفضاء، ورسخت التفكير العقلاني، وأحدثت التخصصات المعرفية، وأقامت نظامًا من التراتيب الاجتماعية في المجتمع، وأسهمت في تطوير القوميات وتعزيز الديمقراطية.
وأعادت وسائط الاتصال الإلكترونية البشرية إلى مرحلتها الأولى، وفق ما ذهب إليه ماكلوهان، أي المرحلة الشفوية. فدمجت ما شذَّرته المطبعة، وبعثت أشكال التنظيم الاجتماعي القديمة ممثلة في القبيلة. فالميديا الإلكترونية لا تعتبر في نظر ماكلوهان امتدادًا لحاسة واحدة، مثل القول: إن الكتاب امتداد للعين، والكلام امتداد للأذن، بل تُعد عبارة عن شبكة عصبية بأكملها(42). فالثقافة المرئية والسمعية سمحت ببعث النزعة الجماعية والمصلحة العامة التي تشكِّل “القرية العالمية”(43). بالطبع، لقد تجلَّت صورة هذه القرية لماكلوهان في مجرة “ماركوني” عبر التكنولوجيا التناظرية. فماذا عن هذه القرية في ظل التكنولوجيا الرقمية؟ يعتقد الكثير من الباحثين أن التكنولوجيا الرقمية، وشبكة الإنترنت تحديدًا، جعلت من هذه القرية واقعًا ملموسًا(44). وبهذا، تحققت تنبؤات ماكلوهان.
لم يطعن الباحث روبرت لوغان في التقسيم الذي وضعه ماكلوهان لوسائل الإعلام، بل حاول تكييف أفكار هذا الأخير مع التطور التكنولوجي ما بعد العصر الإلكتروني، واقترح إضافة مرحلتين إليه، وهما: مرحلة الاتصال عبر الميمات (memes) قبل المرحلة الشفوية، ومرحلة “الميديا الجديدة”. ففي نظره أن الاتصال الإلكتروني الذي تحدَّث عنه ماكلوهان يشمل عصر الاتصال الجماهيري، وعصر التكنولوجيات الرقمية التفاعلية(45).
يعتقد ديريك دي كيركوف (Derrick de Kerckhove)(46)، من جهته، أن التأمل في الميديا الرقمية يساعد على فهم حدود أفكار ماكلوهان، ويدعو إلى الاستعانة بها في الوقت ذاته للمضي إلى أبعد مما وصل إليه ماكلوهان. واقترح إضافة مرحلة رابعة، وهي مرحلة اللاسلكي التي تستند إلى الوظيفية التقنية للميديا الرقمية، والتي تُحَرِّر الجسد من إكراهات الوقت والمكان بإدماج مستخدميها في المسار الإعلامي.
ومن “مجرة ماركوني” استوحى ماكلوهان استعارة “الإنسان غير المجسم” للدلالة على أن الشخص الذي يتكلَّم عبر الهاتف أو الإذاعة يتحوَّل عبر هذا الجهاز إلى مجرد صوت دون بدن. ويصبح الذي يتحدث في التليفزيون مجرد صوت وصورة! لقد أُوِّلت هذه الاستعارة وكُيِّفت مع البيئة الرقمية لتدل على مقدرة التكنولوجيا الرقمية على جمع أكبر عدد من البيانات عن مستخدم الإنترنت من خلال ما يخلِّفه من آثار في إبحاره في هذه الشبكة. وأضحى باستطاعة محركات البحث، وتطبيقات التجسس في الإنترنت، جمع أكبر عدد من البيانات التي تشكِّل “المستخدم غير المجسم”(47). وفي إطار هذا المعنى، استُلهمت بعض الاستعارات التي تؤكد سيطرة التكنولوجيا على الإنسان، مثل: الإنسان الرقمي (Homo Numericus)(48)، و”الإنسان العاري”، والإنسان وثيقة كأي وثيقة أخرى(50).
رابعًا: تصنيف وسائل الإعلام
صنَّف ماكلوهان وسائل الإعلام إلى صنفين: ساخنة (Hot) وباردة (Cool). واستند في تصنيفه إلى مدى مشاركة الجمهور بحواسه في تعامله مع الوسيلة. فتلك التي تتطلب مشاركة ضعيفة من قِبَل المتلقي/الجمهور، وهي ذات مستوى عال من الوضوح، صُنِّفت ساخنة على غرار الإذاعة، والطباعة، والصور الفوتوغرافية، والأفلام، والقراءة، لكونها تركز على حاسة واحدة تسخنها وتخدِّر بقية الحواس؛ بمعنى أن الحواس تفقد توازنها في استخدامها. وهذا خلافًا للوسيلة الباردة التي تتطلب مشاركة قوية، مثل الهاتف، والخطابة، وأفلام الكارتون، والتليفزيون، التي تستدعي كل الحواس. وتحقِّق توازنها. لقد توصل ماكلوهان من تصنيفه هذا إلى نتائج مذهلة؛ إذ يقول على سبيل المثال: إن التليفزيون يجذب، ويقود انتباهنا بشكل مكثف يكاد يكون تنويميًّا، فيتفاعل إحساسنا وعقلنا معه عبر الإنارة والبلورات الزجاجية(51).