ملاحظات فلسفية حول جائحة كورونا (عز العرب لحكيم بناني)
يطيب لي أن أقتسم مع السيدات والسادة القراء نص المحاضرة التي ألقيتها عبر وسيلة التواصل فيسبوك، في إطار سلسلة محاضرات الجامعة الشعبية يوم السبت 18 أبريل 2020، بدعوة كريمة من الدكتور مصطفى مريزق مؤسس الجامعة وأستاذ التعليم العالي بجامعة مولاي اسماعيل بمكناس.
ما الذي يبرر تدخل الفيلسوف ليدلي برأيه في الموضوع، موضوع جائحة كورونا؟
هذه الجائحة حدث القرن بامتياز، وهو حدث يرفع تحديا كبيرا أمام كل المتدخلين في المجال: سواء كان عالما طبيبا أو مؤرخا أو فاعلا سياسيا أو فيلسوفا يحاول أن يفهم. ولكنه من الصعب أخذ فكرة تاريخ المخاطر التي تحدق بالإنسان دون العودة إلى منظور الأنتروبولوجيا التاريخية، قبل أن ننتقل باختصار إلى المنظور الطبي ومفهوم المناعة؛ ثم سنتساءل إلى أي حد نعتبر فيه كوفيد 19 المتجدد حدثا تاريخيا قابلا للتفسير مثل الأوبئة القديمة بالمغرب. وسنطرح السؤال الإشكالي والمفتوح: ما العمل مع الفيروسات ؟
الإشكال الفلسفي كمقدمة إلى الموضوع،
يرفع كورونا 19 المتجدد تحديا حقيقيا أمام الفيلسوف. ما هو بالضبط؟
اهتم الفلاسفة أمثال هابرماس Habermas ويوناس Hans Jonas بيتر زينغرPeter Singer بإشكالية مستقبل الطبيعة البشرية، واعتبروا في كتبهم عن مستقبل الإنسانية والبيئة والتضامن العالمي أن الإنسانية تواجه إشكاليات تحسين النسل eugénisme والتعديل الوراثي manipulation génétique والتدخل في الخلايا الجذعية والاستنساخ وتجميد البويضات إلى حين إيجاد الوقت المناسب لتخصيبها حتى بعد تجاوز عتبة الشيخوخة والبيئة والرفق بالحيوان والأوزون والمخاطر التي تهدد الإنسانية إذا ما تدخل الإنسان بصورة متهورة في الطبيعة.
انتبه هابرماس وهانس جوناس إلى الكوارث المحدقة بنا واتهمه خصومه بأنه يضخم من هول تدخل التقنية في الطبيعة، لاسيما وأن الطبيعة نفسها كانت ستصنع الكرسي لو كانت تمتلك ساعدي الإنسان. دار السجال هنا حول عواقب تدخل الإنسان في الطبيعة. وإذا ما وضعنا حدودا أخلاقية على الطبيعة سنتجنب بالتأكيد المخلفات الكارثية المرتقبة.
احتل الفيلسوف مع هابرماس موقع الهجوم: فكر الفيلسوف في الطبيعة من موقع العالم المتحكم فيها الذي يخضعها لخدمة الإنسان. واعتمد الفيلسوف على التجارب الجارية في السر وفي العلن داخل المختبرات الدولية والبرامج العلمية التي تجيزها اللجان الأخلاقية.
تغير الوضع اليوم، ودخلنا وضعا نعتبره غير مسبوق، مع أن الإنسانية قد عرفته من قبل وحسبت أنها قد تجاوزته. والحال أننا نعود من جديد من موقع الهجوم على الطبيعة إلى موقع الهروب من الطبيعة: هذا هو منظور الأنتروبولوجيا التاريخية.
هذا الموقف هو الذي درس سلوك الإنسان من موقع الفرار عند توقع الخطر: وهو ما نسميه اليوم الحجر الصحي والتباعد وما إلى ذلك. تحكي أدبيات الأنتروبولوجيا التاريخية كيف أن الإنسان لم يكن في البداية سيد الطبيعة في حضرة الحيوانات الكاسرة التي كانت أكثر منه قوة وبطشا. يحكي علماء معهد Polemos كيف أن الإنسان كان يبدو صغيرا وضعيفاً بالمقارنة مع الحيوانات التي كان يعيش عالة على فتاتها وبقايا طعامها، فيأكل الميتة والفضلات المتبقية. وما ساعد الإنسان على البقاء هو أنه تميز بخصائص الجبن والتخاذل، فكان الفرار أقدم لديه من الهجوم وكان الجبان السعيد يضمن لنفسه حظوظا أقوى في البقاء على قيد الحياة، وكان الجبن وهو تجنب المواجهة غريزة أقوى من غريزة الحرب. ومع التعاقب التاريخي أصبحت المقاومة أكثر ذكاء من الفرار وأصبح التمييز موجودا بين البطل والمتردد والجبان. (Sloterdijk Peter سلوتردايك Kritik der zynischen Vernunft، فرانكفورت 1983 ص 405. وبعدما كان الإنسان الجبان يقتات من بقايا الحيوانات الكاسرة، ظل إلى اليوم يحتفظ في ذاكرته التاريخية بالكابوس المرعب الذي كانت تشكله تلك الحيوانات، فحول الخنافس والنسور والدببة والأسود والخفافيش إلى رموز وطنية ودينية واختزلها في نماذج مصغرة، تظهر مدى الإعجاب بها ومدى الرعب الدفين منها في اللاشعور الجماعي.
وقد استطاع الإنسان أن يتحكم في الطبيعة بعدما استطاع صناعة السلاح واكتشاف النار. ومن بين علامات السيادة على الطبيعة تطوير القدرة على قهر الموت. وأعود من جديد إلى سلوتاردايك لإبراز كيف كانت ممارسة الطب طريقة أخرى في ممارسة القتال :
المنظور الطبي ومفهوم المناعة
تتميز الأمراض مثل السيدا أو السرطان بفقدان المناعة بطريقة مكتسبة، أو ضعف المناعة نتيجة الوهن الذي يعتري الوظائف الأساسية. ويتميز الجسد السليم بمناعة قوية، وما يصدق على صحة الأفراد يصدق على صحة الجماعة. وقد أثار سلوتاردايك في كتاب “نقد العقل الكلبي” (1983) كيف أن مصطلح المناعة في الاصطلاح الطبي أو الحصانة البرلمانية أو الديبلوماسية قد ورد في الأصل من اللغة العسكرية. بل إن لغة الطب لغة عسكرية. نقوم بعملية جراحية كما نقوم بعملية عسكرية ونقاوم هجوم البكتريا والفيروسات كما نقاوم هجوم العدو ونرفع من نسبة الكريات البيضاء كما نرفع من نسبة الجنود للدفاع عن الحصن. ونختبئ بموجب الحجر الصحي كما يختبئ الجنود في الخنادق والملاجئ الإسمنتية المحصنة Bunker ولكن سلوتاردايك انتقل خطوة إضافية في كتبه الموالية (1998) Les sphères ليعتبر أن الإنسان ليس شيئا آخر غير جهاز بيولوجي يقوم على الاحتماء بمجاله الحيوي كما استند إلى قدراته الدفاعية لمواجهة المخاطر الخارجية، منذ أن خرج الإنسان من السافانا.
وقد ظهرت طرق مختلفة لمواجهة الموت وتحملها، كأن نعتبرها قدرا طبيعيا، فكان الراهب لا يحس بحرج أمام الموت بينما تحيز الطبيب للحياة ضد الموت وشارك في سلطة الدول وعايش القوى المسيطرة على الحياة. وتعاظمت ثقة المرضى في الأطباء بقدر ما كانوا يثقون من قبل في السحرة والمشعوذين. وأصبح الطب يعيش في دواليب السلطة والبلاطات، إلى درجة أن هناك ما ادعى أن بقاء الفلسفة في العالم الإسلامي يرجع إلى أن الفلاسفة كانوا أطباء في الأصل. وكانوا يهتمون بالمرضى أكثر من اهتمامهم بالمرض ذاته، ويعالجون مخلفات الأمراض عوض معالجة الأسباب. وقد ظل هذا أمرا طبيعيا في الطب إلى اليوم.
هنا آتي إلى التحدي الموضوع أمام الثقافة الطبية:
كما جاء في كتاب الطبيب النمساوي لودفيج فليك (1896- 1962) : “لم يكن هدف الطب عامة هو معرفة الظواهر المطردة “العادية”، بل هو معرفة حالات “الانحراف” عن الوضع العادي السليم للجسد.” في الكتاب الذي يحمل عنوان: نشأة الواقعة العلمية وتطورها. مقدمة إلى أسلوب التفكير والتفكير الجماعي Ludwik Fleck : Entstehung und Entwicklung einer wissenschaftlichen Tatsache (1935). وقد كان فليك من المصادر الأساسية التي ألهمت توماس كون Thomas Kuhn اكتشاف ممارسة العلم كممارسة اجتماعية تدرس في سوسيولوجية المعرفة العلمية والصراعات الاجتماعية والمصالح الفردية والجماعية. فقد ذكر توماس كون في مقدمة كتاب بنية الثورات العلمية/ أو الانقلابات العلمية وفق ترجمة الأستاذ الراحل سالم يفوت، كيف كان فليك سباقا إلى فكرة إنشاء سوسيولوجية الجماعة العلمية. بمعنى أننا ندرس الجماعة العلمية، في حالة إذا ما وجدت، كما ندرس الفئات الاجتماعية الأخرى كالمقاولة والمدرسة والأسرة وما إلى ذلك.
لم يكن هدف الطب عامة، من زاوية الجماعة العلمية، هو معرفة الظواهر المطردة “السوية” (بالمعنى العام الذي لا يدخل في التفاصيل التي يمكن متابعتها في أعمال الفرنسي كانجيليم G. Canguilhem ، بل هو معرفة حالات “الانحراف” عن الوضع السوي السليم للجسد.
كما أن صياغة قوانين مطردة حول الأحوال المرضية لا تتعلق بالأفراد أنفسهم إلا على نحو جد مجرد، إلى درجة أن القواعد المكتشفة أو القوانين لا تعتبر صحيحة إلا على نحو “إحصائي”. اختبار مدى نجاعة دواء ما هو اختباره على عينة تمثيلية على المستوى العالمي.
كما أن الهدف من ممارسة الطب عملي خالص، فهو لا يسعى إلى توسيع معارفنا النظرية بقدر ما يهدف إلى التحكم في الأمراض. فكل التصورات والنماذج والفروض العلمية التي تحاول أن تقدم تفسيرا نظريا للملاحظات المرضية مطالبة بأن تحقق النجاح على المدى القريب. أما الدراسات المجردة العامة فهي غير مقنعة داخل الطب. توجد هوة فاصلة بين المعرفة العالمة بالكتب والملاحظات التجريبية. في الغالب ما لا تستطيع المشاكل الطارئة في الطب من أن تصف بما يكفي الحالات المرضية الفردية بحكم الحاجة الماسة إلى تحصيل نتائج على المدى القريب (المرجع الأصلي (XX))
كان فليك يجمع بين مهنة الطبيب والباحث في الأوبئة وكان يبحث عن المصل أو اللقاح لعلاج التيفوس، فكان يجمع بين البحث النظري والتطبيقي. لا يهتم فقط بمخلفات الأمراض بل كذلك بالأسباب، ومن هنا أهمية دراسة علم الأوبئة في ارتباطه بالصحة. غير أن ارتباط الطب بالعلاج قلل من أهمية الدراسات النظرية، مثل دراسة الباركتيريا والفيروسات.
بطبيعة الحال، اكتشف الباحثون اللقاحات والمضادات الحيوية للفيروسات والباكتيريا التي تشكل جزءا من الذاكرة التاريخية مثل التيفوس والجذام والطاعون والسل، وأنشئ مستشفى الطبيب كوكار بفاس لدراسة الأمراض المعدية. ولكن مع انقراض مجموعة من الأمراض المعدية أو تضاؤل احتمالات الإصابة بها، تراجع الاهتمام بها على المستوى الدولي.
كوفيد 19 المتجدد وإشكالية الحدث التاريخي
ما هي وضعية التفكير الحالية في كورونا كوفيد 19 المتجدد وكيف تفكر فيها كحدث تاريخي évènement historique؟ حينما يتحدث المؤرخون عن تاريخ الأوبئة بالمغرب (مثل محمد الأمين البزاز) فهم ينسجون سرديات تثير الظاهرة، في حالة ما إذا كانت حدثا معزولا أو تحولت إلى ظاهرة، ويبحثون في اسبابها ونتائجها على البنية السكانية والمعتقدات الدينية والتحولات الاجتماعية.
في هذه الحالة يوجد اختلاف بين الكورونا من جهة وباقي الأوبئة المرتبطة بالبكتريا أو بالفيروسات.
بما أن عوامل تنقل الباكرتريا معروفة عن طريق الحشرات والحيوان أو البشر، عن طريق المستنقعات والأوساخ استطاع المؤرخون أن ينسجوا سرديات تحاول الإحاطة بالعوامل الاجتماعية المختلفة.
وعندما ظهر فيروس السيدا تبين وجود فرق واضح من الناحية الإحصائية بين دول العالم الإسلامي والدول الغربية من حيث حجم الإصابة، وتم ابتكار سردية جديدة تفسر هذا الاختلاف في نسبة الإصابة بعوامل ثقافية ودينية مرتبطة بطرق انتقال العدوى عن طريق الدم والجنس. وقد كانت المفردة البارزة في كل الحملات التحسيسية بالمغرب وخارجه هي مفردة السيدا وليس مفردة الفيروس. ما كان يهمنا أن نعرفه هو طرق انتقال السيدا والفئات المعرضة للمرض وليس مصدر الفيروس؛ كذلك عندما اكتشف فيروس تشمع الكبد من درجة س سنة 1989 لم يعرف نفس النقاش العمومي الذي عرفه مرض السيدا لأنه لم يشغل المتخيل الاجتماعي بنفس العنف الذي ووجه به فيروس السيدا على المستوى الدولي.
عندما نصل اليوم إلى كوفيد 19 نجد أنفسنا في وضعية خاصة:
أولا، لا توجد مسافة تاريخية فاصلة وكافية للحديث عن هذا الفيروس بكامل الموضوعية.
ثانيا، لا يمكن تفسيره بعوامل النظافة والفقر والتخلف والأخلاق (كما نفسر ظهور الأوبئة الناجمة عن البكتريا)، لأنه يصيب الجميع في كل أنحاء العالم.
ثالثا، توجد طرق حماية من داء فقدان المناعة المكتسب ويمكن اتباع طرق معلومة للوقاية من داء تشمع الكبد الفيروسي وغير الفيروسي، أي أن هذه الأمراض ليست خارجة عن السيطرة، ما عدا هذا الداء الجديد.
رابعا، لا نعلم من أين جاء ولا إلى أين يسير. لو كان كائنا حيا لأصبح إرادةَ الحياة بلغة شوبنهاور ولكان إرادةَ القوة بلغة نيتشه ولأتاح لقيم الحياة أن تتطور بصور غير مسبوقة منذ البذرة الأولى التي وفدت على الأرض رُبَّمَا من كوكب آخر أو من النيازك والمذنبات.
لكننا هنا أمام كائن غير حي يهدّد الحياة تهديداً مباشراً وهذا ما لم يتنبأ به أحد. كنا نعتقد إلى حدود اليوم أن التهديد الحقيقي يأتي من كائنات فضائية extraterrestres أو من مذنبات أو من كواكب متحيرة قد تصطدم بالأرض على بعد بضعة سنوات ضوئية احتسبها علماء الفلك بدقة؛ فكر المخرجون السينمائيون في حرب النجوم وفكرت الدول العظمى في حماية الأرض من المذنبات بوضع صواريخ حول الكرة الأرضية وموجهة إلى الفضاء في اتجاه خطر محتمل.
لم يدخل هذا الفيروس يوما ما في دائرة احتمالات العلماء على المستوى الدولي. وكان توقع التهابات التنفس الحاد مرتبطا في كل مستشفيات العالم باحتمالات التعرض لأمراض الجهاز التنفسي، ما دامت توجد أمراض يجب أن تحظى بقدر مماثل من الاهتمام مثل أمراض السرطان وصحة الأم والطفل والأمراض العصبية النفسية والقصور الكلوي.
ماذا ينفع اليوم أن نقول إن الوباء نتيجة مؤامرة أو نتيجة خطأ غير مقصود في التعامل مع بعض الفيروسات في المختبرات؟
تحاول هذه السرديات الجديدة أن تبحث عن تاريخ هذا الوباء وعن إرهاصاته وعوامله البشرية، كما لو كان يدخل في باب المحتمل والموقع والمرتقب. حقيقةً أن العالم كان يخشى من أسلحة ABC، أي من الأسلحة النووية والباكتيرولوجية والتقليدية، ويمكن الحديث عن مؤامرة بشأن الأسلحة الباكتيرولوجية، لأنه يمكن تربية الباكتيريا وتحويلها إلى سلاح إرهابي،
ولكن في الأخير ما العمل مع الفيروسات ؟
نحن هنا أمام واقع جديد يتحدى العالم بالكامل. ولا أدري هل بالإمكان نسج حكاية جديدة:
- الصعوبة الأولى وهي أنه يصعب الحديث عن إرهاصات أو أسباب أو عوامل بشرية سبقت ظهور الفيروس، ولو كان الأمر كذلك لانتبهت عشرات المختبرات لذلك،
- الصعوبة الثانية هو أننا لا نستطيع اتهام فئة اجتماعية بنشر العدوى لأسباب أخلاقية أو دينية أو عرقية، فلا يميز الفيروس بين الناس ولا يعتبر جزاء ولا عقابا، ولا ندري هل نجد له دواء أو مصلا قبل أن يتفشى في العالم ويقضي على شرائح اجتماعية كاملة.
- الصعوبة الثالثة أننا ملزمون بالاحتراس من القول لكل داء دواء. أفضل هنا إيراد حكمة زهير بن أبي سلمى:
رأيت المنايا خبط عشواء من تُصِب تُمِتْهُ ومن تُخطِئ يُعَمَّر فيَهرَمِ
عرفت السينما في العقود الماضية ظهور أبطال نصف خفافيش أو نصف عناكب ونصف بشر مثل باتمان وسبايدارمان ولكن السوبرمان يظل هو الجنس الأعلى الذي انتقل من مستوى الكائن-الجبان في بداية الإنسانية إلى الكائن الذي روض الطبيعة وكل الحيوانات والحشرات نفسها وعاد من جديد إلى نفس وضعية الإنسان-الخائف والمختبئ داخل كهوف الإسمنت. وتدخل حكاية انتقال العدوى من الخفاش إلى الإنسان في يوهان في دائرة هذا المتخيل البدائي الذي جعل الخفاش يشكل تهديدا لمستقبل الإنسان ويعيد الإنسان إلى وضعه الأول.
لقد فرضت حالة الخوف والهلع ميكانزمات دفاع بدائية وهي الاختباء في الكهوف الإسمنتية داخل المجال الخاص، وبدأ المجال العمومي والحياة الاقتصادية يتعرضان لمخاطر الانهيار وشرع الحجر الصحي في التأثير على الحياة المشتركة داخل مساكن ضيقة وواطئة وغير قادرة على تحمل الاحتكاك المباشر طيلة النهار والليل.
عدنا من جديد إلى حياة الإنسان البدائي الذي كان يختبئ في الكهوف ريثما تمر الجائحة، ولكنه على خلاف البدائي أصبح يتخوف بجدية من ضياع كل المجهودات التي بذلها لإنشاء حياة اقتصادية خارج الكهوف. وبما أن هذه الوضعية الجديدة يعيشها الإنسان كإنسان يفرض علينا المشاركة في إيجاد بدائل محلية في أفق الوصول إلى حلول كونية، ما دامت مخلفاته كارثية على مختلف الشعوب بنسب متفاوتة حسب درجة تأثر البنيات الاقتصادية. وإذا كان يكفي إنسان الغابة أن يختبئ في الكهوف لإنقاذ الحياة، فإن مشكلتنا نحن تتعلق أولا بإنقاذ الحياة، والأداة الوحيدة هي الحجر الصحي أولا وهي وضع عقار ودواء على المستوى المتوسط، وتتعلق ثانية باستمرارية الحياة وبالتنمية المستدامة والحفاظ على كرامة الإنسان.
تطرح مشكلة البقاء علينا كما طرحت على إنسان الكهوف في بدء الإنسانية. مشكلتنا الآن هي مشكلة حماية النوع البشري من الموت، وحماية المرضى والعجزة والحالات المعقدة في الحاضر. ولكن مشكلتنا هي كذلك مشكلة المستقبل، وكيف نعيد الأمل ونبني المستقبل؟
نعيش اليوم تمزقا فعليا بين واجب إنقاذ الحياة، حياتنا وحياة الآخرين، وواجب الحفاظ على الحد الأدنى من المؤسسات الاقتصادية والحركة التجارية، نريد الحفاظ على الحياة دون أن ننهار اقتصاديا واجتماعيا، وإلا سنقول قول الشاعر:
من لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد