ملاحظات منهجية في دعوى مراجعة التربية الدينية.(بقلم أحمد الفراك)
في الوقت الذي ينتظر فيه المغاربة إصلاحا حقيقيا للتعليم والسياسة التعليمية للخروج من دائرة التردي التي حولت المدرسة المغربية عموما إلى فضاء بلا معنى، طلع علينا الخطاب الرسمي المغربي ليختزل المراجعة الشاملة للتعليم في “التربية الدينية” فقط، مما أفضى إلى إحداث نقاش مجتمعي يسائل مضمون ومنهجية هذه المراجعة. مع العلم أن الجميع يتفق على ضرورة مراجعة المناهج الدراسية في المغرب مراجعة جذرية، إذ لا عيب في المراجعة وإنما في منهجيتها ومضمونها. وقد لاحظت على الدعوى الرسمية ومن يدور في فلكها الوقوع في الأخطاء المنهجية الآتية:
- التجزيء: عندما تهم دولة بمراجعة سياساتها تبدأ بالكليات قبل الجزئيات، وبالأصول قبل الفروع؟ أليست المناهج والبرامج والمقررات التعليمية كلها في حاجة إلى مراجعة وتطوير؟ أليست السياسة التعليمية التي أوصلتنا إلى الفشل الذريع على جميع المستويات هي الأَولى بالمراجعة الجذرية؟ ثم ألا تحتاج مقررات البيولوجيا والجيولوجيا والفيزياء والفلسفة والاجتماعيات والدراسات الأدبية بالإضافة طبعا إلى الدراسات الإسلامية إلى مراجعة لتلائم العصر؟
- الاستهداف: لماذا استُهدفت التربية الإسلامية دون غيرها؟ هل هناك دراسات علمية موضوعية أثبتت أن الذين يتلقون دروس التربية الإسلامية يتحولون إلى إرهابيين؟ أم أن الإرهاب يُصنع خارج أسوار المسجد وخارج أسوار المدرسة؟ وخارج الكتاب المدرسي عموما؟ أليست تهدف مادة التربية الإسلامية في البرامج الحالية إلى أن يصير المتعلم “قادرا على معرفة ذاته المتشبعة بالقيم الإسلامية المتسامحة والقيم الحضارية، وقيم المواطنة، وحقوق الإنسان، وبلورة ذلك في علاقته مع الآخرين”؟[1].
- الجسارة: في سياق دعوى مراجعة التربية الدينية نلاحظ فشو خطابٍ إيديولوجي تحريضي يتحدث على الإسلام بجسارةٍ لا تراعي قدسية مبادئه ومكانة قيمه وتشريعاته في قلوب وعقول وسلوك ملايين الناس. لذلك ولأمر ما يتم ترويج التفسير الإديولوجي للاعتقاد تقليدا لقراءات فلسفية حداثية لادينية، وكأن بعض المثقفين يريدون أن يفتوا للناس في ما يصلح من دينهم وما لا يصلح منه ! فتراهم يُفتون بالحلال والحرام حسب أهوائهم وأحيانا بما يوافق نظرة الآخر ودينه وقيمه، ويزعمون أن الإسلام لا يحترم الآخر في حين أنهم لا يتحدثون عن الآخر الذي لا يحترم الإسلام؟ أليس هذا الآخر هو أيضا آخر لغيره يجب عليه احترامه في كليته؟ وفي النهاية تجد هؤلاء لا يريدون من التربية الإسلامية إلا التربية غير الإسلامية.
- عدم مراعاة التخصص: على خلاف جميع التخصصات التي يهتم بها أهلها ولا ينازعهم أحد، نرى أن التربية الإسلامية يتدخل فيها الجميع، ويريد تغيير مناهجها من لا علاقة لهم بها. فهل يصح أن توكل مهمة المراجعة لغير أهل التخصص العلمي والاحتراف المهني؟ والدولة ألفت أن تجهز على بعض المضامين والتخصصات والشعب بمجرد التوهم أو جبر خاطر جهة معينة كما وقع لما أجهزت الدولة على الفكر الإسلامي من مقرر الفلسفة في التعليم الثانوية بجميع شُعبه منذ سنة 2004، توهما أن كل ما له علاقة بالإسلام يسهم في صناعة التطرف. بيس ما يفعلون !
- القلْب: ويعني قلب الحقائق أو قلب الأولويات، مثال ذلك إرجاع مشكل التعليم إلى التربية الإسلامية. والأولى هو إصلاح الأفسد. ألا أيهما أفسد على المواطنين؟ الإعلام أم التعليم؟ أيهما أولى في المراجعة أالتربية الإعلامية القائمة على المسخ الثقافي؟ أم التربية السياسية القائمة على الفساد والاستبداد؟ أم التربية الإسلامية التي تحصن التدين والاعتقاد؟ ثم هل “عدم ملاءمة مضامين الدروس المقررة مع المدرسة العصرية” يفيد بالضرورة أن التربية الإسلامية هي المسؤولة عن إنشاء مدرسة عصرية؟ وهل كل شيء عندنا عصري حتى نجعل من نصوص الدين مشجبا نعلق عليه تقلص فهمنا وفساد استدلالنا؟
- التنصل: يرى الكثير من الباحثين أن الدولة لها مسؤوليتها الأولى والأخيرة في صناعة التطرف والعنف خارج المؤسسة وأحيانا داخلها، وذلك لإقامة توازنات لصالحها، وبتشجيعها لمؤسسات وجمعيات لها ارتباطات بالخارج المخالف لتدين المغاربة. إضافة إلى تعاملها مع القضية التعليمية بحساسية سياسية مُبالغ فيها، تهدف منها إلى تكوين شخصية نمطية لا مسؤولة، ومواطن عاجز عن الإبداع والنقد. فتراها تطل علينا في كل حين بأنها ستأتي بمخطط إصلاحي استعجالي أو غير استعجالي تفرضه من فوق، وبكُلفة مالية ولوجستية ضخمة وبعد مُديدةٍ قصيرة تتخلى عنه بدعوى جديدة وخطاب جديد يلعن السابق وينفخ الريح في اللاحق لعله وعساه.
- التناقض: الدولة تزعم أنها صنعت نموذجا للتدين لا يضاهى في العالم ! وفي نفس الوقت لا تفتأ توقظ عشرات الخلايا الإرهابية النائمة، ثم هل التربية الإسلامية هي التي كانت وراء 150 خلية ادعت الدولة أنها أخمدت نشاطها منذ سنة 2002؟ إضافة إلى أن الدولة استجارت بالتيارات المتشددة ودعَّمتها قصد محاربة الحركة الإسلامية المعتدلة، ومن تلك التيارات نشأ التطرف والعنف غير المسبوق في المجتمع المغربي المأهول بالعلماء والمدارس العلمية الدينية والمساجد والزوايا، فهي تجني ما زرعت سياساتها الخرقاء.
- الجحود: للأسف بعض المثقفين يتعاملون مع “الدين” وخاصة “الإسلام” كما لو كان أسطورة “ميتوس” تقابل العقل والمنطق والعلم “لوغوس”، فينسبون للدين كل تخلف أو عنصرية أو كراهية، في حين دولة المواطنة الحديثة كلها تسامح وحب واحترام ! هؤلاء لا يحترمون دين المغاربة، ولا يكلفون أنفسهم عناء معرفة الإسلام إلا في بعض التفاصيل…فضلا عن مساءلة أنفسهم عن أسئلة الدين وأجوبته الكبرى التي تتجاوز سجون المثقف وشجون الفيلسوف؟ وإلا كيف يزعم زاعم أن القرآن يتضمن نصوصا تجاوزها العصر؟ أو هو تعبير عن عزاء للضعفاء الذين لما يسعدوا بعد بمنجزات الحضارة العصرية؟
- الافتراء: يدعي بعض من كتبوا في الموضوع أن المقرر الدراسي الحالي يحمل تناقضا في مضمونه بين احترام الحقوق وانتهاكها، بين القيم السمحة والقيم العنيفة، وبالتالي ينبغي تغييره “لتكريس التسامح والاعتدال”. وبيِّن أن هذا الادعاء في غير موضعه، إذ التناقض غير موجود أصلا في نصوص القرآن وإلا أية قيم بالضبط يريدون إزالتها؟ وهل هناك قيم في الإسلام غير صالحة؟ وهل فعلا “درس التربية الإسلامية حصّة للترويض الإيديولوجي ضد العقل والعلم والقيم الإنسانية”؟ ثم لماذا لم ينتبه هؤلاء إلى التناقض بين الدعوة إلى تدريس القيم العصرية وبين ترسيخ إيديولجيا نظام تقليدي عبر مقررات التاريخ والتربية الوطنية؟ ناهيك عن التناقض اليومي الصارخ بين الدعوة إلى تبني قيم المواطنة وبين القمع اليومي العنيف المسلط على المواطنين في الشارع (الأساتذة، الأطباء، الممرضون، الدكاترة، المجازون…)؟
- الخلط: لا شك أن الإسلام ليس هو تاريخ المسلمين واجتهاداتهم وآراء العلماء ومواقفهم المظروفة بظروفهم، فالنص المؤسس للمعرفة والأحكام من قرآنٍ كريم وحديث نبوي ليس هو فتاوى وتفسيرات الفقهاء. لكن بعض الـمُغرضين يريدونها عِوجا دائما فيستدلون بأقوال منتقاة من كلام الفقهاء قصد محاكمة الإسلام، وينسبون تخلف المسلمين إلى دينهم. فيخلطون بين الدين والتاريخ لرد الدين جملة ما عدا بعض القيم التي توافق نموذج “الدولة العصرية” كما يتصورونها، أو يريدون عرض الإسلام على مزاجٍ يخص فئةً لادينية تقرر في الدين والعلم والعقل بهواها. وتزعم باطلا أنها تناصر قيم المواطنة المشتركة بين البشر.
يستدل أحد المتحمسين كثيرا لتغيير مناهج التربية الإسلامية على “تغلغل العقائد الترهيبية في جميع المؤسسات التعليمية على مختلف درجاتها” بفتوى للمجلس العلمي الأعلى ينص فيها على قتل المرتد. وهذا خطأ فادح لأن هذا المجلس ليس مؤسسة تعليمية بل هو مؤسسة سياسية فوقية لا علاقة لها بالمدرسة. وهنا كان على صاحبنا أن يبدي شجاعة أكبر ليسائل الأساطير المؤسسة للبنية المخزنية.
هذه الأخطاء مجتمعة لا تؤهل القائمين على الشأن التعليمي ولا الذين يمدحون كل ما هو رسمي بأجمل المدائح للنهوض بقضية وطنية مصيرية يُصنع فيها الإنسان والمجال والمستقبل. إلا إذا تُدوركت الأمور ورجع النقاش إلى مصدر الخلل في جميع السياسات وأُشرك الجميع في حوار مجتمعي مفتوح وعلني. حوار يتخلص من هذه الأخطاء المنهجية المانعة للتوافق والإصلاح على أسس مجتمعية صلبة. آنذاك نقول أن الوطن يجمع أبناءه ليصلح أوضاعه، وإلا فلا مستقبل يُرجى لتلك السياسات الاستعلائية التي لا تبرح تكرر فشلها دون استحياء.