مناط التكليف بين الفردية والجماعية (2) (الفروض العينية والكفائية) – مولاي المصطفى صوصي
المبحث الأول: حقيقة الفرض الكفائي، وعلاقته بالفرض العيني:
المطلب الأول: فرض الكفاية، مفهومه وحقيقته:
تعتبر الأحكام الشرعية القطب الأول من علم أصول الفقه من جملة أقطابه الأربعة([1])، باعتبارها الغاية والنهاية من وراء كل نظر واجتهاد، ولكونها الثمرة المطلوبة والبغية المرجوة.
وهي عند العلماء بالأصول تتفرع إلى قسمين، أحكام تكليفية وأخرى وضعية، والتكليفية بدورها تتفرع إلى أقسام([2])، في مقدمتها الفروض أو الواجبات([3]).
وقد ذكر الأصوليون للفروض (أو الواجبات) تقسيمات باعتبارات مختلفة، والذي يهمنا في ما نحن بصدده هو تقسيم الفرض باعتبار فاعله، والذي بموجبه تفرعت الفروض إلى عينية وكفائية.
وبناء عليه فقد عرف الأصوليون فرض الكفاية بعبارات وألفاظ متقاربة في معظمها نذكر منها:
قول الغزالي في تعرِيفه أنه: هو “كل مهم ديني يراد حصوله ولا يقصد بِه عين من يتولاه”([4]).
وقول ابن السبكي وابن النجار وغيرهما أن: “فرض الكفاية، مهم يقصد حصوله من غير نظر بالذات إلى فاعله”([5])، بحذف (ديني) من تعريف الغزالي لأن فرض الكفاية يكون في الديني والدنيوي، وزيادة (الذات) لأن الفاعل مقصود بالعرض بحسبهم.
وعرَّفه آخرون – منهم الإسنوي بأنه: “إيقاع الفعل مع قطع النظر عن الفاعل”([6])، كما عرفه صاحب تيسير التحرير بأنه: “مهم متحتم قصد حصوله من غير نظر إلى فاعله”([7]).
وعرفه العز بن عبد السلام بقوله: “واعلم أن المقصود بفرض الكفاية تحصيل المصالح ودرء المفاسد دون ابتلاء الأعيان بتكليفه”([8]).
ومن جهة ثانية فقد أوردوا سبب إطلاق وصف الكفاية على هذا النوع من الفروض، وهو كون فعل البعض كافٍ في تحصيل المقصود منه، والخروج عن عهدته، بخلاف فرض العين فإنه لابد من فعل كل مكلف بعينه. قال القرافي([9]): اعلم أنه إنما سمي كفاية؛ لأنه يكفي فيه البعض عن الكل. وسمي الآخر فرض الأعيان؛ لأنه واجب على كل عين”، وقال صاحب رَفْعُ النِّقَابِ عَن تنقِيح الشّهابِ([10]): “يسمى فرض الكفاية؛ لأن البعض يكفي في القيام به. ولأجل ذلك يقال في معناه: هو الواجب الذي يسقط عن المكلف بفعل غيره، وسمي فرض العين بفرض العين لتعلقه بكل عين ولا يكفي فيه البعض عن البعض.”
فهذه التعريفات يلاحظ عليها اتفاقها على الاهتمام بحصول الفعل دون الاهتمام بالفاعل الذي يأتي النظر إليه تبعا لا أصلا؛ ولذلك تكرر هذا المعنى في التعريفات السالفة الذكر: “من غير نظر بالذات إلى فاعله”، و”مع قطع النظر عن الفاعل”، و”من غير نظر إلى فاعله”، و”دون ابتلاء الأعيان بتكليفه”، وربما يكون هذا من الأسباب –فضلا عما سبق- التي أسهمت في عدم الاهتمام بهذا الفرع من الفروض وتعطيله، فمما وقر في أذهان الناس وقلوبهم أن هذه الفروض ليسوا مطالبين بها، وفي أحسن الأحوال فهي مندوبة، أو من اختصاص الدولة أو طائفة العلماء. كل هذا وغيره يستدعي إعادة صياغة المفهوم، بما يبرز الفاعل ويحدده، فضلا عن إعادة النظر في التسمية.
وقد استعاض عن هذا المركب الوصفي، خاصة وصف “الكفاية” منه، العديد من المعاصرين فذكروا بعض الإطلاقات من قبيل: الفروض (أو الواجبات) الاجتماعية، والفروض العامة، والفروض التضامنية.
لكننا نميل إلى نعتها بالفروض (أو الواجبات) الجماعية، في مقابل الفردية، ونعزو ذلك إلى أسباب ودواعي عديدة منها:
أولا: إن معظم الفروض الكفائية تحول في هذا الزمان إلى فروض عينية، بعدما رمتنا الأعداء عن قوس واحدة عسكريا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا ….
ثانيا: إن القيام بها يحتاج إلى تضافر جهود المكلفين وتعاضدها، فضلا عن تنسيقها وتخطيطها، وهذا لا يكون إلا جماعة وبشكل منظم، وهو معنى قولهم: القادر والمؤهل عليه أن يقوم بالواجب الكفائي وأن يؤديه، وغير القادر عليه أن يحث القادر ويحمله على القيام به. فضلا عما يتأكد لنا يوما عن يوم من عدم كفاية أحد عن الأمة.
ثالثا: كون العلماء أنفسهم اختلفوا في تعيين الفروض الكفائية من غيرها …. قال ابن القيم في أثناء حديثه عن العلم المفروض تعلمه: “وَأما فرض الْكِفَايَة فَلَا اعْلَم فِيهِ ضابطا صَحِيحا فان كل أحد يدخل فِي ذلك ما يظنه فرضا فيدخل بعض النَّاس فِي ذَلِك علم الطِّبّ وَعلم الْحساب وَعلم الهندسة والمساحة وَبَعْضهمْ يزِيد على ذَلِك علم أصول الصِّنَاعَة كالفلاحة والحياكة والحدادة والخياطة وَنَحْوهَا وَبَعْضهمْ يزيد على ذَلِك علم الْمنطق وَرُبمَا جعله فرض عين … وكل هَذَا هوس وخبط … وَمن النَّاس من يَقُول ان عُلُوم الْعَرَبيَّة … تعلمهَا فرض كِفَايَة لتوقف فهم كَلَام الله وَرَسُوله عَلَيْهَا وَمن النَّاس من يَقُول تعلم اصول الْفِقْه فرض كِفَايَة … وَهَذِه الاقوال وان كَانَت اقْربْ الى الصَّوَاب من القَوْل الاول فَلَيْسَ وُجُوبهَا عَاما على كل أحد وَلَا فِي كل وَقت وَإِنَّمَا يُجيب وجوب الْوَسَائِل فِي بعض الأزمان وعَلى بعض الأشخاص … وَبِالْجُمْلَةِ فالمطلوب الْوَاجِب من العَبْد من الْعُلُوم والأعمال إِذا توقف على شَيْء مِنْهَا كَانَ ذَلِك الشَّيْء وَاجِبا وجوب الْوَسَائِل وَمَعْلُوم ان ذَلِك التَّوَقُّف يخْتَلف باخْتلَاف الأشخاص والأزمان والألسنة والأذهان فَلَيْسَ لذَلِك حد مُقَدّر وَالله أعْلَم([11]).
رابعا: توقف استقامة حال الأمة وحملها لرسالتها على إقامة هذه الفروض العظيمة، المتعددة الأبعاد، والممتدة الأطراف لمختلف القضايا والمجالات الحيوية والمصيرية… خلافا لمن يحصرها في الجنازة وإنقاد الغريق ورد السلام انسجاما مع الإسلام الفردي.
([1])– قال الإمام الغزالي: “جملة الأصول تدور على أربعة أقطاب: القطب الأول: في الأحكام، والبُدَاءة بها أولى لأنها الثمرة المطلوبة. القطب الثاني: في الأدلة … وبها التثنية إذ بعد الفراغ من معرفة الثمرة لا أهم من معرفة المثمر. القطب الثالث: في طريق الاستثمار، وهو وجوه دلالة الأدلة … القطب الرابع: في المستثمر وهو المجتهد ..” ينظر المستصفى: 7-8-9.
([2])– (ذكر تقسيم الفقهاء والأحناف).
([3])– على مذهب الجمهور القائلين بالترادف خلافا للأحناف. ينظر الإحكام في أصول الأحكام للآمدي: 1/99. و شرح مختصر الروضة لنجم الدين الطوفي: 1/265. والإبهاج في شرح المنهاج لتقي الدين السبكي وولده تاج الدين: 1/55.
([4])– ينظر المنثور في القواعد الفقهية للزركشي: 3/33، والبحر المحيط: 1/321، و رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب
لتاج الدين عبد الوهاب بن تقي الدين السبكي: 1/502.
([5])-جمع الجوامع: 1/ 183، وشرح الكوكب المنير: 1/ 375.
([6])-التمهيد للإسنوي: 74.
([7])-تيسير التحرير: 2/ 213.
([8])-قواعد الأحكام في مصالح الأنام: 1/51.
([9])-نفائس الأصول في شرح المحصول: 3/1455.
([10])-رَفْعُ النِّقَابِ عَن تنقِيح الشّهابِ: 2/605-606.
([11])– مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة: 1/157 وما بعدها.