المقالات

من اعتزال الفتنة إلى اعتزال الشأن العام(خالد العسري)

“قال رجل: أي الناس أفضل يا رسول الله؟ قال: مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله. قال: ثم من؟ فقال: ثم رجل معتزل في شعب من الشعاب يعبد ربه، ويدع الناس من شره”*

إن رأس الإسلام وعموده وذروة سنامه الجهاد، وقطب رحى الجهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو أمر حث الله عز وجل عليه المؤمن سواء كان فردا كما نجد في وصية لقمان لابنه: “يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُور” لقمان:١٧ ، أو في جماعة: “وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون” آل عمران: ١٠٤.

وقد امتدح الله القائمين بواجب الأمر بالقسط، فقال سبحانه: “إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ” آل عمران: ٢١، قال ابن العربي المالكي معلقا على الآية: “قال بعض علمائنا: هذه الآية دليل على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وإن أدى إلى قتل الآمر به. وقد بينّا في كتاب “المشكلين” الأمر بالمعروف والنهيَ عن المنكر وآياته وأخباره وشروطَه وفائدتَه. وسنشير إلى بعضه ههنا فنقول: المسلمُ البالغ القادِرُ يلزمه تغييرُ المنكر؛ والآياتُ في ذلك كثيرة، والأخبارُ متظاهرة، وهي فائدة الرسالة وخلافة النبوة، وهي ولاية الإلهية لمن اجتمعت فيه الشروط المتقدمة. وليس من شرطه أن يكون عدلا عند أهل السنة”[1].

فهل يقبل من مؤمن عذر إذا استقال من ميدان التهمم بالشأن العام، وانصرف إلى خويصة نفسه، واعتزل المجتمع دون استفراغ جهده في إصلاحه، ولا مواجهة مع ظلمته؟

لم يشرع الله عز وجل في ذكره الحكيم موقف الحياد من الأحداث الجسام، بل إن اقتتلت فئتان مؤمنتان وجب الاصطفاف ضد الفئة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله، فلا يمنع إيمان تلك الطائفة من مقاتلتها على بغيها، والمؤمن مأمور أن يكون مع الحق وإن قل أهله، وضد الباطل وإن كثر أنصاره. لكن ما العمل إذا اختلط الأمر حتى لا يعلم مؤمن مع أي من الفريقين يصطف؟ وأي الفئتين هي الباغية؟ إن المؤمن هنا لا يصرفه عن الجهاد إرادة كسولة تبغي عافية الجبناء بقدر ما يمنعه من الاصطفاف مع أهل الحق صعوبة في الفهم وتقدير الأمور.

إن اختلاط الحق بالباطل حتى لا يدرى الخيط الأبيض من الخيط الأسود يسمى باللفظ النبوي فتنة، فإذا كانت؛ فإن وصية الرسول عليه السلام عندها للمؤمن هي الاعتزال والمقاطعة السلبيان المنتظر صاحبهما أن تنقشع عن الأحداث الأدخنة حتى يعلم المسار.

قال الرسول صلى الله عليه وسلم لصحابته الكرام: “إنها ستكون فتن، ألا ثم تكون فتنة القاعد فيها خير من الماشي فيها، والماشي فيها خير من الساعي إليها. ألا فإذا نزلت، أو وقعت، فمن كان له إبل فليلحق بإبله. ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه. ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه. قال، فقال رجل: يا رسول الله! أرأيت من لم يكن له إبل ولا غنم ولا أرض؟ قال: يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر. ثم لينج إن استطاع النجاء. اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت ؟ اللهم هل بلغت ؟ قال، فقال رجل: يا رسول الله! أرأيت إن أكرهت حتى ينطلق بي إلى أحد الصفين، أو إحدى الفئتين، فضربني رجل بسيفه، أو يجئ سهم فيقتلني؟ قال: يبوء بإثمه وإثمك، ويكون من أصحاب النار”[2].

لذلك لما وقعت الفتن الجسام بين الصحابة الكرام استقال جمع من الصحابة الوقائع كلها عملا بالنصيحة النبوية بعد أن أشكل عليهم الأمر، فقد “قيل لسعد بن أبي وقاص: ألا تقاتل! فإنك من أهل الشورى وأنت أحق بهذا الأمر من غيرك؟ قال: لا أقاتل حتى يأتوني بسيف له عينان ولسان وشفتان يعرف الكافر من المؤمن، قد جاهدت وأنا أعرف الجهاد ولا أنجع بنفسي إن كان رجلاً خير مني”[3]. كما أن “كعب بن سور الأزدي طيَّن عليه بيتا، وجعل فيه كوة يتناول منها طعامه وشرابه اعتزالا للفتنة”[4]، قبل أن تقنعه أمنا عائشة رضي الله عنها بالخروج معها. وعرض الإمام علي على أسامة بن زيد الدخول معه في أمره، فرفض قائلا: “يا أبا حسن، إنك والله لو أخذت بمشفر الأسد؛ لأخذت بمشفره الآخر معك؛ حتى نهلك جميعا أو نحيا جميعا، فأما هذا الأمر الذي أنت فيه؛ فوالله لا أدخله أبدا”[5].

اعتزل بعض الصحابة الكرام الفتنة ولزموا دورهم واعتزلوا الشأن العام كله، لا يأمرون ولا ينهون منتظرين أن تنقشع السحب السوداء عن سماء المسلمين ليتبينوا الطريق؛ فيتحدد عندها المسار ليبدأ المسير.

تم تنزيل موقف الصحابة هذا في تاريخ المسلمين رغم وجود الفارق، إذ أصل فقهاء وعلماء وأهل تربية من موقفهم مشروعية اعتزال الظلمة والبغاة اعتزالا تاما بمفارقة الديار واعتزال الشأن العام كله، فخلا الجو لسلاطين ظلمة سودوا تاريخ المسلمين بصفحات من دماء زكية أهريقت بغير جرم، وإنما العلماء والربانيون هم أول المخاطبين بأن يكونوا من الذين يأمرون الناس بالقسط، فإن صمتوا،سياسة أصيلة من عندهم، فعلى القسط والعدل السلام.

لقد اعتزل بعض الصحابة الفتنة بسبب عدم تبينهم المصيب من المخطئ فيها، لكن فقهاء أجلاء ذهبوا إلى “استحباب هجران البلدة التي يقع فيها إظهار المعصية، فإنها سبب وقوع الفتن التي ينشأ عنها عموم الهلاك. قال ابن وهب عن مالك: تهجر الأرض التي يصنع فيها المنكر جهارا. وقد صنع ذلك جماعة من السلف”[6]، وكان للصوفية من هذا الاجتهاد النصيب الأوفر، ومعهم الوصية النبوية: “إن بين أيديكم فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً. القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي إليها. قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: كونوا أحلاس بيوتكم”[7].

فإن أُسقِط القوم من قائمة المجاهدين فلا يجوز إسقاطهم من قائمة المفلحين. وإن كان المجاهدون في سبيل الله أفضل الناس مرتبة، فإنهم يلونهم مباشرة بفضل اجتهادهم في العبادة بنص الحديث النبوي الشريف، فعن ابن عباس رضي الله عنهما “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عليهم، وهم جلوس في مجلس لهم، فقال: ألا أخبركم بخير الناس؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: رجل أخذ برأس فرسه في سبيل الله حتى يموت أو يقتل. أفأخبركم بالذي يليه؟ قال؛ قلنا: نعم. قال: رجل معتزل في شعب يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويعتزل شرور الناس”[8].

لقد دأب رجال التصوف على جعل شعارهم ترك الدنيا واعتزال الناس وعدم مخالطتهم، والاستغراق الكلي في الانشغال بذكر الله عز وجل حتى تفرغ القلوب من كل شيء إلا منه سبحانه وتعالى، لذلك عرف ابن خلدون التصوف بأنه: “من العلوم الشرعية الحادثة في الملة، وأصله العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى، والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها، والزهد في ما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه، والانفراد عن الخلق في الخلوة والعبادة”[9].

تجد في كتب القوم الحديث الندي الشجي عن مقامات التوبة، والزهد، والصبر، والفقر، والتواضع، والخوف، والتقوى، والإخلاص، والشكر، والرضا، واليقين، والذكر، والأنس، والقرب، والاتصال، والمحبة، والتجريد والتفريد، والوجد… ولا تجد حديثا عن الجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وعن تنظيم صفوف رجال الدعوة، وعن تطبيق الشرع، وعن مجاهدة الظلمة والانتصار للمستضعفين، وعن توحيد الأمة… في كلمة مختصرة، تجد القوم منشغلين بمفردات الخلاص الفردي للسامع بقلبه لسلوك عارفيهم، صامتين عن مفردات الخلاص الجماعي لأمة اسود نهارها من ظلمات استبداد بعضها فوق بعض.

ومهما دبج حول مقامات الصوفية وعلو شأنهم، فإنهم ظلوا ضعفاء عن تمثل نموذج الصحابة الكرام الذين جمعوا بين رهبانية الليل وفروسية النهار، بين الذلة على المؤمنين والعزة على الكافرين. وأنى يستوي مؤمن يجمعك على الله مع قعود؛ مع مؤمن يجمعك على الله مع جهاد، قال الخالق سبحانه: “لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا” النساء: ٩٥.


* صحيح مسلم. كتاب الإمارة. باب فضل الجهد والرباط

[1]  أبو بكر بن العربي ” أحكام القرآن”.  1/266

[2] صحيح مسلم: كتاب الفتن وأشراط الساعة.  باب نزول الفتن كمواقع القطر

[3]  مستدرك الحاكم. كتاب الفتن والملاحم. وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

[4]  شمس الدين الذهبي. سير أعلام النبلاء. بيت الأفكار الدولية –لبنان. ط 2004. 1/405

[5]  المرجع نفسه. 1/1052

[6] ابن حجر العسقلاني “فتح الباري في شرح صحيح البخاري” 13/10

[7] سنن أبي داود. كتاب الفتن والملاحم. باب فب النهي في السعي في الفتنة.  ومستدرك الحاكم “كتاب الفتن والملاحم” وقال: هذا حديث صحيح الإسناد و لم يخرجاه       

[8] مسند  أحمد بن حنبل.مسند العشرة المبشرين بالجنة. ومن مسند بني هاشم: مسند عبد الله بن العباس. 

[9] ابن خلدون: المقدمة. ص 467

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق