من تاريخ الزلازل في البلاد الإسلامية:(محمود شعبان أيوب)
أثَّرت الزلازل في الأوضاع السكانية والحضارية والعُمرانية في تاريخ المسلمين، فهدمت المدن، وهجَّرت السكان، وقتلت الآلاف بل الملايين. وفي كل مرة وقع فيها زلزال كان الناجون يلملمون جراحهم، فينتشلون الموتى ثم يُعيدون البناء من الصفر. ولدينا في مصادر التاريخ الإسلامي شواهد كثيرة على حجم الكارثة التي وقعت في ديار المسلمين بسبب هذه الزلازل المدمرة. وقد أحببنا أن نرى أثر هذه الزلازل في المدن والسكان، بل وفي العلماء والأدباء، حيث قضى بعض من العلماء والشعراء ممن وقفنا على ذكر أسمائهم وظروف مقتلهم في أثناء الكوارث الطبيعية تحت أنقاض المنازل والمساجد وغيرها من البنايات.
رجفات أهلكت العباد:
حصدت الزلازل مشاهير العلماء والشعراء وكذلك عامة الناس من الصناع والتجار والزراع من سكان المدن والقرى، حتى إن بعض المصادر توقفت عن ذكر أسمائهم، وقالت: “مات تحت الهدم خلق لا يُحصون”، ففي منطقة فرغانة في وسط آسيا وقع زلزال كبير عام 223هـ، و”مات تحت الهدم خمسة عشر ألفا من الناس” كما ذكر صاحب “النجوم الزاهرة”[1]. أما الزلزال الذي ضرب بلاد الشام من شمالها إلى جنوبها عام 233هـ فينقل المؤرخون عن بعض شهود العيان قولهم: “إنَّ بعضَ أهل دير مُرَّان (قرب دمشق) رأى دمشق ترتفعُ وتنخفضُ مرارا، فماتَ تحت الهدم معظمُ أهلها، وهرب النساء والصبيان ومَن بقيَ من الرجال والنساء وأهل الأسواق إلى مُصلَّى العيد؛ يبكُون ويتضرَّعُون إلى وقت المغرب والعشاء، فسكنت الدُّنيا، فعادوا يُخرِجونَ موتاهم من تحت الهدم ويدفنونهم، وانكفأت قرية بالغوطة فلم ينجُ من أهلها إلَّا رجل واحد”. كما يذكرون أن الزلزال ضرب أيضا مناطق أنطاكية والموصل وجنوب الأناضول، حتى مات نحو سبعين ألفا من سكانها[2].
وقد وقع في منطقة “دُبيل”، أهم مدن منطقة أرمينيا الإسلامية (أقصى شرق تركيا وأقصى غرب أرمينيا اليوم)، زلزال كارثي عام 280هـ يوثقه ابن الجوزي بقوله: “فلما كان ثلث الليل زُلزلوا، فأصبحوا وقد ذهبت المدينةُ، فلم ينجُ من منازلها إلا اليسيرُ قدر مئة دار، وأنهم دفنوا إلى حين كتبوا الكتاب ثلاثين ألف نفس، يُخرجون من تحت الهدم ويدفنون، وأنهم زلزلوا بعد الهدم خمس مرات، وقيل إنه أخرج من تحت الهدم خمسون ومئة ألف إنسان ميت”[3].
وسنرى في زلزال سنة 434هـ الذي وقع في “تبريز” شمال إيران مصيبة أخرى قضت على الآلاف من سكانها وعمرانها في دقائق معدودة، فباتت كأن لم تغن بالأمس، حيث “هُدمت قلعتها وسُورها ودورها ومساكنها وحماماتها وأسواقها وأكثر دار الإمارة، وخلص الأمير لكونه كان في بعض البساتين، وسلم جنده لأنه كان قد أنفذهم إلى أخيه، وأنه أُحصي مَن هلك تحت الهدم فكانوا قريبا من خمسين ألف إنسان، وأن الأمير لبس السواد وجلس على المُسوح لعظم هذا المصاب، وأنه أُجبر على الصعود إلى بعض قلاعه”[4]. أما الزلزال الذي ضرب مدينة حلب عام 565هـ فقد خلّف “تحت الهدم ثمانين ألفا” كما أحصى “الذهبي” في تاريخه “العِبر في خبر مَن غبر”.
ورغم ما أفاضت علينا به المصادر التاريخية بإحصائيات لأعداد قتلى الزلازل في كثير من مدن وأنحاء العالم الإسلامي في بعض الأحيان كما رأينا، وهي أعداد مُرعبة مقارنة بعدد سُكان تلك الأزمنة، فإن هذه المصادر لم تستطع في أغلب هذه الزلازل أن تُقدم لنا إحصاءات دقيقة بسبب عظم الزلازل وخسائرها الفادحة في أوقات أخرى. ففي زلزال جنوب الأناضول وشمال بلاد الشام الذي وقع سنة 393هـ قيل إنه “مات تحت الهدم خلائق كثيرة”، وفي زلزال بلاد الشام الذي وقع سنة 434هـ قال “ابن تغري بردي”: “زُلزلت تدمُر أيضا وبعلبك، فمات تحت الهدم معظم أهل تدمر”[5]. ولعل زلزال عام 552هـ كان أخطر زلزال ضرب الشام كلها، فقد كان ذا هزات ارتدادية و”رجفات” كبيرة وخطيرة “خربت البلاد وأهلكت العباد، وأشدُّها بمدينة حماة وحصن شيزر. وهلك تحت الهدم من الخلق ما لا يُحصيه إلا الله تعالى”[6]، كما وصف “ابن الأثير”.
وفي زلزال عام 597هـ الذي وقع في بلاد الشام وامتد تأثيره المدمر إلى مصر وحتى الصعيد “مات بمصر خلق كثير تحت الهدم ثم تهدمت نابلس”. وقد أحصى بعض المؤرخين عدد القتلى في مصر وبلاد الشام في ذلك الزلزال المُهلِك فقالوا إن مَن هلكَ في هذه السنة كان ألف ألف ومئة ألف، أي مليون ومئة ألف قتيل[7]. وفي زلزال الشام الذي وقع عام 1172هـ/1759م سنرى صاحب “حوادث دمشق اليومية” يقول: “تهدَّمت رؤوس غالب مآذن الشام ودور كثيرة وجوامع وأماكن لا تحصى، حتى قُبة النصر التي بأعلى جبل قاسيون زلزلتها وأرمت نصفها، وأما قرى الشام فكان فيها الهدم الكثير، والقتلى التي وجدت تحت الهدم لا تُحصى عددا”[8].
ولئن وقعت الزلازل في المشارق فتناولها المؤرخون بالذكر والإحصاء، فقد وقعت الزلازل في المغارب أيضا ووقف المؤرخون على ما دهم الناس فيها من البلاء والشقاء والموت الكبير. ويذكر “السلاوي” في “الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى” زلزالا ضخما وقع في دولة المرابطين عام 472هـ قائلا: “وقعت الزلزلة العظيمة التي لم يرَ الناس مثلها بالمغرب، انهدمت منها الأبنية ووقعت الصوامع والمنارات ومات فيها خلق كثير تحت الهدم، ولم تزل الزلزلة تتعاقب في كل يوم وليلة من يوم ربيع الأول إلى آخر يوم من جُمادى الآخرة من السنة المذكورة”[9].
موت العلماء والأدباء:
تسببت هذه الزلازل في موت مئات الآلاف من عامة الناس في عموم العالم الإسلامي مشرقا ومغربا ممن لا يعلمهم إلا خالقهم، وهلك بينهم جلّة من كبار العلماء والشعراء والأدباء، وكانت الزلازل سببا مباشرا في تغيير أحوالهم إلى الموت أو الفقر وخراب الديار، وكان منهم جمهرة من التابعين وتابعي التابعين. أحد أشهر هؤلاء هو المفسر والمحدث والتابعي “محمد بن كعب بن حيان” الذي قضى مع عدد من رفاقه في مسجد بسبب أحد الزلازل، وعن ذلك يقول “ابن منظور المصري” فيما اختصره من ابن عساكر: “كان لمحمد بن كعب جُلساء كانوا مِن أعلم الناس بتفسير القرآن، وكانوا مجتمعين في مسجد الربذة (قرب المدينة المنورة) فأصابتهم زلزلة فسقط عليهم المسجد فماتوا جميعا تحته”[10].
وكذلك قضى كثير من أبناء الأنصار وأحفادهم من التابعين في زلزال الشام الكبير الذي وقع عام 130هـ، يقول الذهبي: “كانت الرجفة التي بالشام سنة ثلاثين ومئة، وكان أكثرها ببيت المقدس، فهلَك كثير ممن كان فيها من الأنصار وغيرهم، ووقع منزل شداد بن أوس الأنصاري (الصحابي) على مَن كان معه، وسلم محمد بن شدّاد وذهب متاعه تحت الردم”[11]. وممن لقوا حتفهم في الزلازل المحدث الشهير “أحمد بن سعيد المروزي” الذي توفي في زلزال “طوس”[12]. وسنجد في زلزال الشام المدمر الذي وقع سنة 552هـ وفاة الشاعر “أبو سهل عبد الرحمن بن مدرك المعرِّي” تحت الردم، إذ نقل عنه الذهبي بعض شعره قائلا[13]:
سارقتُه نظرةً أطالَ بها .. عذابُ قلبي وما له ذَنْبُ
يا جَوْر حُكْم الهَوَى ويا عَجَبًا .. تُسْرقُ عيني ويُقْطع القلبُ
وقد ذكر ابن عساكر وفاة شاعر آخر من شعراء الشام في زلزال مدينة حماة، بيد أنه لم يحدد لنا تاريخ ذلك الزلزال، وهو الشاعر “علي بن مرضي التنوخي”، إذ قال عنه ابن عساكر: “لقيته كثيرا، وسمعتُ منه إنشادات.. وعاد إلى حماة، وتوفي بها في الزلزلة التي أخربت حماة، وكان شاعرا مُكثرا”[14].
وأخبرنا “عماد الدين الأصفهاني” عن أثر زلزال عام 552هـ في مدينة شيزر وأسرة بني منقذ التي كانت تحكمها، وكانت الأسرة تعيش في حالة من الغنى والمال وفوق ذلك العلم والأدب، وقيل إن أغلبهم كانوا شعراء وأدباء، وأشهرهم “أسامة بن منقذ” و”شرف الدولة” وغيرهما، يقول عن ذلك: “ما زال بنو منقذ هؤلاء مالكي شيزر، وهي حصن قريب من حماة، معتصمين بحصانتها ممتنعين بمناعتها، حتى جاءت الزلزلة في سنة نيف وخمسين فخربت حِصنها، وأذهبت حُسنها، وتملّكها نور الدين محمود بن زنكي عليهم، وأعاد بناءها فتشعبوا شعبا”[15]، فكان الزلزال سببا في انفراط عقد هذه الأسرة، وتشتت شملها، ووفاة أكثر أهليها، ولذلك يبكيهم أسامة بن منقذ في كتابه “الاعتبار” ويتذكر أيام “شيزر” بشيء من الشوق والحسرة. ومثله فعل أحد أبناء عمومتهم وهو شاعر أيضا اسمه “شرف الدولة بن منقذ”، وكان من حُسن حظِّه أنه كان بعيدا عن شيزر وقت الزلزلة، فلما رجع وعاين الخراب وعلم بموت إخوته وأقاربه، قال مناشدا بلدته الأثيرة وإخوته الأموات بحزن عميق[16]:
ليس الصباحُ مِن المساء بأمثلِ .. فأقولُ للّيل الطويل ألا انجلِي
شُلّت يدُ الأيام إن قِسيِّها .. ما أرسلَتْ سَهْمًا فأخطأ مَقْتلي
لي كُل يومٍ كُربة من نكبة .. يهمي لها جفني وقَلبي يصطلي
يا تاجَ دولة هاشمٍ بل يا أبا .. التيجان بل يا قصدَ كُلّ مؤمّلِ
لو عاينَتْ عيناكَ قلعةَ شيزرٍ .. والسّتر دون نسائها لم يسبلِ
لرأيتَ حِصنًا هائلَ المرأَى غَدا .. مُتهلهلًا مثل النقا المتهلهلِ
وقد ألجأ هذا الزلزال العظيم الناسَ إلى السكن في الأماكن النائية والواسعة وبيوت الخشب خوفا من وقوع البيوت والقلاع عليهم كما حدث في شيزر، حتى إن السلطان نور الدين محمود “لمّا جاءت الزّلزلة بنى في القلعة بيتا من خشب كان يبيت فيه، فدُفِن في ذلك البيت”[17] حين جاءه أجله بعد أعوام طويلة عام 569هـ. وكان مِمَّن أُصيب في هذا الزلزال من الشخصيات الشهيرة في ذلك العصر كبير طائفة الشيعة الإسماعيلية ورئيس الدعوة النزارية الفاطمية في بلاد الشام “أبو الحسن سنان بن سلمان البصري”، فقد كان هذا الرجل “أعرج لحجرٍ وقع عليه من الزلزلة” التي حدثت عام 552هـ[18].
ومن علماء الحديث الذي قضوا تحت هدم الزلازل “أبو هريرة النيسابوري أنس بن عبد الخالق بن زاهر الشحّامي”، وذلك في عام 557هـ، وهو رجل أخذ كثير من طلبة العلم النابهين عنه، واشتهر ذكره بين علماء وطلبة الحديث، ومن جملتهم العلامة أبو سعد السّمعاني المحدّث. واللافت أن من علماء الحديث مَن كتب له القدر شهادة نجاة من الزلازل فأصبحت علامة فارقة طوال حياته يستذكرها، مثل أبي الفتح نصر بن القاسم المقدسي الذي يقول لأحد تلامذته: “كان لي في زلزلة الرملة سنتان”[19]. وزلزال الرملة هو الزلزال الكبير الذي ضرب فلسطين كلها وبلاد الشام ووقع عام 460هـ، وهو لعظم هذا الزلزال يؤرخ مولده ونجاته به. وكذلك حدث في الزلزال الذي ضرب مدينة “بَيْهَق” التي تُسمى الآن “سَبْزِوار” في أقصى الشرق الإيراني، في عام 444هـ، حيث يقول مؤرخ المدينة أبو الحسن ابن فندمة البيهقي: “ولقد رأيتُ أنا كثيرا من الشيوخ الذين شاهدوا هذه الحادثة وأرّخوها، وقد دعيت تلك السنة بسنة الزلزلة”[20].
هذه بعض من آثار الزلازل التي تسببت في خراب العُمران، وقتل الناس بما في ذلك خسارة العلماء والأدباء والشعراء، وهي آثار لطالما تذكرها المؤرخون الذين وثَّقوا مآسي كبرى طواها النسيان بموت أصحابها؛ فلقد رأينا مدنا بكاملها تُدمّر، وسكانها يموتون ويرتحلون جماعات إلى الآخرة، وتلك قصّة يقف أمامها الإنسان معتبرا ومندهشا وساكنا.