ريادة أموية
ربما كان أخطر الأجهزة الأمنية التي اعتمدها الأمويون في دولتهم هو جهاز “البريد” الذي كان يديره “صاحبُ البريد” أو “صاحبُ الخبر” الذي يعادل في زماننا “مدير/رئيس المخابرات”. وهو ما يمكن عدّه النواة الأساسية لـ”جهاز المخابرات” في الحضارة العربية الإسلامية. وعن النشأة الأموية لجهاز البريد يقول العسكريّ (ت نحو 395هـ/1004م) -في ‘الأوائل‘- إن “أول من وضع البريد في الإسلام معاوية بن أبي سفيان، وأَحكَم أمرَه عبد الملك (بن مروان ت 86هـ/716م)”.
ثم أضاف العسكري أن عبد الملك عيّن كاتِبَه سالماً أبا الزُّعيزعة على وظيفة “صاحب البريد” في الدولة العربية الإسلامية، مؤكدا عليه أن “البريد متى جاء من ليل أو نهار فلا يُحجَب، وربما أفسد على القومِ تدبيرَ سَنَتِهم حبسُهم البريدَ ساعةً”! ويبدو أنه كانت لبعض خلفاء الأمويين “عيون” خاصة من ثقات الرجال؛ كما جاء عند ابن حجر -في ‘تهذيب التهذيب‘- أن العالم المحدِّث “خالد بن أبي الصلت.. كان عيناً لعمر بن عبد العزيز (ت 101هـ/720م) بواسط” التي كانت تقع جنوبي العراق.
ولم يكن البريد -كما هو اليوم- وسيلةَ مراسلةٍ تستخدمها الحكومات وعامة الناس، بل كان يؤدي حصرا المهمات الرسمية التي سنذكرها لجهاز المخابرات؛ فلا عجب أن نجد المسؤول عن البريد يُسّمى في القرون الإسلامية الأولى: “صاحب الخبر”، قال السبكي (ت 771هـ/1369م) في ‘طبقات الشافعية‘: “صَاحب الْخَبَر يعْنى أَنه يطالع الْأَمِير بأخبار الْمَدِينَة”. ولعلّ هذه التسمية هي مصدر التسمية الحديثة لأجهزة أمن المعلومات كما في لفظيْ: “المخابرات” و”الاستخبارات”.
ويبدو أن المسلمين أخذوا “البريد” بهذا المعنى عن الفُرس؛ فالمحدث ابن الأثير (ت 606هـ/1210م) يقول -في ‘النهاية‘- إن “البريد كلمة فارسية يراد بها في الأصل: البغل، وأصلها: ‘بريده دم‘، أي: محذوف (= مقطوع) الذَّنَب؛ لأن بغال البريد كانت محذوفة الأذناب كالعلامة لها، فأعربت (= عُرّبت)” اللفظة عند نقلها للعربية.
وكانوا يجعلون البريد محطاتٍ يُسمونها “سكك البريد”، وفيها يقول الخليل الفراهيدي (ت 170هـ/786م) في كتابه ‘العين‘: “سِكَكُ البَريد كلُّ سِكَّةٍ منها اثنا عشر ميلاً (= 22 كم)”. وفي كل سكّة كان حامل الخبر يبدّل دابّته أو يسلم “الخريطة” -وهي حقيبة تقارير الأخبار- إلى موظف بريد آخر؛ قال الفتّنيّ (ت 986هـ/1578م) في ‘مجمع بحار الأنوار‘: “وخيل البريد هي المرصَدة في الطريق لحمل الأخبار من البلاد، يكون منها في كل موضع شيء [معدٌّ] لذلك”.
وقد أورد المؤرخون المسلمون سبق الإمبراطورية الفارسية إلى استعمال البريد على النحو الذي جرى لاحقا في الدولة الإسلامية، وذكروا وجود “أصحاب الخبر” المُعيّنين بنواحي الدولة؛ ففي ‘المنتظم‘ لابن الجوزي أن كسرى أنوشروان (ت 579م) “رَفَعَ إليه ‘صاحبُ الخبر‘ بنياسبور أنه قد ظهر رجل لا يغادر صورتَه شيءٌ من صورة الملك، وأن اسمه أنوشروان”؛ فلعلّه خشي أن يكون في وجوده -مع عظم شبهه بالملك- خطرٌ أمنيّ على الحكم. ويبدو أن الروم ماثلوا الفرس في استخدام البريد أمنيا، كما يُستفاد من أشعار رواها الجاحظ (ت 255هـ/868م) في كتابه ‘البغال‘.
طفرة عباسية
وبعد فترة أطلقت فيها التسميتان معا على موظف واحد عُرف مركزه الإداري بـ”ديوان الخبر والبريد”، كما سماه ابن كثير (ت 774هـ/1372م) في ‘البداية والنهاية‘؛ يبدو أن تسمية “صاحب الخبر” انفصلت فنيا -منذ القرن الهجري الرابع تقريبا- عن وظيفة “صاحب البريد”، وإن ظل الأخير مسؤولا عن المساعدة في توصيل الأخبار بحكم امتلاكه وسائل النقل المعتمدة، لكن مسؤولية جمع الأخبار وإدارة عناصر الاستخبارات صارت اختصاصا لـ”صاحب الخبر” وحده.
على أننا نجد الفاطميين كانوا يسمون هذا الجهاز المعلوماتي “ديوان الترتيب”، والمشرف عليه “صاحب الترتيب”؛ فالمقريزي (ت 845هـ/1441م) يقول في ‘اتّعاظ الحُنفا‘: “وهذا الترتيب يقال له في غير هذه الدولة [الفاطمية] ‘صاحب البريد‘، فكان يكاتب متولي هذا الديوان بالأخبار بمطالعات تصل إليه مترجمةً (= مُعَنْوَنَة) بمقام الخليفة، فيعرضها من يده ويجاوب عنها بخطه”.
وكان لصاحب البريد مقرٌّ دائمٌ بمراكز المدن الرئيسية يُدار منه المخبرون وأنشطتهم التجسسية، وتودع فيه التقارير الأمنية حتى ترسل إلى “ديوان البريد والخبر” (المديرية العامة للمخابرات) بالعاصمة. وقد حُفظ لنا من مقراتها “دار صاحب البريد” بمكة التي حدد الفاكهيّ (ت 272هـ/885م) -في ‘أخبار مكة‘- موقعها بدقة، فذكر أن من “الدور التي تستقبل المسجد الحرام من جوانبه خارجا.. مما يلي الشام.. دار صاحب البريد التي يسكنها أصحاب البُرُد (= جمع بريد) بمكة”.
تعاظمت أهمية “ديوان الخبر” وترسخت تقاليد مؤسسته الاستخباراتية في أيام العباسيين الذين أطاحوا بالأمويين عبر ثورة مسلحة عاتية، كان العمل الأمني والمخابراتي أحد أسلحتها القاتلة. ولذلك اهتموا بهذه المؤسسة منذ البداية؛ وقد سبق لنا إيراد المقولة التأسيسية لخليفتهم الثاني والمؤسس الحقيقي لدولتهم المنصور عن “أركان المُلك” الأربعة، والتي رواها الطبري.
وانطلاقا من ذلك؛ اعتنى العباسيون بتوفير الموارد الكفيلة بدعم مؤسسة الاستخبارات لتؤدي عملها على أكمل وجه في دولة مترامية تمتد من الصين إلى المغرب؛ فقد جاء في كتاب ‘مفيد العلوم ومبيد الهموم‘ المنسوب للخوارزمي (ت 383هـ/993م) أن “المأمون الخليفة (ت 218هـ/833م) رتّب لصاحب البريد أربعة آلاف جَمَلٍ -مع مؤنتها وآلاتها- يستخبرون عليها أمور المملكة، فكان يعرف أمور العالم في يوم واحد”!
ولا يستغرب ذلك فإن “حُصَفاء (= عقلاء) الملوك يُخرجون من خزائنهم الأموال العظيمة جدا إلى ‘أصحاب الأخبار‘، ولا يستكثرونها في جنب ما ينتفعون به من جهاتهم”؛ كما يقول مسكويه (ت 421هـ/1030م) في ‘تجارب الأمم‘.
وقد تحدث الساسة والعلماء عن أهمية أجهزة المخابرات المنضبطة بالمصلحة العامة والصفات المطلوبة في عناصرها الأكفاء الأمناء، وهي صفات وشروط كثيرة أفرد لها القلقشندي (ت 821هـ/1418م) فصلا في كتابه ‘الأعشى‘.
ولعل أجمع النصوص في ذلك ما قاله الإمام الماوردي (ت 450هـ/1058م) في ‘تعجيل النظر‘: “إن المَلِك لَجديرٌ ألا يذهب عليه صغير ولا كبير من أخبار رعيته وأمور حاشيته، وسِيَر خلفائه والنائبين عنه في أعماله، بمداومة الاستخبار عنهم وبث ‘أصحاب الأخبار‘ فيهم سرا وجهرا. ويَندب (= يختار) لذلك أمينا ويُوثَق بخبره، وينصح الملك في مغيبه ومشهده، غير شرِهٍ فيرتشي، ولا ذي هوى فيروي أو يعتدي، لتكون النفس إلى خبره ساكنة، وإلى كشفه عن حقائق الأمور راكنة”.