المقالات

من ذاكرة التحرير الفلسطينية الحية(أحمد الأنصاري بوعشرين)

تصدير عام:

للذاكرة معنى جليل، فهي الحقيقة التي لا تنمحي أبدا، وهي شاهد الماضي والحاضر والمستقبل، لا تستطيع أن تحرف حقائقها، وهي تفضح المتلاعبين بالألفاظ والمصطلحات والهوية والآمال والمبادئ والحقوق، هكذا هي الذاكرة ساطعة في كل لحظة، صارخة في كل آن، نافضة غبار التناسي، فاضحة منطق الغصب والتزوير والزيف.

هذه الذاكرة هي أساس بناء الوعي التاريخي الذي يربط الماضي بالحاضر ويؤسس إرادة للمستقبل بخلفية تاريخية موصولة زمانا و وقائعا، وحينما تهمل الذاكرة يقل الارتباط بالتاريخ وتحدث خصومة معه، ويصبح واقع الحال هو المحدد في المواقف والتطلعات، فالذاكرة تمتن الهوية بما هي تعبير عن شخصية و إرادة المجتمع والأمة، وتقوي الاعتزاز بها، 

عاشت الأمة العربية والإسلامية أياما من عمرها تفاعلت فيها شعوبها وكياناتها مع مجريات التحولات والمستجدات التي شهدتها، من انتصارات و إخفاقات و استدراجات نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني المعتدي على مقدسات هذه الأمة وعلى جزء من أراضيها الطاهرة.

والمقال هذا محاولة للحفر في بعض من ذاكرة هذه الأمة، والغاية من ذلك هو نفض الغبار على بعض الوقائع الكبرى، واستدعائها حاضرا محاولة لفهم مجريات ما يدور من داخل هذه الأمة، خصوصا فيما يتعلق بالقضية المركزية التي ارتبطت بها أفئدة أغلب الشعوب العربية والإسلامية وكل أحرار العالم-قضية فلسطين-، وهو استدعاء أيضا لفهم سياقات الوضع الداخلي الفلسطيني، والتمكن من تسليط الضوء على الأخطاء والانحرافات والعلل، التي بسببها وصل الوضع الفلسطيني إلى ما هو عليه، 

إن من متطلبات المرحلة ثقافيا المزيد من التسلح بهذه الذاكرة الحية التي تنعش الآمال المتناسية من جديد، وتفعمها بروح الصمود والاستمرارية. فعفوا إن بدت سطور هذا المقال سطورا في ترديد وقائع مضت ومواقف سلفت، فليس ذلك إلا محاولة لفهم ما جرى وما يجري، أتقدم بها للقراء والمهتمين وكل شرفاء هذه الأمة وكل أحرار العالم. 

كانت بداية هذه الاستدراجات مع الحلقات الأولى لما يسمى بتدشين “مسلسل السلام”، مع بعض  الاعترافات الرسمية العربية  بالكيان الصهيوني، وإقامة علاقات دبلوماسية معه، وحق وجوده ضدا على جريمة اغتصابه للأرض الفلسطينية الحبيبة، ثم مع توالي الاعترافات تترى، على شاكلة ما صوره الشاعر الكبير أحمد مطر في قصيدته “فرار الثور”، مرورا بانطلاق مسلسل مفاوضات السلام العلنية، التي توازت معها مفاوضات سرية أفضت في الأخير إلى توقيع “اتفاق أوسلو”، أو ما قد سمي آنذاك ب”اتفاق غزة أريحا أولا”، هذا الاتفاق الذي بموجبه تم الإعلان عن منح حكم ذاتي للفلسطينيين داخل “بقعة” من الأراضي المحتلة، حكم ذاتي اقتصر فقط على منح بعض الصلاحيات التدبيرية لإدارة الحكم الذاتي، المتمثلة فيما أراد أن يسميه أصحاب أوسلو ب”السلطة الوطنية الفلسطينية”، 

بالمقابل لهذا المسلسل الاستسلامي الرسمي التراجعي، كان هناك خط آخر يرسمه الشعب الفلسطيني والمقاومون على الأرض المحتلة، وتسجل وقائعه البطولية بأحرف من ذهب ودم، وبالتالي كان كل هذا المسلسل التفاوضي الميئوس منه، يزاحم بمسلسل مقاوم مفعم بآمال تحرير الأرض من الاحتلال، تلك الآمال التي ظلت مستمرة وموصولة جيلا بعد جيل، منذ اقتراف الصهاينة والمتواطئين معهم جريمة اغتصاب الأرض، عاشت الأمة ذلك مع بطولات المجاهدين الفلسطينيين الأوائل في ثورات العشرينيات والثلاثينيات والأربعينات والخمسينيات، ضد الهجرة اليهودية للأراضي الفلسطينية، و ضد مؤامرة الانتداب البريطاني لإنفاذ وعد بلفور المشؤوم، و ضد محاولات اقتحام المسجد الأقصى من طرف الصهاينة اليهود، ثم مع تصاعد نوع عمليات الكفاح المسلح الذي قادته فصائل المقاومة تحت مظلة منظمة التحرير مع عقود الستينيات والسبعينيات، التي تأسست بهدف تحرير فلسطين عبر الكفاح المسلح على قاعدة الميثاق الوطني الفلسطيني باعتباره البرنامج الاستراتيجي الشرعي الوحيد لتحرير فلسطين كل فلسطين.

ذاكرة الميثاق الوطني الفلسطيني المنسية:

هكذا وبآمال موصولة بما سبقها من همم عالية متشبثة بتحرير الأرض الفلسطينية، صار الميثاق الوطني الفلسطيني يسطرها ببنود عريضة، نقرأ هذا في مادته التاسعة التي قالت: “الكفاح المسلح هو الطريق الوحيد لتحرير فلسطين، وهو بذلك استراتيجية وليس تكتيكاً، ويؤكد الشعب العربي الفلسطيني تصميمه المطلق وعزمه الثابت على متابعة الكفاح المسلح والسير قدماً نحو الثورة الشعبية المسلحة لتحرير وطنه والعودة إليه، وعن حقه في الحياة الطبيعية فيه، وممارسة حق تقرير مصيره فيه والسيادة عليه”،  وفي مادته التاسعة عشرة التي تعري باطلية الاحتلال ولا شرعية وجوده فتصرح: ” تقسيم فلسطين الذي جرى عام 1947 وقيام إسرائيل باطل من أساسه مهما طال عليه الزمن، لمغايرته لإرادة الشعب الفلسطيني وحقه الطبيعي في وطنه، ومناقضته للمبادئ التي نص عليها ميثاق الأمم المتحدة وفي مقدمتها حق تقرير المصير” وما تلاها من المادة عشرين التي أقرت ببطلان صك الانتداب ووعد بلفور المشؤوم حيث تقول: ” يعتبر باطلاً كل من: تصريح بلفور، وصك الانتداب، وما ترتب عليهما. وأن دعوى الترابط التاريخية أو الروحية بين اليهود وفلسطين لا تتفق مع حقائق التاريخ، ولا مع مقومات الدولة في مفهومها الصحيح، وأن اليهودية -بوصفها ديناً سماوياً- ليست قومية ذات وجود مستقل، وكذلك، فإن اليهود ليسوا شعباً واحداً له شخصيته المستقلة، وإنما هم مواطنون في الدول التي ينتمون إليها”. ، وفي مادته الخامسة التي تعلن عدم التنازل على فلسطينية كل من كان يقيم إقامة عادية حتى 1947، حيث تقول: “الفلسطينيون هم المواطنون العرب الذين كانوا يقيمون إقامة عادية في فلسطين حتى عام 1947 سواء من اخرج منها أو بقي فيها، وكل من ولد لأب عربي فلسطيني بعد هذا التاريخ داخل فلسطين أو خارجها هو فلسطيني.” وفي هذا إقرار بأن عودة اللاجئين الفلسطينيين مطلب استراتيجي لا يجوز التنازل عليه باعتبار حقهم المشروع في العودة إلى موطنهم الأصلي.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق