من لا جمهور له لا هويَّة له؟(عز العرب الحكيم بناني)
تُطرَح أسئلة الهويّة علينا جميعًا، مَنْ أكون؟ وما هو؟ وما هي؟ لكّننا كنّا نجد جوابًا فلسفيًّا متفائلًا لا يكتفي بالأجوبة الجاهزة، بل يعتبر الهويّة مشروعًا مستمرًّا مُشرَعًا على المستقبل؛ كان يحلو لنا أن نقول “الوجود يسبق الهوية” بما أنَّ وجودي يتعالى على كلّ المظاهر المتحوّلة التي تتّخذُها هويّتي عبر الزّمان؛ ويتجاوز وجودي كلَ الأشكال العينيّة التي تُجسّدُ هويّتي. كنّا متفائلين وكنّا قادرين على صناعة هويّاتنا الثقافيّة والاجتماعيّة، كما يصنع المعمل السيّارات، كما لو كانت ذاتي معجُونًا ليّنًا وطَيّعًا بين أناملي وأحوّله إلى أشكال متفرّدة وفق مشروعي الوجودي الخاص، وكما لو كان تفكيري يتجاوز الصُّور المحنَّطة التي اتّخذتها هويّتي من قبل؛ كان يحلو لنا أن نقول على غرار سارتر “أنا أفكر، إذن أنا كنت موجودًا” أي كنت أمتاز بهذه الصّفة أو تلك، وموجودًا على هذا النّحو أو ذاك؛ بدل قول ديكارت “أنا أفكر، إذن أنا موجود” فقط . كنّا مسؤولين في وجودنا عن هويتنا، مسؤولين أمام محكمة التّاريخ والالتزام والمستقبل.
واليوم، تغيَّرَ الوضع. يُطرَحُ مشكل الهوية من جديد، وقد فاجأني المشكل بعنفه وطابعه التّراجيدي الجنائي، خصوصًا حينما يدخل المشكل حلبة الفنان الذي يستغرب من إقحامه فيه. قد يُطرح المشكل على المثقف والمواطن وكلّ فئات المجتمع التي تهوى الثَّرثرة؛ لا ننسى مع ذلك حسب رأيي أنَّ الفنّان كان دومًا فنّان الالتزام في تاريخنا الحديث؛ ولا نُريد أن نفتح من جديد محاكمة فلوبير ومدام بوفاري ولا أن نتجنّى على المبدعين بعد الضجّة التي أدّت إلى متابعات جنائيّة. أصبحت طريقة طرح مشكلة الهويّة اليوم تختلف عن طريقة طرحها في الكتب المدرسيّة وفي النّقاش التقليدي العام. يقول الفنّان: يصنع جمهوري وجودي؛ ويتعالى فنّي الذي رضي عنه جمهوري على مظاهر هويّتي التقليديّة؛ ويُحطّم العرض الفني الذي أقدّمه الطّابوهات التقليدية التي كانت تُجسّدُ هويّتي. لم أعد متفائلا بشيء، لأنّنا لسنا قادرين على صناعة هويّاتنا بعيدًا عن رضى الجمهور وإقباله منقطع النظير على هذه الألوان الغنائيّة.لا شكَّ في أنَّ الجمهور هو الحَكَمُ الذي نحتكم إليه لمعرفة مدى نجاحنا؛ نكتفي بأن نُردّد بصوت رخيم وبإيقاعات جميلة ما يقوله الجمهور بلغة صامتة. الفنّ الجميل الذي نُقبل عليه صدى أحلام الجمهور ورغباته وأهوائه وإحباطاته وتطلعاته إلى كسر الطابوهات.كلُّ هذا جميل ! لكن ما الذي يُميّز في هذه الحالة جمهور الفنّ عن جمهور كرة القدم. لولا الجمهور ، لما استطاع أيُّ فريق أن يستمرًّ في الوجود؛ يعتمد الفريق على حماس الجمهور وتعاطفه وحبّه الشديد إلى درجة التعصُّب، لكنّ الفريق لا ينساق أبدًا مع الأهواء ولا يُحوّل الملاعب إلى ساحة معركة. قد يدخُلُ المتفرّجون إلى الملعب كما يدخُلون إلى ساحة حرب، لكنَّ حسَّ المسؤوليّة والقيم الرّياضية تُحوّل الملاعب إلى فضاء الفرجة والمتعة. لو اختزل الفريق هويّته في الجماهير وتحقيق النَّصر الذي تتطلع إليه بأيّ ثمن، لتحوَّل الرياضيُّ إلى مقاتل، كما كانت الأمر عليه قديمًا، وفق شهادة أحد السَّادة المؤرّخين في ندوة نُظّمت مؤخّرًا عن عنف الملاعب بالرّباط.وعندما ندخل مجال الفنّ، نرى فيه كيف أنَّ الفنّان يسعى إلى إرضاء الجمهور، لكنّه يعلم جيّدًا، وهذا ما لا يحتاج فيه إلى دروس، معاذ الله ! أنَّ للفنّ لغته الخاصّة، لغة الصّوت والإيقاع والنغم، قبل أن يكون لغة سرديّات لغويّة.ونحن نعلم جيّدًا أنَّ الأذواق متباينة؛ إذا ما رضي عنّي جمهورٌ قد لا يرضى عنّي جُمهورٌ آخر. وإذا ما استجرت بجمهور قد ينبُذُني جمهُورٌ آخر. وإذا ما نلت حظوة جمهور قد يَنْفُرُ منّي جمهور آخر.لا ننسى مع الأسف أنَّ الجمهور الذي نرجو حظوته كان نفسَ الجمهور الذي يُساهم في المحاكمات العموميّة ويُشرف على مصارعة البشر والثيران، وهو الجُمهُور الذي احتاط منه الفلاسفة وأطلقوا عليه لفظ ‘العامّة’؛ وهو الجمهُور الذي يحاول أن ينهى عن المنكر ويؤجّج مشاعر الاستهجان؛ وقد يواجه الفنَّ الجميل بذرائع أخلاقيّة مزعومة؛ هذا الجمهور هو الذي يُحاكم ويقدّم الحُجج الكافية لمُواصلة الدّعاوى العموميّة رغم التَّنازُل عن الشَّكاوى.
مع الأسف، لم يعد الفنّان فقط صدى الجمهُور بل أصبح أحيانًا رهينة الجمهور، لاسيّما مع تغوُّل وسائل التّواصل الاجتماعي وتحولها إلى بقرة حليب في مقابل اللهات وراء نسب المشاهدة. من الصَّعب على أيّ فنّان أن ينجح دون نسب مشاهدة عالية، ما عدا إذا ما استطاع تطوير لون غنائيّ وأسلوب أداء وكلمات منتقاة. عند ذلك لا يظلُّ الفنّان رهينة جمهور واحد متعاطف معه وشريحة عمريّة بعينها ، بل يمتدُّ إشعاعُه إلى فئات متعدّدة؛ ولذلك، يحتاج هذا الفنّان إلى الدّعم بدل العقاب، في مرحلة صعبة بدأنا نشعُرُ فيها بمخلفات إشكالية الهوية في الفنّ والحياة.