تقديم.
1/ حب نبوي على أديم الصحراء.
2/ أهل سوس ومقامات الحب النبوي.
3/ عموم المغاربة وتعظيم المولد النبوي.
4/ ماذا بعد الاحتفال؟
تقديم
يبدع المغاربة شأنهم شأن باقي المسلمين في مظاهر الاحتفال بمولد سيدنا رسول الله ﷺ، تعبيرا منهم على الولاء التام والحب المتفاني للجناب النبوي؛ ورغم ما قد يلاحظ من بعض الشوائب والمنكرات التي علقت عن جهل بهذا الاحتفال، إلا أنها تبقى حالات معزولة بالنظر إلى الجو الإيماني الرباني العام الذي يعيشه المغاربة خلال شهر الربيع النبوي.
ولن نقف هنا عند التأصيل الفقهي لجواز الاحتفال بالمولد النبوي ولن ندخل في الجدل أهو عيد أم ذكرى؟ فتلك مسألة حسمها العلماء الربانيون قديما وحديثا حين فتحوا بفقههم الجامع آفاقا رحبة من ديننا الحنيف، تتجاوز الفقه المنحبس العاجز عن التفاعل مع مستجدات الواقع ومطالبه، المُضيِّق لواسع الدين وفسحته وجماليته.
بل سنتطرق إلى جانب من الإبداع الغنائي الذي أنتجه المغاربة بمختلف لغاتهم ولهجاتهم في أرقى صوره الشعرية البلاغية وترانيمه الماتعة الراقية المعبرة عن عمق العشق النبوي؛ فالشعر والغناء بريد القلب ورسائل الأشواق.
1- حب نبوي على أديم الصحراء
من دفئ طقس الصحراء وكثبانها الرملية بصمتها وهدوئها الآخاذ، تنبع كلمات المديح النبوي المستغرقة في التأمل، وتنبعث ذائقة ”لْمْغَنِّي“ (المدّاح) الصحراوي من جغرافية المكان، لتصله بزمان الوصل النبوي، وتترنم بما أبدعه شعراء لغة الضاد في وصف خير خلق الله ﷺ من روائع مدائح ديوان العرب، بإحساس مرهف ونفس شفافة وعواطف جياشة.
ولعل من أكثر المشاهد جمالية وإبداعا، مشهد خيمة ليلة المديح النبوي في الصحراء، والتي لا زالت بعض العائلات بالجنوب المغربي تحافظ على سنة إحياءها كل ربيع نبوي وتورثها جيلا بعد جيل؛ وهنا أتذكر ما حضرته في طفولتي من حفلات ليالي المولد النبوي تحت نخيل واحة تيغمرت الوارف، وضوء الكَمرة (ضوء القمر) التي كانت جارتنا الفنانة الصحراوية ”عيشاتة“ (عائشة) وزوجها رباح رحمهما الله وعائلتهم ”أهل يمدح“ يحيونها فرحا بمولد خير البرية ﷺ بالمديح الحساني الذي لا يملك المرء أمامه إلا أن تدمع عيناه ويرق قلبه لمعانيه السامية وآهات أشواقه. ومما يطرب المسمع من حداء المدح النبوي للمرحومة”عيشاتة“ غناؤها للطلعة الشهيرة:
وَالدَرْجَه أَلا لْسِيدْ البَشَرْ * يَا لَيْلَ يَلاَّ النُّورْ أظْهَرْ
لاَ إِلَهَ إِلاَ اللهْ، لاَ إِلَهَ إِلاَ اللهْ * يَا وَنِّي يَلاَّ النُّورْ أظْهَرْ
وَأَنَا اِيلاَ وَدَّعْتْ أَحْبَابِي * مَاشِي عَنْهُمْ لَـهِي نَـجْبَرْ
كَانِي كُونْ نْشُوفْ النَّبِـي * يَضْحَكْ لِي وُجْهُو مْسْتَبْشَرْ
يا مولانا حرمة جِبْرِيلْ * فَمَنَيْنْ إِجِينِي عَزْرَائِيلْ
حَسْنَاتِي إِيَلاَ جَاو مِيكَائِيلْ * يْوْزَنْهُمْ لِي يَوْمْ المَحْشَرْ
عَالْمْ حَسْنَاتِي يَا الجَلِيلْ * ضَعِيفْ وَلاَ نَكْدَرْ فِي الحَرْ
وَيَـخْلَكْ فِي النَّـاسْ تَمْ تهَرْبِيلْ* وْتْجِي بْـخْزَايْمْهَا تَنْجَرْ
وَتَمْ النَّبِي فـَــمْ اِجِيــلْ * وَلاَ يْنْشَالْ وْرَاهْ ذْكَرْ
كَانْ النَّبِـي يَشْفَعْ فِــيَا * يَاوَنْ وَانَـا يَوْمْ المـَحْشَرْ
سِيدْ لْأمَّة وُجْهُو نْبْغُوهْ * يْضَاوَا مْثْلْ القَمَرْ
سِيدْ الْبَشَرْ رُوحِي تْبْغِيهْ وْلِي* غَيْرُو مَا عَيْنِي فِيهْ
وَالدَرْجَه أَلا لْسِيدْ البَشَرْ * يَا لَيْلَ يَلاَّ النُّورْ أظْهَرْ[[1]]
وتكاد لا تجد فردا من أهل الصحراء لا يحفظ ”طَلْعَة“[[2]] أو على الأقل”كَافْ“[[3]] حول حب رسول الله ﷺ. ومن أجمل ما يتغنى به أهل الصحراء وغيرهم، شعر أهل شنقيط الذي جمع محاسن المديح النبوي بقوله:
حُبُّ طَهَ يُسْتًطَابُ * حَبَّذَا ذَاكَ الْجَنَابُ
الله الله الله (لازمة تتكرر بعد كل شطر)
إِنَّ أَرْضًا لَيْسَ فِيهَا * حُبُّ طَهَ لَيَبَابُ
وَقُلُوبًا لَيْسَ فِيهَا * حُبُّ طَهَ لَخَرَابُ
فَلْيَكُنْ فِي كُلِّ قَلْبٍ * مِنْ هَوَى طَهَ نِصَابُ
فَهْوَ دُرٌّ وَهْوَ كَنْزٌ * وَهْوَ لُبٌّ وَلُبَابُ
وَهُوَ ذُخْرٌّ لِلْبَرَايَا * وَهُوَ لِلْخَيْرَاتِ بَابٌ
وَهْوَ أَمْنٌ وَأَمَانٌ * وَطَعَامٌ وَشَرَابُ
وَهْوَ رُقْيُ النَّفْسِ حَقًّا * وَالدُّعَاءُ الْمُسْتَجَابُ[[4]]
2- أهل سوس ومقامات الحب النبوي
لا غرابة أن يتميز أهل سوس بالتعلق الدائم بالجناب الشريف، وهم سليلو أهل الله عز وجل أصحاب المراقي والمقامات في حب خير الورى والهيام به ﷺ، مقتدين بصحابته رضي الله عنهم الذين كانوا على درجة كبيرة من المحبة والتعظيم، والتوقير والإجلال لجنابه الشريف.
ومن مظاهر الاحتفال الشعبي لأهل سوس العالمة بمولد سيدنا رسول الله ﷺ إقامتهم لحفلات يطلقون عليها ”الميلودية“ تحييها إلى الآن بعض العائلات السوسية، كما تتزين مساجد سوس كباقي مساجد الصحراء وعموم بلاد المسلمين فرحا بهذه الليلة الغراء، ويتلى فيها كتاب الله عز وجل، ويقرأ من كتاب ”الشفاء بتعريف حقوق المصطفى“ للقاضي عياض رحمه الله[[5]]، ويختم صحيح البخاري، وتدارس شمائله وسيرته عليه الصلاة والسلام، وتنشد ”البردة“ و”الهمزية“ للإمام البوصيري رحمه الله[[6]] بطريقة سوسية روعة في الأداء، فتمسي تلك الليلة سمرا قرآنيا نبويا إظهارا لمحبته والتعلق به عليه أشرف الصلاة وأزكى التسليم.
ولمحدودية إلمامي بالثقافة الأمازيغية رغم محبتي الخاصة لها، ورغم أني أتذوق أمداحها رغم جهلي بمعانيها، خاصة بأداء فناني فرقة الأنوار المميزين، أكتفي بإيراد قصيدة أمازيغية أحسبها الأكثر تداولا والأجمل مدحا للمصطفى الله عليه وسلم، وهي قصيدة بعنوان “مُحَمَدْ أَبُو الَأنْوَارْ الصْلَاةْ عْلِيكْ أَرَسُولْﷺ، والتي جاء فيها:
مُحَمَدْ أَبُو الَأنْوَارْ * الصْلَاةْ عْلِيكْ أَرَسُولْ
إِعْزَاكْ البَارِي تَعَالَى * إِمْقٌورْ الشَّانْ نْكِي
بِسْمِ اللهْ أَوَالْ إِعْدْلْنْ * إِزْوَارْ أَكْ إِوَالِيْوِنـِي
نتان أسبديغ أشكو * البركة تلا كيسني
تزاليت ف بو الأنوار* أسفار وولاوني
نستابعاتيد إيسمنك أربي تزدي يدسي
د لحب نك أسيدي الرسول أمزن أغارس نكي
إغاك إفكا إلاهي الحب إلاكن غوول نكي
محمد أبو الأنوار الصلاة عليك أرسول
إعزاك الباري تعال إمقور الشان نكي [[7]]
3- عموم المغاربة وتعظيم المولد النبوي
لقد تخلق المغاربة منذ القدم بما تقدم ذكره من الأخلاق السَّنِيِّة والآداب السُّنية في الاحتفال بمولد سيدنا رسول الله ﷺ، حيث جعلوا الاحتفال بمولده عليه السلام مظهرا جليا يُفصح عن عظيم محبتهم وبالغ تعلقهم بمقام النبوة، إلى درجة أنهم دأبوا على تسمية من ولد له مولود(ة) في شهر الربيع النبوي بالأسماء الآتية: مُولُودْ(ة)، ومِيلُودْ، ومِيلُودَة، والمِيلُودِي، مَّيْلِيدْ…؛ تبركا وتيمنا بشرف زمان المولد النبوي الذي وافقه ميلاد مولودهم.
كما تغمر ليلة المولد النبوي في أغلب منازل الشعب المغربي روح مسجدية وأجواء قرآنية نبوية، وأذكار سنية، وترانيم راقية تعبيرا منهم عن العشق النبوي الكامن في قلوبهم..
ومن أحوال تعظيم المغاربة لهذه الليلة المباركة، طربهم بأبيات شعرية من مأثورات الزجل المغربي، يترنمون بها في مديحهم النبوي، تبين غاية اشتياقهم إلى مقامه المنيف، مما جاء فيها:
طْلًعْ النْهَارْ عْلَى قَلْبِي * حَتَى نْظَرْتَ بْعَيْنِيَا
أَنْتَ دَلِيلِي يَا رَبي * وَأَنْتَ أَولَى مِنِي فِيَا
طْلَعْ النْهَارْ عْلَى الاقْمَارْ * وَلاَ بْقَى إِلاَ رَبِي
النْاسَ زَارَتْ مُحَمَدْ * وَأَنَا سْكَنْ لِي فِي قَلْبِي
النَّاسْ قَالْتْ بِدْعِي * وَأَنَا طْرِيقِي مَنْجُورَة
إِذَا صْفِيتْ مْعَ رَبِي * الْعَبْدْ مَا مْنُو ضْرُورَة[[8]]
كل ما تقدم ذكره ما هو إلا نزر قليل من كثير ما يميز الشخصية الإسلامية المغربية المعتزة بهويتها الإسلامية. والتي تحتفل بالمولد النبوي من باب شكر النعمة وأي نعمة أعظم من نعمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الرحمة المهداة للعالمين؟!
4- ماذا بعد الاحتفال؟
هل يكون احتفالنا بعيد مولده صلى الله عليه وسلم إقامة محافل وترانيم موسمية تنقضي بانقضاء أيام الذكرى، لتذبل بعدها زهرة الحب الإلهي النبوي في قلوبنا؟! أم نجعلها مناسبة لتجديد العهد وتخليص الصحبة الصديقية نصرة لدعوة الله عز وجل، وراثة قلبية وسنة باقية في التابع والمتبوع، تحابا في الله ودلالة على الله، وحضورا وشهادة بالقسط بين الناس.
إن الله عزل وجل خاطبنا بآية قرآنية كريمة، يدعونا فيها رب العزة والجمال والجلال إلى تمثل أخلاق الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم والتأسي بالمصحوب الأعظم في هديه ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا ﴾[[9]].
ومن يطالع حياته وسيرته العطرة الطيبة ليقف على معاني الرفعة والسمو والكمال في مختلف مجالات الحياة الجديرة بالتأسي والاقتداء؛ سيرة عظيمة بعظم رسول بعث رحمة للعالمين، رحمة نبي مصحوب وأب حنون وزوج ودود وقائد ملهم.
فما أبلغ حكمة الشاعر إقبال حين قال: ”صل نفسك بالمصطفى، فالدين هو ذلك. وإن لم تفعل فأنت أبو لهب“.[[10]]
وإنه من الواجب علينا ونحن تظلنا أنوار المولد النبوي الشريف، أن نتذكر المبادئ التي أكد عليها المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أن ﴿لا إكراه في الدين﴾[[11]] وأن حق الحياة على هذه الأرض مكفول للجميع ﴿والأرض وضعها للأنام﴾[[12]]، عالم العيش الآمن دون إقصاء أو ظلم، عالم المحبة والحرية والعدالة، كما نص على ذلك دستور المدينة المنورة الذي حفظ الحقوق لكل مواطنيها على اختلاف دياناتهم ومعتقداتهم.
عن سيدنا أنس رضي الله عنه قال: ”لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء. فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء، وما نفَضْنا أيدينا من التراب، وإنا لفي دفنه، حتى أنْكَرْنَا قلوبنا“.[[13]]
إننا أحوج اليوم أكثر مما مضى إلى أنوار الحب والعدل النبوي التي وسعت الإنسانية رحمة في العالمين ﴿وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين﴾[[14]]، نغالب بها تحديات الحاضر والمستقبل، لننقد الإنسانية المعذبة لتحيى النموذج النبوي الحي الخالد.
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد النبي وآله وصحبه، الذي جعل الله عز وجل محبته من اتباعه ومحبته، وطاعته من طاعته، رسول الله ومصطفاه من خلقه، ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾.[.[15]]
[1]– طلعة، قصيدة من تراث الشعر الحساني الكثير التداول لم أقف على صاحبها.
[2]– طَلْعَة: تطلق على القصيدة من الشعر الحساني تتكون من مجموعة من ”الكيفان“.
[3]– كَــافْ: يطلق على البيت الشعري من الشعر الحساني.
[4]– قصيدة من تراث مديح أهل شنقيط.
[5]– كتاب ”الشفاء بتعريف حقوق المصطفى“ للقاضي أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض بن عمرو بن موسى بن عياض السبتي اليحصبي (476 هـ – 544 هـ / 1083م – 1149م) ه. وهو كتاب حول شمائل النبي صلى الله عليه وسلم، يعد من أحسن الكتب المعرّفة بالسيرة النبوية، وقد قيل فيه: ”لولا الشفا لما عُرف المصطفى“.
[6]– قصيدة ”الكواكب الدرية في مدح خير البرية“، المعرفة باسم ”البردة“، وقصيدة ”أم القرى“ المعروفة باسم ”الهمزية“ لمحمد بن سعيد بن حماد الصنهاجي البوصيري (608 هـ – 696 هـ / 1213م – 1295م)، وهما أشهر قصائد المديح النبوي عند المسلمين، تتميز بجماليتها وبلاغتها وقوة نظمها، وشموليتها بحيث تتناول الكثير من موضوعات السيرة النبوية والشمائل المحمدية، إضافةً إلى ما فيها من ذكر فضائل الصحابة وأمهات المؤمنين رضي الله عنهم.
[7]– قصيدة من تراث الشعر الأمازيغي الكثير التداول لم أقف على صاحبها.
[8]– أبيات شعرية من مأثورات الزجل المغربي تنسب في الغالب للحكيم سيدي عبد الرحمن المجذوب.
[9]– سورة الأحزاب، الآية 21.
[10]– ابو الحسن علي الندوي، روائع إقبال، ص 68.
[11]– سورة البقرة الآية 256.
[12]– سورة الرحمن الآية 10.
[13]– أخرجه الترمذي (3618) واللفظ له، وابن ماجه (1631)، وأحمد (13830).
[14]– سورة الأنبياء الآية 107.
[15]– سورة آل عمران، الآيتان: 31-32.
التالي
6 يوليو، 2024
دراسة الإجماع ونقده في النصف الثاني من القرن العشرين (حمادي دويب)
24 أكتوبر، 2019
التاريخ الاقتصادي والاجتماعي وتاريخ الذهنيات بالمغرب والأندلس (اعمال مهداة للمؤرخ إبراهيم القادري بوتشيش) تقديم د. محمد الشريف
14 مارس، 2023
ماذا تبقى من فلسطين؟(حمدي علي حسين)_2_
11 نوفمبر، 2023
الصحراء المغربية، رؤية حضارية: (عادل بن إدامو) _2_
2 أبريل، 2020
هل يسقط وباء كرونا نظرية “نحلة الغالب” (محمد النويني)
زر الذهاب إلى الأعلى