مواقف إنكار الإجماع في العصر الحديث (حمادي دويب)
يعد موقف جورج حوراني[1] من الإجماع من أكثر المواقف صراحة وجرأة ولعلّ تكوينه الفلسفي ودراسته للفكر الاعتزالي واشتغاله خارج البلدان الإسلامية من العوامل التي يسرت له الصدع برأيه المنكر للإجماع. وقد صرح هذا الباحث اللبناني أن مبالغة المستشرقين في التأكيد على الإجماع أثار احتجاج بعض العلماء المسلمين من ذلك قيام محمد أبو زهرة بانتقاد ست نقاط، منها التأكيد على أولوية الإجماع على النص. وهذه الملاحظات وفرت حافزا حيا لكتابة مقال حوراني لأنها أقامت بشكل واضح الاختلاف الكبير بين رؤية المستشرقين للإجماع ورؤية المسلمين له.
وتتمثل الفرضية التي توجه مقاربة حوراني للأصول في أن الإسلام الحق مؤسس على القرآن فقط وأن أحاديث الرسول ليست مقوما أساسيا للإسلام ويبدو أن هذه الفرضية قد أثرت على ما استخلصه من نتائج، في الأخير فبعد أن عرض الخطوط الرئيسية لآراء بعض الأصوليين في هذا الموضوع ووضح نتائج بحوث قولدزيهر وشخت حول الحديث وصل حوراني إلى نتيجتين أساسيتين :
أ) كل أساس متين لسلطة الإجماع المعصوم يجب أن يوجد في نص ديني إسلامي والعلماء المسلمون محقون في تبني هذا المبدأ.
ب) لا يمكن أن نجد في القرآن أو في السنة حجة قوية على سلطة الإجماع يمكن أن ننظر إليها ونحن واثقون من صحتها وأصالتها. وهذا ما يقودنا العلماء المعاصرون إليه[2].
وتنجر عن النتيجتين نتيجة ثالثة هي عدم وجود أساس متين أو حجة قوية لنظرية الإجماع التقليدية في الإسلام.
وهذه النتيجة الأخيرة لا تمثل –في نظر الباحث- كارثة للدين الإسلامي سواء باعتباره نظاما اعتقاديا أو نظاما سلوكيا ففي المستوى الأول سيتواصل بناؤه المتين على القرآن أما في المستوى الثاني فإن الإجماع التقليدي كان يمثل حاجزا أمام التحول العصري.
وبعد ظهور مقال حوراني بسنتين برز موقف جريء لأحد المسلمين يصدع بإنكار الإجماع مصدرا شرعيا خاصة في مجال الأحكام الدستورية والسياسية[3].
وينطلق صاحب هذا الرأي “عبد الحميد متولي” من أطروحة عامة سيفصلها بعد ذلك “الرأي عندي أنه لا مكان للإجماع في العصر الحديث بين مصادر الشريعة الإسلامية وبخاصة بصدد الأحكام الشرعية الدستورية”[4] ونراه يعلل ذلك أولا بأن موضوع الإجماع يجب أن يكون كما يقول أغلب العلماء أمرا من الأمور الدينية والأحكام الدستورية ليست من هذه الأمور.
أما التعليل الثاني فهو استحالة جمع كل العلماء في العصر الحديث لتفرقهم في أنحاء المعمورة وهذا يتقابل مع ما اشترطه الأصوليون من ضرورة اتفاق جميع المجتهدين في الأمة الإسلامية.
وإذا كان هناك من يعترض على ذلك معتبرا إمكانية إنشاء مجمع للتشريع الإسلامي يتكون من علماء بالشريعة الإسلامية ومن علماء بالقوانين الوضعية. فإن متولي يرد على ذلك بأنه لا سبيل إلى حصر جميع العلماء وخاصة من كانوا منهم في أقطار غير إسلامية ثم إن اجتماع مجتهدين من مختلف الأقطار ومن مختلف المذاهب الإسلامية (لا سيما مع ما هو معروف عند عدد غير قليل من العلماء من نزعة متطرفة متعصبة لمذاهبهم) لا يمكن أن تؤدي إلى إجماع، بل ويندر أن يؤدي إلى أغلبية[5] ثم إن هذا المقترح يتكون فيه المجتمع من فريقين غير متجانسين في الثقافة والانتماء، وهو يتكون من أعضاء ينتسبون إلى بلدان مختلفة ذات مذاهب ونظم دستورية وبيئات اجتماعية وسياسية متباينة، لذلك لا يمكن أن تكون لهذا المجتمع جدوى في مسألة التشريعات الدستورية التي تختلف هي الأخرى اختلافا كبيرا تبعا لاختلاف تلك النظم السياسية والبيئات المتباينة.
كذلك إن الشروط التي تشترط في المجتهدين الذين يتكون من اتفاقهم الإجماع هي غير تلك الشروط التي تتطلب فيمن يوكل إليهم وضع التشريعات الدستورية، أي الأنظمة السياسية لبلد من البلدان. ثم لا توجد دولة من الدول –سواء كانت إسلامية أم لا- تسمح أو تقبل بأن يشترك أحد من غير أبنائها في مهمة وضع التشريعات الدستورية الخاصة بها.
بعد هذا التحليل يصل متولي إلى المسألة الثانية الكبيرة في بحثه المتصل بالإجماع وهي :
هل يعدّ الإجماع بصدد الأحكام الدستورية في أحد العصور السالفة ملزما لنا في هذا العصر ؟ وقبل أن يبدأ الجواب المفصل عن هذه الإشكالية يعلن بجرأة مخالفته للفقهاء يقول : “إن الرأي الذي استقرّ عليه جمهور الفقهاء بصدد حجية الإجماع أنه لا يجوز لأحد أن يخالف الإجماع الذي حدث في عصر سابق والرأي عندي أن الإجماع بصدد الأحكام الدستورية في عصر سابق غير ملزم لعصر لاحق، وبالتالي فهو غير ملزم لنا في عصرنا”[6].
ويقدم الباحث خمسة أسباب تعلل موقفه هذا :
أولا : أن الصحابة –كما ذكر ابن حزم- قد أجمعوا ثلاث مرات في كل مرة على طريقة مختلفة من طرق انعقاد البيعة فخلافة عمر وعثمان وعلي وقعت كل منها بطريقة لا تماثل الطريقتين الأخريين. ولم يشر ابن حزم إلى أن بيعة أبي بكر قد تمت بطريقة تختلف عن الطرق الأخرى. وهكذا فالصحابة لم يلتزموا في ذلك الشأن من الشؤون الدستورية بإجماع سابق بل نقضوه بإجماع لاحق. ولا ينسى الباحث الإشارة إلى أن الإجماع إنما كان إجماع الحاضرين من الصحابة المجتهدين في المدينة. وهو تلميح إلى نخبوية هذا الإجماع وعدم تمثيله لكل المسلمين.
ثانيا : أنه إذا كانت سنن الأحكام الدستورية لا تعدّ تشريعا عاما؛ أي أنها غير ملزمة إلا في عهد الرسول فمن باب أولى لا يجوز أن يعد الإجماع تشريعا عاما، فالإجماع إنما يلي السنة مرتبة بين مصادر التشريع، وبذلك فهو لا يمكن أن يعدّ أقوى حجية من السنة.
ثالثا : أن الإجماع لا يكون إلا عن دليل يستند إليه حسب بعض الأصوليين، أي أنه يجب أن يستند إلى نص في القرآن أو السنة فليس هناك إجماع مستقل كما هو شأن السنّة المستقلة. والقرآن إنما جاء بصدد الأحكام الدستورية بمبادئ عامة تصلح لكل زمان ومكان، وترك التفصيلات لكل أمة لتشرّع بصددها ما يلائم أحوالها وظروفها، فإذا قلنا إن الإجماع الذي تعرض للتفصيلات (مثل طريقة البيعة للخليفة) في عصر مضى يعدّ تشريعا عاما كان ذلك مخالفا لروح الآيات القرآنية بصدد الأحكام الدستورية فضلا عن أنه يؤدي إلى الجمود وإلى الحرج مع أن المرونة هي إحدى خصائص التشريع الإسلامي.
رابعا : أن القرارات التي صدرت بالإجماع في العصور الماضية، إنما صدرت باتفاق المجتهدين الذين يشترط فيهم شروط خاصة من ناحية تمكنهم من علوم اللغة وعلوم الكتاب والسنة، وهذه الشروط إنما تؤلهم فحسب إلى أن يكونوا أرباب الاختصاص فيما يتصل من التشريعات بأصول الحل والحرمة في دائرة ما رسم القرآن من قواعد تشريعية فلا اختصاص لهم في وضع تشريعات دستورية لا سيما إذا ادعي أنها كذلك لزمان ومكان غير زمانهم ومكانهم.
خامسا : وأخيرا فإن ما يبرر رفض الإجماع حسب متولي، الخلاف بين العلماء حوله حتى أنه ليغدو من المتعذر أن يوضع بين مصادر الشريعة المتفق عليها فلقد اختلفوا في تعريفه وبيان أركانه كما اختلفوا في إمكان معرفته والاطلاع عليه بل وصل بهم الخلاف إلى حد التشكيك في حجيته وهذا ما دفع الشيخ شلتوت إلى القول : “لا أكاد أعرف شيئا اشتهر بين الناس أنه أصل من أصول التشريع في الإسلام ثم تناولته الآراء واختلفت فيه المذاهب من جميع جهاته كهذا الأصل الذي يسمونه الإجماع”[7].
إذا كانت هذه مبررات موقف متولي فما هي خلفيانه ودوافعه ؟
نشير أولا إلى أن هذا الباحث ينطلق من أن القرآن والسنّة هما المصدران الوحيدان للتشريع الإسلامي وأن الإجماع عامل من عوامل الجمود يقول : “إذا ألقينا نظرة على تاريخ الإجماع فإننا نجد أن الفقهاء كثيرا ما كانوا يذكرون عن بعض المسائل أنها كانت موضع إجماع مع أنها في الواقع كانت موضع خلاف المجتهدين ولكن الفقهاء كانوا يعمدون إلى هذا الادعاء من أجل أن يسجلوا على المعارضين وزر معارضة الإجماع المصدر الثالث للشريعة الإسلامية وقد أدى ذلك إلى خشية الكثير من المجتهدين من الوقوف موقف المعارضة أو النقد لذلك الرأي أو الحكم الشرعي الذي ادعي أنه كان موضع إجماع وكان ذلك حرصا منهم على سمعتهم ومكانتهم الدينية وذلك مما أدى بداهة إلى الجمود[8].
ويبدو أن تبني متولي هذا الموقف متأثر برأي قولدزيهر لذلك يحيل إلى كتابه “الإسلام عقيدة وشريعة” كما أنه متأثر برأي فون جرونيباوم (Von Grunebaum) الذي ذكر أن ما حدث من قفل باب الاجتهاد منذ حوالي عشرة قرون إنما كان رأيا أقرّه الإجماع[9].
ومن جهة أخرى فإن متولي أستاذ القانون الدستوري والأنظمة السياسية بكلية الحقوق بجامعة الاسكندرية، وهذا يعني أنه من منطلق اختصاصه القانوني، يرفض أن يشاركه عمله غير المختصين. وبالفعل يشير في مقدمة الكتاب إلى أن من أهم أسباب تأخر الفقه الدستوري الإسلامي ظاهرة عدم التخصص التي تلاحظ لدى علماء الفقه الإسلامي لا سيما فيما يتعلق بالفقه الدستوري[10]. ويمكن أن نلحظ في هذا الموقف أثرا لمبدأ الحماية الذاتية (Auto défense) التي يمارسها كل جسم اجتماعي للتصدي لما يمكن أن يضره أو يتدخل في شؤونه، أضف إلى هذا أن العصر الحديث شهد تحولا جذريا مقارنة بالعصور القديمة، لذلك فإن الإجماع لا مكان له بين مصادر الأحكام الدستورية في عصرنا، هذا حسب متولي وما يمكن أن يعول عليه هو القرآن والسنة ومصدر آخر يطلق عليه “التشريع الدستوري” الصادر من أولي الأمر في حدود أحكام الشريعة.
هكذا يركز متولي موقفه المنكر لحجية الإجماع المتعلق بالأحكام الدستورية والسياسية. أما العبادات فإنه اتخذ منها موقفا محافظا فهي لا تنسخ بإجماع لاحق. ويبدو أنه بذلك يروم منع تدخل الإسلام في مجال الدنيا، ومن جهة أخرى لا يريد أن يهتم بالدين. وفي هذا الموقف انزياح عن النظرية التقليدية الأصولية التي لم تكن تفصل وتميز بين الديني والدنيوي.
وإذن فإن متولي يمثل تيارا ينبغي أن يعتبر من أهم التيارات الساعية إلى تجديد نظرية الإجماع. وكتابه يستحق وحده تحليلا دقيقا لدراسة آلية تأويل القانون الدستوري العصري وفي الشرع من خلال نظرة مسلم متحرر كفء في مجال اختصاصه : القانون العام.
وبعد ظهور كتاب متولي بأربع سنوات وتحديدا في سنة 1970 نشرت الباحثة ماري برناند أطروحتها حول الإجماع التي تتكون من قسم أول ترجمت فيه باب الإجماع في كتاب المعتمد في أصول الفقه لأبي الحسين البصري المعتزلي. والواقع أن هذه الترجمة قد أنجزت بين سنتي 1963 و1964 بطلب من أستاذها روبار برونشفيك[11].
وهذا يعني أنها منذ ذلك الوقت وحتى عقد التسعينات ظلت منشغلة بعلم أصول الفقه ومسائله[12].
ويمكن أن ندرج هذه الباحثة ضمن منكري مشروعية الإجماع، وإن لم تقل ذلك صراحة –في حدود ما اطلعنا عليه- وما يبرر موقفنا هذا انشغالها بالموقف الاعتزالي من الإجماع لدى القاضي عبد الجبار وتلميذه أبي الحسين البصري، وإعجابها بموقف النظام الذي عدّ أول العلماء المسلمين الذين أنكروا حجية الإجماع، ولذلك نراها تصرح بأسفها الشديد على ضياع مؤلفات هذا العالم الاعتزالي[13]. ولا يكاد يخلو مقال من مقالاتها من تكرار هذا الموقف وإبراز الهاجس الذي مثله لدى العلماء السنيين.
إضافة إلى هذا فإنها سعت في مقاربتها لخطاب القاضي عبد الجبار حول الإجماع إلى إبراز المسكوت عنه، من خلال وصل الخطاب بالواقع التاريخي الذي نشأ فيه. وعلى هذا الأساس تبرر سكوت القاضي عن اعتراض النظام باعتماده التقية لأن الظرف التاريخي كان يتسم بالقمع السني.
ولعل أهم مبررات موقفنا نقد هذه الباحثة الحجج المشرعة للإجماع من النقل أو العقل. وواضح مع ذلك أنها ترفض نظرية الإجماع التقليدية التي لا تصمد أمام المقاربة التاريخية وتميل في المقابل إلى المقاربة الحديثة وخاصة من خلال مساهمة كمال فاروقي فقد أثنت على مواقفه، واعتبرتها أكثر تفتحا وعقلانية من مقاربات بعض الدارسين التقليديين مثل عبد الوهاب خلاف[14].
ومع ذلك فيمكن أن نلاحظ أن مقالات هذه الباحثة، وإن تحلت بالموضوعية فإنه يغلب عليها الوصف والعرض لآراء الأصوليين القدامى والمجهود النقدي لها، وإن كان حاضرا فهو قليل، ولعل ما يفسر ذلك سعيها أولا وأساسا إلى تعريف القارئ الفرنسي بعلم أصول الفقه وإشكالياته.
وبعد سنتين من نشر ماري برناند أطروحتها أي في سنة 1972، قدّم الباحث الفلسطيني كميل منصور أطروحته حول الإجماع ونشرها في السنة الموالية.
ويمكن أن ندرجه ضمن تيار إنكار الإجماع مصدرا للأحكام في العصر الحديث، فهو يرى أن مكانة الإجماع في الفكر الإسلامي المعاصر تبقى رغم كل شيء ضعيفة. ونتائج الدراسات الخاصة بهذا الأصل تعد هزيلة باستثناء محاولة فاروقي.
وهو يعتبر أن الباحث يوشك أن يقع في الخطأ إن هو اعتبر الإجماع وسيلة تقدم[15]، والمأزق الحقيقي للإجماع في نظره يتأتى من الالتباس الراهن بين الدين والدنيا، سواء كان ذلك في المحتوى أو التعبير[16] وعلى هذا الأساس يقرّر أن المأزق الراهن لمفهوم الإجماع هو فعليا مأزق المطلب التوفيقي المنادي بأن يكون الإسلام دينا ودنيا.
ويختتم الباحث دراسته بملاحظة أن الإسلام المعاصر لم ينشئ سلطة دينية تواكب العصر وتتصف بالحيوية والحركة، ولذلك ظلت الأمور بأيدي العلماء المحافظين على الصورة التقليدية للإسلام.
وضمن المواقف الناقدة والمنكرة لشرعية الإجماع وفاعليته في العصر الحديث، نجد “كارل كالار”[17] فقد أوضح مشاكل التأسيس النظري للإجماع وتطبيقه وبين أن عصمة الإجماع مبدأ خادع، ومع ذلك فإنه يسيطر على كل المنظومة الفقهية الإسلامية[18].
والإجماع في نظره بعيد أن ينعقد في الإسلام المعاصر حول ضرورة الإجماع أو عدم ضرورته، وهو يشك في أن الإسلام –باعتباره دينا كبيرا مثل المسيحية والبوذية- في حاجة إلى إجماع.
ويندرج ضمن فريق منكري الإجماع أيضا “وائل بن حلاق” ذلك أنه قارب حجج النظرية التقليدية للإجماع مقاربة تاريخية نقدية وأشاد بمساهمات المستشرقين هيرغرونج وكولسون والباحث العربي جورج حوارني. وهو يعتقد مثل هذا الأخير أن مسألة حجية الإجماع ينبغي أن يتطرق إليها باعتبارها موضوعا من مواضيع التاريخ الفكري، فالحجج إذن ليست سوى أفكار تاريخية متغيرة ومتطورة ونسبية ومرتبطة بالحدود الزمانية والمكانية مثل أية فكرة. وهكذا ينزع القداسة عن أدلة الإجماع ويربطها بعالم البشر وبالواقع التاريخي[19].
وفي هذا الفريق كذلك يمكن أن ندرج “محمد عابد الجابري” فهو وإن خشي التصريح برأيه وتهرب من الجواب عن سؤال : لماذا التمسك بأصل الإجماع فقال : “ليس من شأننا هنا ولا من اختصاصنا إبداء الرأي في موضوع تزاحمت فيه الأقوال وتضاربت…”[20].
فإنه صرح باعتقاده “أن الإجماع كما ناقشه الأصوليون أنفسهم مبدأ نظري أكثر منه حقيقة ملموسة. والواقع أن مما يثير دهشة الباحث واستغرابه أن يمنح الأصوليون للإجماع كل تلك السلطة، ولا يتفقون حوله على أي شيء يمكن من تحديد وضعه ولا من الإمساك به كشيء قابل للتحديد”[21] وهذا في نظر الباحث يعكس فشل المجتمع الإسلامي في تحقيق مدينته الفاضلة “مدينة الشورى والإجماع”.
وقد عبّر علال الفاسي عن هذا المعنى بصيغة أخرى حينما كتب يقول : “إن الاستبداد الذي أصاب نظام الحكم الإسلامي هو الذي حول التطور في تنظيم الشورى والإجماع إلى مجادلات فارغة في حجية الإجماع وإمكان وقوعه وعدم ذلك”[22].
وهذا يعني حسب الجابري أن كل المناقشات والخلافات والاعتراضات التي عرفها تاريخ الفقه الإسلامي حول الإجماع، كانت نتيجتها الملموسة، ولربما الوحيدة هي تمييع فكرة الإجماع، وبالتالي إقرار الاستبداد. وهذا ما دفع الفقهاء إلى الاتجاه إلى الماضي وإلى السلف الصالح، وهذا ما أضاف إلى الاستبداد الجائر القائم في “الحاضر” استبدادا آخر “فاضلا” ماضيا : استبداد السلف بالمعرفة ولا شك أن الوقوع في الثاني إنما كان بسبب الهروب من الأول بسبب عدم القدرة على التصدي له[23].
إن المواقف التي استعرضناها يمكن تفسيرها بما ظهر في العالم الإسلامي منذ القرن التاسع عشر من نزوع إلى مراجعة مسلمات التراث ومحاولة تكييفها مع العصر. من ذلك ظهور مدرسة “المعتزلة الجدد” في الهند يمثلها زعيم هندي اسمه أمير علي كتب مؤلفا موسوما بـ”روح الإسلام” شرح فيه نظريته. ومن أهم مرتكزات هذه النظرية أن التشريع الإلهي يتطور تطورا تاريخيا، إذ لا يوجد بالنسبة إلى المعاملات الإنسانية قانون خالــد، وأن الأوامر الإلهيــة التي تنظم سلوك الإنســان هي نتيجة نضج ونمو. وتحاول هذه المدرسة تفسير القرآن بمقتضى رأيها وتنكر السنة إنكارا صريحا، وكذلك ترفض قبول الإجماع مصدرا من مصادر الأحكام[24].
ومــن ممثلــي هــذه المدرســة سيــد أحمــد خان (1817-1898) الذي أصبح فــي كتاباتــه المتأخــرة ينظــر للإجماع بحذر، فأحيانا يرفضه كليا وأحيانا أخرى يعــدّه مصــدرا فرعيــا[25] وهذا ما دعا ناقديه ومترجميه إلى اعتباره خصما للإجماع[26].
أما محسن الملك مهدي علي خان (ت. 1325 هـ) زميل سيد أحمد خان وشريكه، فقد اعتبر أن القرآن والسنة، وهو ينقد العلماء معتبرا أنهم معصومين في تأويلاتهم ،وأنهم قد صاغوا نظرية الإجماع لتشريع أمانيهم ونزواتهم[27].
ونجد في بداية القرن موقفا متميزا لعالم الاجتماع التركي زياقوكلب (Ziya-Gö Kalp) (1876-1924) وهو يدين في رؤيته لكتابات أميل دوركهايم وقد ميز في الشريعة الإسلامية بين العناصر التقليدية الجامدة والعناصر الاجتماعية المؤسسة على العرف والمتسمة بالمرونة. والعرف في رأيه ليس العادة التي يمكن أن تقبل أو ترفض وإنما يتضمن القواعد التي قبلتها الأمة والأشكال التي تعبر عن العرف كثيرة مثل الرأي العام والعادات والممارسات وإجماع العلماء، وهو يرى أن العرف قد يأخذ مكان النص أحيانا في ظروف خاصة[28] وبما أنه باحث اجتماعي يطبق القيم الاجتماعية على مبادئ الإسلام، ويميز بين الديني والدنيوي في الفقه الإسلامي، وهذا في الواقع انزياح عن النظرية الإسلامية السائدة التي تنص على أن الفقه الإسلامي يوفر قواعد لكل سلوك حياتي ديني كان أو دنيوي.
ويمكن أيضا أن نجد جذور مواقف الإنكار في مصر منذ أواخر القرن التاسع عشر، فقد برزت مواقف تجاوزت مسلمات المنظومة الأصولية، معتمدة على إعادة الحياة إلى الموقف الذي أهيل عليه تراب النسيان وهو “ما لم يكن في كتاب الله فليس على أحد فيه فرض”[29] ويعتبر تبني هذا الرأي الذي دشنه محمد توفيق صدقي ثورة على المنظومة الأصولية[30] فالقرآن كما يذكر صدقي “بين ومفصل تفصيلا يفي بحاجة جميع البشر بدون احتياج إلى شيء سواه”[31] وهذا واضح الدلالة على رفض ما عدا القرآن من مصادر تشريعية.
[1] – جورج حوراني أستاذ فلسفة بإحدى الجامعات الأمريكية ويظهر اهتمامه بالفكر الاعتزالي من خلال تأليفه التالي :
Islamic Rationalism, the ethics of Abd al-Jabbàr, Oxford, 1971.
[2] – راجع حوراني، المرجع المذكور، ص 59 وحلاق، ص 429.
[3] – انظر عبد الحميد متولي : مبادئ نظام الحكم في الإسلام مع المقارنة بالمبادئ الدستورية الحديثة ط1، الاسكندرية 1966، ط4، 1978.
[4] – متولي، المرجع نفسه، ص 51.
[5] – متولي، ص 57.
[6] – متولي، ص ص 60-61.
[7] – يحيل على كتاب هذا الشيخ “الإسلام عقيدة وشريعة” ص 62 (متولي : ص 64).
[8] – متولي، المرجع نفسه، ص 59-60.
[9] – أحال إلى كتابه حضارة الإسلام ص 125 وهذا المستشرق أستاذ بجامعة شيكاغو ورئيس مؤتمر علماء البحوث الإسلامية الذي عقد بمدينة (Spa) ببلجيكا سنة 1953 وقد ترجم هذا الكتاب عبد العزيز توفيق جاويد.
[10] – متولي، ص 23.
[11] – راجع مقدمة كتابه l’Accord unanime، ص 7.
[12] – انظر مقالها Les Usùl al-Fiqh de l’époque classique, Status Quaestionis. Arabica, XXXIX, Novembre 1992 fascicule 3 pp. 273-286
والمقال في الأصل مداخلة قدمتها في الندوة الدولية لتاريخ العلوم والفلسفة العربية الذي انعقد بباريس سنة 1989.
[13] – انظر قولها : On ne regrettera jamais tant la disparution des ouvrages d’an Nazzam !
في مقال بالفرنسية بعنوان الإجماع عند القاضي عبد الجبار واعتراض النظام، المرجع المذكور ص 34.
[14] – انظر L’Accord unanime، ص 136.
[15] – كميل منصور L’Autorité، المرجع المذكور، ص 184.
[16] – المرجع نفسه، ص 185.
[17] – كارل كالار أستاذ علم الأديان في كلية أصول الدين بجامعة لوزان ونيوشاتل.
[18] – انظر :
Carl Keller : Refléxions autour de la théorie et de la pratique de l’Ijmà’, ibid, p. 26.
[19] – وائل بن حلاق، المرجع المذكور ص 429 وما بعدها.
[20] – محمد عباد الجابري، بنية العقل العربي، ص 128.
[21] – محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي، ص 120.
[22] – علال الفاسي، مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، ص 121.
[23] – الجابري، المرجع المذكور، ص ص 133-134.
[24] – علال الفاسي، المرجع المذكور، ص 95.
[25] – راجع : Ahmad Hasan : Modern Trends in Ijmà’. Ibid, p. 129
وانظر أيضا : Detlev Khalid : Some aspects of Neo-Mu’tazilism Islamic studies, vol VIII dec. 1969, n° 4 p. 323.
وراجع أيضا : Rahat Nabikhan : Les courants modernes de la pensée islamique dans le sous-continent indo-pakistanais dans l’Islam la philosophie et les sciences, Unesco, 1981, pp. 15-128.
[26] – ارجع إلى Bashir Ahmed Dar, Religions Thought of Sayyid Ahmed Khan, Lahore, 1958, pp. 275-276.
[27] – أحمد حسن، المرجع المذكور، ص 130.
[28] – أحمد حسن : المرجع المذكور ص 146 وانظر جورج حوراني The Basis المرجع المذكور ص ص 45-48.
وراجع أيضا : Ziya Gökalp : Turkish nationalism and Western
[29] – الشافعي، الأم، 7/274.
[30] – انظر بحثنا “السنة أصلا من أصول الفقه إلى نهاية القرن 5 هـ” قدّم لنيل شهادة التعمق في البحث سنة 1993 وأشرف عليه الأستاذ عبد المجيد الشرفي ص 419 وقد طبع سنة 2005 بالمركز الثقافي العربي ببيروت تحت إشراف المؤسسة العربية للتحديث الفكري.
[31] – محمد توفيق صدقي، رد الرد، مجلة المنار، مجلد 9 ص 907 نقلا عن الأستاذ عبد المجيد الشرفي، الإسلام والحداثة، ص 161.