المقالات

نظرات في فقه الاعتزال السياسي(بقلم خالد العسري)3

في المقال الثاني استعرضنا مفهوم الاعتزال السياسي وتوقفنا عند دلالاته القرآنية والنبوية، ولاحظنا كيف أن الحديث النبوي: “يهلك الناسَ هذا الحيُّ من قريش. قالوا: فما تأمرنا؟ قال: لو أن الناس اعتزلوهم” يفتح خطا ثالثا بين منابذة حكام الباطل أو مسالمتهم، ونقف مع هذا المقال الأخير من هذه الدراسة مع رجال كانوا عناوين للاعتزال السياسي، وآخرين للإصلاح من الداخل.

رجال عناوين للاعتزال السياسي

ولا شك أن حكام الاستبداد يسعون جهدهم من أجل إدخال الثقاة الأتقياء، والرجال الفضلاء، والعاملين العلماء في سلكه وضمن رجالاته ونخبته، بإشراكهم في مجالسه حتى يمنحها صدقية من صدقيتهم، أو ينزعها عنهم كما هي منزوعة عن هيئاته، وفي كلتي الحالتين يعدّ نفسه رابحا، وإنما يخسر إن قوبل عطاؤه بالرفض، ومؤسساته بالمقاطعة والاعتزال، اعتزال عامة لا آحاد الناس عنها وعن الشأن العام جملة وتفصيلا.

وهذا اختيار سار على دربه العلماء الهداة، ومن أبرز أعلامه الإمام القدوة أبو حنيفة الذي رأيناه يشبهّ قومة الإمام إبراهيم بن عبد الله العلوي ببدر الصغرى، فكان يرفض منح السلاطين وهداياهم، ويرفض أن يكون قاضيا ضمن قضاتهم، بل كان يعتزل وظائفهم العليا، ويربأ بنفسه أن يدخل في سلكهم. فقد روى الربيع بن يونس أنه قال: رأيت أمير المؤمنين المنصور ينازل أبا حنيفة في أمر القضاء وهو يقول: اتق الله ولا تُرع أمانتك إلا من يخاف الله. والله ما أنا بمأمون الرضى فكيف أكون مأمون الغضب! ولو اتجه الحكم عليك ثم هددتني أن تغرقني في الفرات أو أن ألي الحكم لاخترت أن أغرق. ولك حاشية يحتاجون إلى من يكرمهم لك، فلا أصلح لذلك. فقال له: كذبت، أنت تصلح. فقال: قد حكمت لي على نفسك، كيف يحل لك أن تولي قاضيا على أمانتك وهو كذاب!) 1 . وقد سجن بسبب ذلك وعذب عذابا شديدا، وما زال على إبائه حتى دسوا له السم فقتلوه.

والإمام ابن حنبل 2 الذي كان الفقر يبلغ منه مبلغه، كان يرفض عطايا السلاطين رغم شدة فاقته وحاجته، وكان يقاطع أبناءه إن قبلوا أموال الحكام، مذكرا إياهم بقوله: لم تأخذونه، والثغور معطلة غير مشحونة، والفيء غير مقسوم بين أهله) 3 ، وقد قال صالح بن أحمد: كتب إلي إسحاق بن راهويه: إن الأمير عبد الله بن طاهر وجه إلي، فدخلت إليه وفي يدي كتاب أبي عبد الله. فقال: ما هذا؟ قلت: كتاب أحمد بن حنبل. فأخذه وقرأه، وقال: إني أحبه، وأحب حمزة بن الهيصم البوشنجي، لأنهما لم يختلطا بأمر السلطان) 4 ، فانظر كيف كان يسمو معتزلو السلطان في نفوس الخاصة والعامة، وهو أمر كان ولا يزال، وهيهات أن يستطيعه إلا الرجال.

وهذا الإمام النسائي كان يعتزل السلاطين، ويعلن موالاته لآل البيت رغم ما قد يجره عليه من ابتلاءات. وحتى عندما كان يخرج في الغزو، يجتهد لكي لا يلتقي السلطان. قال محمد بن المظفر الحافظ: سمعت مشايخنا بمصر يصفون اجتهاد النسائي في العبادة بالليل والنهار، وأنه خرج إلى الفداء مع أمير مصر؛ فوصف من شهامته، وإقامته السنن المأثورة في فداء المسلمين، واحترازه عن مجالس السلطان الذي خرج معه، والانبساط في المأكل. وأنه لم يزل ذلك دأبه إلى أن استشهد بدمشق من جهة الخوارج) 5 .

أعلام إصلاح من الداخل

لسنا في مقام استقصاء مثل هذه المواقف فهي من الغزارة التي لا يحد وصفها المجلدات، ولكن ننتقل لنقف وقفة مع صنف آخر من الرجال كانوا يراعون ظروف وقتهم، فيقبلون بتولي القضاء أو ما شابه، لكنهم كانوا يثبتون أنهم أكبر من المناصب التي منحت إليهم عند أي منعرج أو ابتلاء، إذ من المعلوم أن الحكام كانوا يريدون العلماء الأعلام الأماجد قضاة على الناس لا عليهم وعلى أجنادهم، وقد رأينا كيف أن أبا حنيفة أعلنها في وجه السلطان المنصور صراحة بأن حاجته إنما هي إلى قاض يكرم حاشيته، ولا يتابعها بجرمها، وذلك كان من دواعي رفضه واعتزاله مثل هذه المناصب المشبوهة. وننظر الآن موقف سلطان العلماء الشيخ عز الدين بن عبد السلام الذي كان لا يرفض القضاء وغيره من الولايات، لكنه يظل عينا يقظة على الأحداث، ولا تخرسه المناصب عن قول كلمة الحق، ولما استعان السلطان إسماعيل بالفرنج وأعطاهم مدينة صيدا وقلعة الشقيف. أنكر عليه الشيخ عز الدين، وترك الدعاء له في الخطبة، وساعده في ذلك الشيخ جمال الدين أبو عمرو بن الحاجب المالكي، فغضب السلطان منهما، فخرجا إلى الديار المصرية، فأرسل السلطان إلى الشيخ عز الدين وهو في الطريق قاصدا يتلطف به في العودة إلى دمشق، فاجتمع به ولاينه، وقال له: ما نريد منك شيئا إلا أن تنكسر للسلطان، وتقبّل يده لا غير. فقال الشيخ له: يامسكين، ما أرضاه يقبّل يدي فضلا عن أن أقبّل يده! يا قوم أنتم في واد وأنا في واد! والحمد لله الذي عافانا مما ابتلاكم) 6 .

والشيخ تقي الدين بن دقيق العيد قبل القضاء بعد امتناع شديد، بعد أن ذكروا له أن امتناعه سيجعل القضاء لفلان أو فلان ممن لا يصلحان له. وعزل نفسه غير مرة ثم يعاد (…) وحضر مرة عند السلطان لاجين، فقام إليه السلطان، وقبّل يده؛ فلم يزد على قوله: أرجوها لك بين يدي الله) 7 ، حياهم الله من شوامخ!

ذكرنا هذين العلمين الأخيرين نموذجا للاختيار الثالث في كيفية التعامل مع سلاطين الاستبداد بعد أن وقفنا مع خطي القومة والاعتزال السياسي، وهو خيار يرتكز على الإصلاح من الداخل، لكنه اختيار مشروط بأن يكون صاحبه أكبر وأقوى من المناصب التي تسند إليه، وأن يكون التسرب تسرب آحاد من الأتقياء العلماء الأقوياء. أما من ثبت في حقه عدم قدرته على منازعة المستبد سلطانه وهو خلو من مناصبه المسمومة، فأنى له أن يقوم في وجهه وقد أسكرته هداياه وعطاياه! وما زال تاريخ المغاربة يعيد تكرار أسطوانة نخب تعلن عزمها على القضاء على الإرث المخزني، حتى إذا أذاقها من شرابه، سكرت عن حالها وانقلبت إلى ضدها، وسار التنظيم أكثر مخزنية من المخزن.

مسك ختام

بسطنا الكلام في مراتب التغيير، وعلمناه مراحل لا خيارا واحدا أو خيارين، ورأينا كيف أن الاعتزال السياسي يُرجع إليه إذا ما انتكست قومة، كما أنه المرحلة الأولى لإعداد شروطها وظروفها. فهو في العود وعند البدء. ويطلب هذا الفقه سعة أفق، وحكمة تدبير، وطول نفس، ومراكمة مكتسبات، أو كما نقل لي ثقة عن رجل جهاد وعلم وحكمة قوله: ليست الحكمة أن نقول الحق ضربة لازب، ولا أن نؤاكل ونشارب، بل نسدد ونقارب، ونحافظ على المكاسب، ونصانع ظرفنا بما يناسب).

والحمد لله رب العالمين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق