نظرية النخبة في علم الاجتماع السياسي(عبد الرحمن منظور الشعيري)
- يعد موضوع النخبة من أهم محاور علم الاجتماع السياسي لارتباطه الوثيق بحقل الدراسات الفئوية التي تهتم بالفئات الاجتماعية وبمكونات المجتمع المدني[1]، ثم لكونه يعد آلية منهجية مهمة في تحليل كيفية اشتغال الأنظمة السياسية وطرق صناعة القرار فيها.
فما هو السياق التاريخي المعرفي لبروز مفهوم النخبة؟ وما هي أبرز الاتجاهات النظرية المفسرة له في علم الاجتماع السياسي؟
- السياق التاريخي والمعرفي لمفهوم النخبة
برزت كلمة النخبة ابستيمولوجيا ضمن مفاهيم الحقل الاقتصادي في أوربا خلال القرن السابع عشر باعتبارها وصفا معياريا للسلع والمنتوجات ذات الجودة والقيمة الممتازة، ثم انتقل المصطلح (élite)إلى قاموس علم الاجتماع للدلالة على الفئات الاجتماعية المتميزة كالنخبة العسكرية والنبلاء وغيرهم، ويعزو توماس بيرتون بوتومور أول استعمال معجمي لمصطلح النخبة باللغة الانجليزية (elite) إلى قاموس أكسفورد سنة 1823[2] ثم لتبرز فيما بعد كمصطلح فرنسي لأول مرة في قاموس اللغة الفرنسية سنة 1872[3] ليعرف في أواخر القرن التاسع عشر انتشارا واسعا في الدراسات السياسية والسوسيولوجية الأوربية خاصة الإيطالية والأنجلوساكسونية منها.
كان بروز نظرية النخبة عند منظريها الأوائل: موسكا، باريتو، ميلز وميشيلز بمثابة التأسيس الفعلي لعلم الاجتماع السياسي في مطلع القرن العشرين، بعد الإسهامات المقدرة لكارل ماركس وماكس فيبر في وضع اللبنات الأولى للسوسيولوجية السياسية خاصة فيما يتعلق بالقوة الاقتصادية والمجتمع والسياسة[4].
انطلقت مختلف نظريات النخبة من مسلمة واقعية وتاريخية، تقوم على كون المجتمعات الإنسانية على اختلاف مرجعياتها الدينية والايديولوجية، تتأسس عناصر القوة فيها المرتبطة بالسلطة والدولة، على وجود أقلية أفقية لها النفوذ السياسي والاقتصادي والديني، في مقابل أغلبية محكومة وخاضعة تتشكل من عامة الناس. وهي القاعدة السوسيوسياسية التي عرفت في التاريخ العربي والإسلامي بتمكن “الخاصة” و”أهل الحل والعقد” وسياستهم سواء من خلال الدولة أو في المؤسسات الأهلية “للعامة” أو “السوقة” التي تحيل في المخيال العربي عموما على مختلف الشرائح الاجتماعية غير المساهمة في صناعة القرار السياسي.
وعلى ضوء ذلك جاءت نظريات النخبة في علم الاجتماع السياسي كآلية مهمة لتحليل اشتغال الأنظمة السياسية، وتفسير جدلية الصراع والقوة الناظمتين لتوازن العلاقة بين الحكام والمحكومين، من خلال التفكيك العلمي لطبيعة هاته العلاقة المتشابكة بين الدولة والمجتمع بنخبه المتعددة: الدينية، الاقتصادية والسياسية.
وعلى الرغم من نشأة نظريات النخبة في ارتباط عضوي بالحقل السياسي والنخبة السياسية، فإنها تمكننا كذلك من فهم وإدراك ظاهرة النخب الاجتماعية بصفة عامة، على اختلاف أصنافها، ومن ثمة، فإننا نستحضر مفهوم النخبة في سياقه العام الذي يمكننا من الحديث عن النخب بصيغة الجمع، ومنها النخبة الدينية. التي سندرسها باعتبارها جزءا من النخب الاجتماعية، المتميزة بارتباطها الوظيفي بالدين من جهة، وباعتبارها عنصرا فاعلا في النسق السياسي من جهة أخرى، مما يدرجها بقوة الفعل ضمن بنية النخبة السياسية.
فقد اعتبر ريموند آرون في تفسيره للسياق المعرفي لنظرية النخبة بأنها جاءت كرد فعل نقدي لمفهوم “الطبقة” في النظرية الماركسية، وكذا لتجاوز النظرية الديمقراطية الليبرالية المثالية وبالأخص في شعارها المشهور القائل:”حكم الشعب بواسطة الشعب”، فانتقد مؤسسو نظرية النخبة بقوة التحديد المادي الصرف لسر تفوق الطبقة الحاكمة لدى كار ماركس، وقدموا مقاربات متعددة عن مصدر التحكم السياسي والنفوذ المجتمعي، النابع من غير القوة المادية القائمة على امتلاك وسائل الإنتاج فقط. بل اعتبر ريموند آرون أن هيمنة الأقلية الحاكمة أو “النخبة” يستند على أسس متعددة للقوة تعادل في أهميتها أو تفوق أحيانا الركيزة الاقتصادية. كما تجاوزت نظرية النخبة مسلمة اعتبار النظام السياسي وفق نظرية الديمقراطية نسقا مفتوحا أمام جميع المواطنين يتيح لهم بمقتضى الآليات الانتخابية واللعبة السياسية سلم الترقي إلى هرم النخبة. لتؤسس نظرية النخبة لدى روادها الأوائل بالمقابل براديغما[5] تفسيريا للنظام السياسي يقوم على مسلمة الوجود المستمر لأقلية استراتيجية حاكمة تمتلك خصائص التميز والتفوق وقوة التأثير والنفوذ السلطوي على أغلبية محكومة ومنقادة[6].
- الاتجاهات النظرية في دراسة النخبة
اختلفت منطلقات مفكري النخبة بحسب توجهاتهم النظرية أو بالأحرى الإيديولوجية، لكن في المقابل اتفقوا موضوعيا على جعل وصف وتحليل الأقليات المهيمنة والحاكمة أي “النخبة” مدخلا من المداخل التفسيرية والمنهجية لادراك الواقع السياسي والاجتماعي، ومن ثم يجوز لنا تحديد اتجاهات دراسة الظاهرة النخبوية على النحو الآتي: الاتجاه التنظيمي ويمثله موسكا وروبرت ميشيلز (1) والاتجاه النفسي الذي تمثله كتابات باريتو (2) والاتجاه الاقتصادي البارز في دراسات بيرنهام (3) ثم الاتجاه المؤسساتي عند رايت ميلز (4).
- الاتجاه التنظيمي لدى موسكا وميشايز
- نظرية النخبة لدى غايتانو موسكا(1858-1941)
يذهب هذا الاتجاه التفسيري إلى اعتبار المدخل التنظيمي هو المحدد الأساس في قوة وهيمنة النخبة في المجتمع والدولة، فامتلاك النفوذ يرجع للقدرات التنظيمية وللانضباط الذي يميز النخبة عن اللانخبة أو الأغلبية المكونة من عامة الناس.
أسس “غايتانو موسكا” نموذجه التفسيري لظاهرة النخبة انطلاقا من مقاربة تاريخية وواقعية تفيد بأن كل المجتمعات والأنساق السياسية عبر تاريخ البشرية، وعلى اختلاف إيديولوجياتها وأنماطها المؤسساتية، عرفت وجود أقلية في يدها مقاليد الحكم، وأكثرية خاضعة لها. وتشمل هذه الظاهرة النخبوية، حسب موسكا، كافة المجتمعات سواء منها الأضعف مؤسساتيا أو الأكثر دمقرطة كما هو الحال مع المجتمعات الديمقراطية الحديثة[1] .
يعزو موسكا سبب نفوذ وتفوق الطبقة الحاكمة[2] على الطبقة المحكومة إلى قلة عددها ودقة تنظيمها مقابل كثرة الطبقة الثانية وانعدام تنظيمها. ومن ثم، يعتبر أن القدرة التنظيمية للطبقة الحاكمة هي المصدر الأساس لقوتها، مما يمكنها من الهيمنة على مقاليد الأمور ومراكز اتخاذ القرار السياسي[3] ويمنحها خضوعا وتقديرا من قبل الأغلبية غير المنظمة.
تتشكل الطبقة السياسية وفق منظور موسكا من النخبة السياسية المهيمنة: كأعضاء الحكومة وكبار أطر الإدارة العمومية والقادة العسكريين ورجال الأعمال، بالإضافة إلى ممثلي النخبة المضادة المؤلفة من قادة أحزاب المعارضة والمثقفين والتجار. ووفق هذا التصور فالطبقة السياسية إذا تتكون من نخب متعددة تجمع بينها روابط التعاون والتحالف والصراع كذلك، الأمر الذي يعتبره المفكر الإيطالي موسكا عاملا رئيسا في تفسير طبيعة العلاقة بين من هم في مركز القمة وأولئك الذين يولدون في أسفل القعر المجتمعي، لكنهم يطمحون في الترقي والصعود الاجتماعي وتوسيع آفاقهم بالبحث عن وسائل جديدة للإسهام في تقدم الحضارة الإنسانية[4].
وفي دراسة لماهية الطبقة السياسية الحاكمة، قسَم موسكا هذه الأخيرة لفئتين: عليا ودنيا. معتبرا بأن الفئة الثانية أي –الدنيا– هي بمثابة صلة وصل بين الطبقة الحاكمة والطبقات المحكومة، أي أنها تقوم بدور الوسيط بين النخبة واللانخبة. وعزا سبب استمرارية هيمنة الطبقة الحاكمة (النخبة) إلى نهجها صيغة سياسية (Political Formula) تكسبها رضا الجماهير وعامة الناس، وذلك بإشرافها على التوازن بين مطالب الفئات الاجتماعية، ومن خلال إظفائها الطابع الأخلاقي على سلوكات الحاكمين بشكل مناف للضغط والتزوير.[5]
- نظرية النخبة عند ميشيلز، (1936-1974)
اختلف “ميشيلز” عن موسكا في تحديد وصف النخبة الحاكمة في المجتمعات والدول إذ أطلق عليها مصطلح الأوليغارشية (Oligarchy) أي حكم الأقلية المقتبس من حقل الفلسفة السياسية اليونانية على عهدي أفلاطون وأرسطو.
يتفق التوجه النظري لميشيلز مع رؤية موسكا التفسيرية لظاهرة النخبة، على كون العامل التنظيمي محدد جوهري في هيمنة النخبة/الأقلية على مقاليد الأمور في الدولة والمجتمع. إلا أن مشليز يعتبر شكل تنظيم الأوليغارشية عاملا من العوامل المدعمة لهيمنتها، بالإضافة إلى تأثير العوامل الاقتصادية المتمثلة في تملك وسائل الإنتاج والعوامل النفسية المرتبطة بنزعة توريث السلطة للأبناء والأقارب. وهي النزعة التي تستند إلى منظومة قيم النظام الاقتصادي الليبرالي المقدس للملكية الفردية[6] .
ومن ثم، فالسلط تتركز حتى في الديمقراطيات العريقة بيد أقلية منظمة تحكم انطلاقا من قاعدة اجتماعية وسياسية اعتبرها ميشيلز كقانون حديدي (Iron law) بمقتضاه تسود الأقلية وتحكم أغلبية غير منظمة، وينطبق هذا القانون السوسيوسياسي على جميع الأنساق السياسية، سواء أكانت ديمقراطية أم شمولية، وهي نتيجة تجريبية خلص إليها ميشيلز في معرض دراسته للأحزاب الاشتراكية والديمقراطية الأوربية عند مقارنتها بالأحزاب اليمينية المحافظة، إذ تبين له أنها تخضع جميعها على اختلاف إيديولوجيتها لحكم الأقلية ونفوذها كانعكاس منطقي لعدم قدرة الأغلبية على تدبير أمورها بنفسها لاستحالة مشاركة جميع أعضاء التنظيم الحزبي في اتخاذ القرارات وتنفيذها، مما يحتم بالضرورة انبثاق أقلية لها القدرة التنظيمية والفعالية لحسم عملية اتخاذ القرار وممارسة السلطة، وهو ما أفضى إلى تبلور مفهوم الديمقراطية التمثيلية في أدبيات علم السياسة المعاصر[7].
ويخلص هذا التوجه النظري لدى موسكا وميشيلز، إلى أن النخبة تهيمن وتحكم انطلاقا من تملكها للقوة الاقتصادية والتنظيمية والإدارية.
- الاتجاه النفسي لدى فلفيريدو باريتو (1848-1923)
تتميز دراسة “باريتو” للظاهرة النخبوية باستنادها إلى علم الاجتماع ومناهجه التطبيقية، وهو معطى منهجي مرده إلى التكوين السوسيولوجي البارز في شخصيته كعالم اجتماع.
ويتأسس التوجه النفسي في تحليل ظاهرة النخبة لدى باريتو على كون التفاوت بين أفراد المجتمع المؤدي إلى ثنائية النخبة المتنفذة واللانخبة التابعة يرجع أساسا إلى تباين العوامل السيكولوجية، التي تجعل من يمتلك المحفزات النفسية كالحماس والفعالية والتفوق في مصاف النخبة الفائزة في “مباراة الحياة” بلغة باريتو أو مؤهلا إلى الرقي لدرجتها في سياق عملية سوسيوسياسية تعرف بدوران النخبة[8].
ومن ثم فالارتقاء الاجتماعي من اللانخبة إلى النخبة له ارتباط جدلي بقوة الذكاء والاستعداد النفسي لدى أفراد المجتمع، وبمعطى سبقية احتلال مكانة متدنية طبقيا في بدء حياتهم[9]. بينما يؤدي فساد النخبة وفقدانها لعوامل التميز والتفوق إلى تراجع موقعها الاستراتيجي، خاصة إذا مسً التفكك عوامل قوتها المتمثلة في الوحدة والتكامل بين مكوناتها، وهو ما يعجل بحسب باريتو إلى إفراز نخبة جديدة من رحم المجتمع تعبر عن المصالح السائدة فيه إما بشكل سلس وتدريجي، أو عن طريق الثورة كما حدث تاريخيا مع الثورة الفرنسية على سبيل المثال[10].
- الاتجاه الاقتصادي والإداري لدى بيرنهام (1905-1987)
صاغ عالم الاجتماع السياسي الأمريكي “جيمس بيرنهام” أهم أفكاره في تفسير وتحليل ظاهرة النخبة في كتابه “الثورة الإدارية”[11] الذي خلص فيه إلى أن النظام الرأسمالي الأمريكي عرف تحولا تدريجيا نحو نسق تسيطر عليه نخبة إدارية تتولى تدبير شؤونه الاستراتيجية في السياسة والاقتصاد.
فبيرنهام يعزو هيمنة نخبة كبار رجال الإدارة في المجتمع الأمريكي إلى انفصال المالكين لقوى الإنتاج والرأسمال عن العمليات الإنتاجية ومفاصل الاقتصاد الاجتماعي، مما مكن من بروز نسق سوسيوسياسي قائم على قيادة الإداريين الممتلكين لقيم الفعالية والإنجاز[12].
وقد صنف بيرنهام النخبة الإدارية في معرض دراسته للنظام السياسي الأمريكي إلى فئتين: فئة الخبراء وأصحاب المهارات التقنية العالية (التقنوقراط)، وفئة ثانية تتألف من مديري ومنسقي الإنتاج أي أطر الشركات الكبرى، وتستحوذ النخبة الإدارية على السلطة الاقتصادية بناء على انسجامها الفكري وترابطها المصلحي المبني على العقيدة الإدارية والأصول الاجتماعية والطبقية المشتركة. فغالبية النخبة الإدارية الأمريكية تنحدر من الطبقات الاجتماعية العليا، أو من الفئات الأولى من الطبقة الوسطى[13].
ومن خلال نموذجه التحليلي يتبين أن بيرنهام تأثر بالنظرية الماركسية في إدراكه لظاهرة النخبة وتفسير وجودها ووظائفها، إذ اعتبر بشكل واضح بأن النفوذ المجتمعي للنخبة الإدارية يرجع بالأساس لسيطرتها الفاعلة على وسائل الإنتاج، ولانحدارها طبقيا من الفئات الغنية والميسورة، وهي الخلاصة التي عبر عنها بيرنهام بقوله: “إذا أردنا أن نحدد الطبقة الحاكمة: فعلينا أن نبحث عن الطبقة التي تحصل على أعلى الدخول”.[14]
- الاتجاه المؤسساتي لدى رايت ميلز (1916-1962)
يعتبر عالم الاجتماع السياسي الأمريكي “رايت ميلز” النخبة أقلية نافذة ومنظمة، نتاجا طبيعيا للطابع المؤسساتي الذي يطبع المجتمعات الحديثة، وقد توصل لهذه القناعة المعرفية بناء على دراسته المعمقة للنموذج الأمريكي. فبلور مجمل طرحه التحليلي الميداني للظاهرة النخبوية في كتابه “نخبة السلطة”[15] الذي انتقد فيه المقاربة الماركسية المحددة للحتمية الاقتصادية كعامل مركزي في صناعة النخبة، إذ يرى مليز أن ثمة عوامل متعددة ومتشابكة في صناعة النخبة المالكة للقرار السياسي الاستراتيجي، فعلى ضوء قراءته للنموذج الأمريكي أجمل هذه العوامل في: الانخراط في النوادي والمؤسسات الكبرى في المجتمع المخملي، وامتلاك الثروة والحصول على الشهادات الجامعية العليا في أرقى الجامعات، والإيمان بالعقيدة البروتستانية، والتحلي بسلوكيات الرفاه في جميع مناحي الحياة[16].
ليخلص ميلز إلى أن نخبة السلطة في النسق السياسي الأمريكي تتكون من ثلاث فئات متجانسة مؤسساتيا، تشكل ما أسماه بمثلث السلطة “Triangle du pouvoir” أي مركز القرار السيادي. وتتكون أساسا من المؤسسة العسكرية ورؤساء الشركات الكبرى والقادة السياسيون المسيرون للدولة. ومن ثم يعرف مليز النخبة: بكونها مجموعة من الشخصيات السياسية والاقتصادية والعسكرية التي تملك سلطة اتخاذ القرار على الصعيد الوطني.[17]
بخلاف منظري النخبة الكلاسكيين: ميشيلز، باريتو، بيرنهام، وميلز الذين نظروا إلى النخبة ككتلة اجتماعية مهيمنة، وإن وصفوها بمفاهيم مختلفة ومتعددة كالأوليغارشية، الطبقة ونخبة السلطة …إلخ. مما أدى إلى حصول التباس لدى العديد من الباحثين بين النخب الاجتماعية بمختلف تعبيراتها الدينية والإدارية والعسكرية… والنخبة السياسية الحاكمة. فإن التوجه النظري لكل من المفكر الأمريكي “روبرت دال” والفرنسي “ريمون آرون” (1905-1983) اللذين عملا على رصد ظاهرة النخبة وفق مقاربة تجديدية تتأسس على مفهوم مركزي هو النخب المتعددة (Plural elite)[18]، وبمقتضاه يتوزع النفوذ المادي والهيمنة المجتمعية السياسية والرمزية في أي نسق سياسي على نخب اجتماعية متعددة دينية، اقتصادية وإدارية … تمارس التأثير في نطاقها المحدد.
وقد انتقد روبرت دال في كتابه الشهير: من يحكم؟ (Qui Gouverne ?) النزعة النخبوية المنغلقة التي السائدة في كتابات منظري النخبة الأوائل، والتي على أساسها تم التفسير النظري لتوزيع السلطة في المجتمع بشكل ضيق، بما يجعل عملية صناعة القرار وامتلاك مقاليد أمور المجتمع والدولة في يد جماعة واحدة أي النخبة الحاكمة التي تعمل على إقصاء بقية النخب وجماعات التأثير[19].
كما اعتبر ريمون آرون أن الوقائع السياسية والمؤسساتية في العديد من المجتمعات خاصة في الديمقراطيات الحديثة، تؤكد وجود نخب متعددة في مجالات الحياة المختلفة: الاقتصاد، الثقافة والمجتمع المدني تؤثر بنشاطها وضغطها في عملية صناعة السياسات الحكومية وفي تثوير الفعالية المجتمعية[20].
وفي المحصلة نعني بالنخبة في هذه الدراسة بأنها ” مجموعة من فئات المجتمع المشاركة في بنية السلطة، أو المؤثرة في قراراتها، المستندة في بسط نفوذها المجتمعي على عوامل متعددة: اقتصادية، دينية، ثقافية أو سلطوية، وكذا من خلال حيازتها لوسائل وقرارات التعبئة المتنوعة لتوجيه الرأي العام سواء على الصعيدين الوطني أو المحلي”.