نقد العقل المطلق في الفلسفة الوضعية(قاسم خضير عباس )
بدأ الغرب جهوده الحثيثة لفصل العلم عن الأخلاق، فذهب مؤسس الفلسفة الوضعية (كونت) متأثراً بأستاذه الفرنسي (سان سايمون) إلى وضع (مراحل عقلية)، ابتدأت بالدين فالفلسفة ثم انتهت بالعلم!! وهو تدرج غير ناهض بسبب إفراطه الشديد في (الأحكام المطلقة)، حيث لم يكن العالم يوماً (دينياً صرفاً)، ولا (فلسفياً أو علمياً صرفاً). إضافة إلى أنَّ النظريات الاجتماعية الحديثة -وكذلك دراسات علم الاجتماع القانوني وفلسفة القانون الحديثة-أثبتت أهمية الدين والأخلاق، بالنسبة للمجتمعات المتقدمة للحفاظ على تماسكها وتوازنه.
لقد ظهر فلاسفة ومفكرون غربيون في القرن العشرين ينادون بربط القانون بالأخلاق تماهياً مع القانون الإسلامي، أمثال الفقيه القانوني الدكتور (روبرت ألكسي)، الذي تطرق لتخليق القانون في كتابه الرائع (فلسفة القانون). كما ظهرت مصطلحات عديدة في الغرب تدعو للموضوع نفسه كتخليق الحياة العامة، وتخليق الإدارات، وتخليق العمل السياسي والاقتصادي.
ولذا واجه التصنيف الذي وضعه (كونت) مأزقاً حرجاً، ولم يصمد طويلاً أمام النقد، خصوصاً وانّه جعل العقل البشري كمركز من مراكز (الفهم المطلق) للكون والحياة، في حين أنَّ العقل لا يستطيع الإحاطة بحقائق الكون لمحدوديته، فكلما اتسعت مدارك الإنسان وتطورت العلوم، اكتُشفت حقائق جديدة كان يعتبرها العقل البشري غير علمية.
ما توصل إليه العالمان الفلكيان (كوبرنيك، وكبلر) في القرن السابع عشر عن ثبوت الشمس وتحرك الكواكب الأخرى، كان يعتبر اكتشافاً علمياً مذهلاً، لأنه استند إلى التجربة وعلوم الرياضيات. ولكن بعد تقدم العلوم الرياضية، بما فيها الميكانيك الرياضي، ظهر قبل حوالي 50 عاماً أنَّ الشمس مع كواكبها تسير في الفضاء على شكل لولبي أو حلزوني، متجهة نحو نجمة تسمى بالنسر الواقع، بسرعة قدرها في الساعة حوالي 70 ألف كيلومتر. وهذا يثبت علمياً قول الله تعالى في محكم كتابه المجيد: (والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم).
المسألة إذن ليست كما وصفها (كونت) في مراحله نحو العلم، بل في ارتباط هذا العلم بالمعرفة الصحيحة، واقترانه بالأخلاق والخير والفضيلة. لقد وقف العلم الحديث مذهولاً أمام إنسان المايا، الذي فهم بطريقته البدائية الترابط بين الزمان والمكان، أو بتعبير أوضح بين الزمان والفضاء، دون أن يمر بمراحل (كونت)، التي أسماها بـ(العقلية).
إنَّ هذه الحقائق استرعت انتباه بعض العلماء الغربيين، وجعلتهم يندفعون لانتقاد فكرة (العقل المطلق) لتخليص الفكر والمعرفة من بعض الأوهام، التي وصفها الفيلسوف (بيكون) بأوهام العقل في كتابه (الأورجانون الجديد)، الذي ظهر عام 1620م باللاتينية باسم (العلامات الصادقة لتأويل الطبيعة) بلحاظ أنَّ الفيلسوف (كانت) قد وضع كتاباً عام 1794م أسماه (الدين في حدود العقل وحده)، أوضح فيه أهمية الدين باعتباره يقوم على (التصورات الأخلاقية المثالية البعيدة عن التزمّت). ومن المعروف أنَّ هذا الكتاب قد أثار رجال الدين المسيحيين والملك (فردريك)، لأنَّ (كانت) اتجه فيه إلى تحليل العقل ونقده، وليس تحليل الظواهر العقلية ذاتها، لهذا قال (الفلاسفة الغربيين): إنَّ من يريد أن يبحث في (نظرية المعرفة) لابد أن يبدأ بكتاب (لوك) (مبحث العقل البشري)، ثم يتجه إلى كتاب (كانت): (نقد العقل الخالص).
والاتجاه نحو (نقد العقل الخالص) أدى إلى ظهور آفاق معرفية جديدة، بحيث لم تسلم حتى نظرية (أنشتاين) من الانتقاد، بسبب تأثرها بنظريات (ديكارت) القائلة (بهيمنة العقل المطلق)، على الرغم من المكانة العلمية المرموقة، التي يحتلها (أنشتاين) ونظريته النسبية.
وعلى إثر الاكتشافات العلمية الحديثة بالنسبة للصفات الوراثية، وتطور علم الأحياء وعلم الآثار، تم انتقاد ونسف (نظرية دارون: النشوء والارتقاء). أما نظرية (نيوتن) الفيزيائية، التي استند العلم الحديث إليها طويلاً، فقد تعرّضت للانتقاد الشديد بعد اكتشاف مبادئ الفيزياء الحديثة. وكذلك تعرضت نظريات (فرويد) للمساءلة والنقد، بعد تطور النظريات البيولوجية الحديثة؛ التي أثبتت أنَّ: (فرويد) لم يفهم الطبيعة النفسية للإنسان بصورة صحيحة وعلمية.
لهذا فإنَّ النظريات هي إسقاطات فكرية عقلية إبداعية، لكنها ليست الحقيقة العلمية المطلقة، لأنها لا تعتبر بديهيات ثابتة. كما أنَّ العلم هو وسيلة من وسائل المعرفة لإدراك الظواهر وتفسيرها، لكنه في الغرب اتخذ أبعاداً أكبر من حجمه، فأصبح مصدراً وحيداً كدين جديد لا يعترف بالأخلاق، فتم استخدامه بخبث لإرهاب الشعوب الأخرى، وإركاعها لإرادة النظام الدولي الجديد، بقيادة (الولايات المتحدة الأميركية) والتبشير بالمنهج الغربي في صفقة القرن وحماية أمن الصهيونية.
ومن الملاحظ أنَّ الغرب اعتمد على قوانين (نيوتن) الفيزيائية الثلاث، التي جعلت بعض المفكرين الغربيين ومنهم (ديكارت)، يؤمنون (بعظمة وهيمنة العقل بصورة مطلقة)، مع أنَّ (نيوتن) لم يرد ذلك اساساً، فتولدت (إشكالية معرفية) تتمحور في تقييد الفهم داخل أبعاد مادية لا تعترف بالروح، واغتيال الأخلاق في المجتمع لإدخال أنماط سلوكية جديدة إلى الناس، مشبعة بالأنانية والجشع والنفعية.
كما أنَّ (الفلسفة الوضعية الغربية) قد اتجهت في بعض انعطافاتها إلى تقديس العقل وإعطائه صفة الألوهية، بالرغم من أنه يقف حيادياً في كثير من القضايا المطروحة، لهذا ظهرت اتجاهات فلسفية متشددة في أوروبا تدعو إلى (العقل الخالص)، وعدم الاعتراف بمحدوديته وأوهامه وعيوبه. علماً أنَّ المدرستين (الانفعالية والاتصالية) في أوروبا ظلتا إلى زمن طويل في جدل، دون أن تتوصلا إلى نتيجة واضحة حول (المادة هل لها فراغ أم لا؟!)، ولم يحسم الأمر بصورة علمية، لأنَّ المدرستين لم تعترفا بأهمية التجربة في ترشيد العقل.
هذه القضايا وغيرها الكثير أدّت إلى ظهور تيار فلسفي معارض، دعا إلى التجربة كأساس للمعرفة، للسيطرة على اندفاعات العقل الخاطئة، حيث انبرى (بيكون) إلى وضع إشكاليات العقل وانتقاد المنطق الفلسفي الأرسطي. لكن هذا التيار الفلسفي المعارض كسابقه وقع في الخطأ نفسه عندما وقف موقفاً هجومياً من مسألة الروح والأخلاق، الأمر الذي أدى إلى كثير من الإحباطات العلمية، التي تناول (كانت) بعضاً منها في كتابه (الدين في حدود العقل وحده).