نقد المحدثين التأصيل العقلي للإجماع أو نقد مبدأ العصمة(حمادي دويب)
ركزت أغلب الدراسات النقدية الحديثة للإجماع ومشروعيته على موقف المستشرق سنوك هيرغرونج (ت. 1936 م) (Snouck Hurgronje) ووسمته بالتميز[1] بالرغم من ردود الباحثين المسلمين التقليديين على أطروحاته[2].
لقد أكد هذا المستشرق كثيرا على أهمية الإجماع معتبرا أنه أصل الأصول في المنظومة التشريعية الإسلامية وأنه المسلمة الأساسية في العقيدة والفقه الإسلاميين.
وذكر أن العلماء المسلمين اجتهدوا كثيرا للبحث عن حجج تؤصل الإجماع من القرآن والسنة لكن مع ذلك فلا ينفي أنهم كانوا يدورون في حلقة مفرغة فالأمة المعصومة وحدها يمكن أن تفسر بدقة القرآن والسنة إذن فمن غير المجدي على الإطلاق الزعم بتأسيس عصمة الأمة عن طريق حجج من القرآن أو السنة فالإجماع له مع ذلك براهينه المقنعة[3].
وبإيجاز يبدو أن ما يقرره هذا المستشرق في نهاية التحليل هو أن الإجماع يمثل السلطة الأخيرة في تأويل القرآن والسنة وفهمهما وتأصيلهما وأن قاعدة أصول الإسلام هي عصمة الأمة الذاتية. وعصمة الأمة في نظره هي الأساس الماورائي للفقه الإسلامي[4].
والنتيجة التي يصل إليها أن الإجماع يقوم على الدور. وقد تبنى المستشرقان شخت وكولسون رأيا مشابها لهذا[5].
وقد انتقدت أطروحات هذا المستشرق خاصة من خلال مقال جورج حوراني حول حجية الإجماع، وقد انتقد حوراني المستشرق من خلال الاعتماد على العلماء القدامى وتقرير أنهم وجدوا مخرجا لمأزق الدور والتسلسل أو الحلقة المفرغة.
وانتقد حوراني اعتقاد “سنوك” أن كل تأويل للنصوص الإسلامية وقع تثبيته عن طريق الإجماع وهو ما ينجر عنه تجميد حركة المسلم في العهود المتأخرة. ويعتبر حوراني أن هذا لم يكن أبدا صحيحا حتى في أكثر الفترات محافظة.
ومهما تكن أهمية الإجماع في المنظومة التقليدية فإن تصور “سنوك” له باعتباره الأساس النظري للمنظومة جرّه إلى صعوبات كلامية وفلسفية. وإن كان هذا التصور لا يسمح إلا باختيارين فكلاهما لا يمكن الدفاع عنه[6].
ومن جهة أخرى انتقد “كميل منصور” موقف “سنوك” ونقف من ذلك على نقطتين :
أوّلا : يمكن تفسير موقف “سنوك” بخلطه أو عدم تمييزه بين فكرتين : الإجماع المجرد باعتبار مفهوما أصوليا والإجماع باعتباره حدثا ونتيجة (إجماع حول أ، حول ب، حول ج…).
ثانيا : عندما يقرر “سنوك” أن “الإجماع هو المسلمة الرئيسية في العقيدة والفقه الإسلامي” فعن أي شيء يتحدث ؟ هل عن مجموع الإجماعات التي وقعت في الإسلام ؟ أم عن النظرية العامة للإجماع ؟
وينجر عن هذا الخلط حسب الباحث أنه يمكّن من الإدانة اليسيرة جدا لمسألة الدور وإخفاء حقيقة أن العلماء المسلمين أدانوها بشكل أقوى أيضا.
وإذا كان العلماء المسلمون ينقدون الدور لإثبات سيادة النصوص المقدسة فإن “سنوك” وكثيرا من المستشرقين يفعلون ذلك ليثبتوا بالعكس سيادة الإجماع وتضخيم أهميته والتقليل من مجهود العلماء المسلمين في تحقيق التجانس والانسجام في منظومتهم[7]. وإلى جانب الاهتمام بموقف “سنوك” توقفت الدراسات الحديثة لتنقد مبدأ العصمة المطلقة للأمة الذي أقرّ على أساس الأحاديث التي يؤصل بها السنيون الإجماع. فقد اعتبر البعض أن مبدأ العصمة كرسته نظرية الإجماع بالرغم من أن آيات عدة تعارضه[8]. وقد أبرز بعض المحدثين أن مفهوم العصمة برز كحاجة حيوية لإيجاد الثقة في سلطة ما.
وهذا المفهوم ، عصمة إجماع الأمة الإسلامية، كان موجودا في عهد الشيباني لكنه تطوّر أكثر خلال النصف الأخير من القرن الثاني[9].
وإذا كانت عصمة الأمة قد فهمت بأنها عصمة العلماء والفقهاء فإن ذلك قد أثار نقد المحدثين فإن كان الفقهاء غير معصومين في تأويلاتهم الشخصية فكيف يمكن أن يكونوا جميعا معصومين فيما اتفقوا عليه ؟[10]
وقد توقف بعض المحدثين عند الاعتراض القديم الذي ينسب إلى إبراهيم النظام إزاء نظرية العصمة. فهذا العالم الاعتزالي ومن اتبعه في نفي حجية الإجماع يرون “أن العقول لا تدل على كون الإجماع حجة وليس يمنع في مقدور الله أن تجتمع أقوام لا يعصم أحدهم عن الخطأ على نقيض الصواب”[11].
وهذا الاعتراض مثل هاجسا شغل السنيين لكنه غالبا ما يتجاوز ويطمس[12] بل إن من المحدثين من حاول تبرئة النظام من هذا الاعتراض ونسبته إلى أتباعه[13] وعلى هذا الأساس اعتبر القاضي عبد الجبار أنه لا دخل للعقل في تأسيس سلطة الإجماع لأنه لا توجد حقيقة عقلية يمكن أن تبرهن على أن أمة ما معصومة من الخطأ لذلك اعتبر أنه ينبغي أن يستند إلى الأدلة النقلية.
ولعلّنـا منذ أن قدّم النظّام اعتراضه لا نجد محاولة متميزة لإعادة النظر في مفهوم عصمــة الأمة باستثناء ما قــام به الباحث الباكستاني كمال فاروقي. وقد أثارت محاولته الكثير من الاهتمام لذلك توقفت عندها الدراسات الخاصة بنقد الإجماع[14].
وقبل أن نعرض لأهم أطروحات هذا الباحث نتساءل عن التيار الذي صنف ضمنه ؟ ونلاحظ هنا أن موقفه عدّ شبيها أو موروثا عن التفكير الإصلاحي لمحمد عبده فكلاهما يرى أن النصوص تشرع الإجماع لكن في معنى محدود[15].
كما عد فاروقي على صلات بالمعتزلة فهناك من اعتبر أنه يعتمد في احتجاجه على اعتبارات عامة كلامية وأخلاقية على طريقة المعتزلة[16] وهناك من عدّ موقفه يبحث عن نوع من التوازن بين النقد العقلي للنظام والتفكير التقليدي في الإجماع[17]. ولكن التيار الذي يتفق المحدثون في إدراج فاروقي ضمنه هو التيار العصري التجديدي الذي يعتمد التمشي العقلي وينفتح على العصر الحديث في مقابل التيار التقليدي المحافظ الوفي لتعاليم القدامى، فيكتفي برؤية ماضوية لا تنفتح على مكتسبات العصر الحديث ومقتضياته.
وإذا كان فاروقي يقبل الأدلة النقلية التي يتوسل بها لتأسيس سلطة الإجماع فإنه يتوقف بشكل خاص عند مفهوم عصمة الأمة الذي يمثل الركن الأساسي للنظرية التقليدية.
فهذه العصمة ينبغي أن تكون محدودة في نظره لأن العصمة المطلقة لا تكون إلا لله وإذا أثبتنا العكس فقدنا صفتنا الأساسية كمؤمنين وموحدين حقيقيين فالله وحده قد وسع علمه كل شيء أما الأمة فلا تكون عصمتها بهذا المعنى وإلا وقعنا في الشرك أي أن عصمتها منظمة محددة بل محدودة في الزمان والمكان وكذلك علمها وقدرتها فهما محدودان في الزمان والمكان أيضا. وهذا يعني أنه من الممكن أن نحثها على أن تقبل فكرة إجماع محلي أي محدود في المكان ومنسوخ أي محدود في الزمان.
وهذا الفهم الجديد للعصمة مثمر بالنسبة إلى فاروقي إذ يمكنه أن يقبل بسهولة فكرة إمكانية نسخ الإجماع وفكرة الإجماع المحلي. ويرى الكتاب المسلمون المعاصرون أن فكرة العصمة ونسخ الإجماع لا يتسقان. والأمر بسيط بالنسبة إلى فاروقي فهو يقول : “ينبغي أن نقر دون تردد بصواب إجماع الأمة في الماضي في إطاره الزماني والمكاني ولكن أيضا وفي نفس الوقت لنا كامل الشرعية وربما الاضطرار لممارسة اجتهاد جديد وإنشاء إجماع جديد حول نفس المشاكل –إن لزم الأمر- في إطار زمكاني هو إطار الأمة الحالية.
إن قرار الإجماع الماضي وقرار الإجماع الراهن كلاهما معصوم من الخطإ في سياقهما الزمكاني[18]. ويرى فاروقي أن ديمومة الإجماعات التقليدية وفكرة عدم إمكانية نسخ الإجماع كانت له نتائج وخيمة على الإسلام وساهمت في منع تطور التشريــع وهي مسؤولة أيضا عن إغلاق باب الاجتهاد وأكثر من ذلك أن الأمة ليست معصومة من الخطأ إلا إذا غيرت رأيها وموقفها عندما تستجــد ظروف جديدة.
ويلاحظ فاروقي أن نظرته هذه إلى العصمة تتناسب تناسبا أكبر مع حالة البلدان الإسلامية في عصرنا هذا إذ هي تحدد ماهيتها كوحدات سياسية متفرقة منفصلة عن بعضها بعضا ولكن هذا لا يمنعنا من التعلق بسلطة الإجماع المحلي وإن قامت مشروعيته على عصمة محدودة في الزمان والمكان ثم إننا مع مرور الزمن وإذا استطعنا أن نحقق إجماعات محلية في سائر البلدان الإسلامية حول قضية ما فعندها يتحتم علينا أن ننشئ صيغة –أو شبكة- من المواصلات بين مقررات الإجماعات المحلية ولربما أفضــى بنا ذلك إلى التفكير في إجماع موحد لكامــل العالم الإسلامي[19].
وهكذا فإن فاروقي قد حاول إعادة التفكير في نظرية الإجماع عن طريق تحليل نقدي لمفهوم العصمة يبرز طابعه النسبي وهو في كل عمله مدفوع برغبته في تمكين الإجماع من أن يكون أداة تغيير في المجتمع الإسلامي لا قوة جمود وذلك حتى يتلاءم مع مقتضيات العالم المعاصر والمنظومة الاجتماعية والسياسية التي ينخرط ضمنها المؤمن. لكن هل كان لهذه المحاولة صدى في الفكر الإسلامي الحديث ؟ وهل كانت لها امتدادات تطبيقية ؟
[1] – انظر حلاق، المرجع المذكور، ص 428.
[2] – راجع عجيل جاسم النسمي : المستشرقون ومصادر التشريع الإسلامي، ص 131.
[3] – Snouck Hurgronje, Œuvres choisies, édité par Bousquet et Schacht, Leiden, 1957, p. 226.
[4] – المرجع نفسه، ص 240.
[5] – Coulson : A History of Islamic Law, E dinburgh, 1964, p. 77 et Schacht, Origins p. 2- 94-135.
[6] – حوراني، ص 50 وانظر نقد حلاق لموقف حوراني ص 429.
[7] – انظر كميل منصور، ص ص 67-68.
[8] – انظر Pareja, Islamologie, Madrid, 1964 ص 630.
[9] – انظر أحمد حسن :
The concept of infaillibility in Islamic studies, vol XI, March, 1972, n° 1, p. 8.
وانظر أيضا مقاله : حجج سلطة الإجماع، المرجع المذكور، ص 42 وانظر بـ د.م.إ. (ط2 بالفرنسية) فصل “عصمة” لـ مادلونق 4/190-192 (W. Madelung)
[10] – راجع أحمد حسن : Modern Trends in Ijmà’. Islamic Studies, vol XIII, June, 1973, n° 2, p. 130.
[11] – علي عبد الرازق، الإجماع في الشريعة الإسلامية، المرجع المذكور، ص 41.
[12] – راجع ماري براند L’Accord unanime, p. 118 وانظر مقالها : الإجماع عند القاضي عبد الجبار واعتراض النظام (بالفرنسية) مجلة ستوديا إسلاميكا العدد 30 باريس 1969 ص ص 27-38.
[13] – علي عبد الرازق، المرجع المذكور، ص ص 10-12.
[14] – انظر كتابي فاروقي بالأنقليزية حول الإجماع والتشريع الإسلامي :
1) Ijmà’, and the gate of Ijtihàd, Karachi, 1954
2) Islamic Jurisprudence, Karachi, 1962.
وقد أصدر قبلهما كتابا حول “الدستور الإسلامي” سنة 1952 وراجع ما كتبه عنه حوراني، المرجع المذكور ص 43 وما كتبه :
Jean Paul Charnay : Normes et valeurs de l’Islam contemporain, Paris, 1966, pp. 230-231.
وانظر أيضا Camille Mansour المرجع المذكور، ص ص 164-167 وماري برناند في مقالها عن الإجماع بـ د.م.ط 2 بالفرنسية 3/1048-1052 وأطروحتها :
L’Accord unanime, pp. 135-138.
[15] – انظر برناند، مقالها “إجماع” بـ د.م.إ. ص 1051 وارجع إلى حوراني ص 43.
[16] – حوراني، المرجع المذكور، ص 43.
[17] – Bernand, L’Accord unanime, p. 136.
[18] – Farouki : Islamic Jurisprudence, pp. 156-157 ; Ijmà’ and the gate of Ijtihàd, p. 16.
[19] – Camille Mansour, L’Autorité, p. 165, Islamic Jurisprudence.