المقالات

نقد المحدثين التأصيل القرآني للإجماع(حمادي دويب)

نلاحظ في البداية أننا لا نجد في البحوث التي تطرقت إلى الإجماع عموما أو إلى مشروعيته تخصيصا تركيزا على مسألة التأصيل القرآني للإجماع من وجهة نظر تاريخية نقدية.

ولا يوجد من ذلك إلا شذرات متفرقة في المقالات أو ببعض فصول كتب تعرضت للمسألة بشكل سريع. وهذا الوضع قد يفسر بما لاحظه المحدثون من صعوبة الاعتماد على النص التأسيسي الأول لتشريع سلطة الإجماع خاصة أن الفقهاء والأصوليين القدامى بادروا إلى نقد الآيات التي تساق عادة لتأصيل الإجماع.

ولعلّ من أقدم المحاولات في هذا الشأن محاولتين الأولى من خارج المنظومة السنية ويمثلها القاضي النعمان بن محمد (ت. 351 هـ) في كتابه “اختلاف أصول المذاهب”[1] فقد عرض سبع آيات يعتمدها مثبتو الإجماع ثم قام بنقدها. وواضح أن نقده هذا يتأسس على خلفية مذهبية شيعية لا ترفض الإجماع السني إلا لتقرّ إجماعا شيعيا يكون الإمام المعصوم ركنه ومقومه الأساسي.

ونجد في الكتابات الشيعية الحديثة[2] تواصلا لهذه المحاولة. وهي تقوم على منهج موحد يتمثل في الوقوف عند كل آية احتج بها السنيون لإبراز انحراف التأويل السني عن الدلالة الضرورية للآية. وهي طبعا الدلالة التي يرتضيها الشيعة. من ذلك أن الآية التاسعة والخمسين من سورة النساء تشتمل على عبارة أولي الأمر فيقع الرد على التأويل السني لهذه العبارة من خلال اعتبار أن أول الأمر المقصودين في الآية هم الأئمة المعصومون من أهل البيت وليس الأمة[3].

أمّا المحاولة الثانية فهي من داخل المنظومة السنية قام بها الفقيه الأصولي أبو حامد الغزالي (ت 505هـ) فقد استعرض فيها عددا من الآيات التي يستند إليها السنيون لتأسيس سلطة الإجماع واستخلص أنها كلها ظواهر لا تنص على الغرض بل لا تدل أيضا دلالة الظواهر وأن أقواها الآية 115 من سورة النساء” ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبيّن له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنّم وساءت مصيرا” ومع ذلك فالغزالي يقرر أن الآية ليست نصا في الغرض أي الإجماع[4] .وهكذا ينتهي الغزالي إلى أن الآيات التي يستشهد بها عادة على حجية الإجماع لا تؤسس الإجماع لأنها لا تنصّ عليه.

 والآمدي (ت. 631 هـ) من جهته يقر أن هذه الآيات لا يمكن أن تعدّ أدلّة قطعية[5] وهكذا وجد المحدثون الأرضية ممهدة لتطوير الموقف النقدي لتأصيل الإجماع بالنصوص القرآنية فبعضهم اعتبر أن هذه الآيات ليست سوى تبريرات حدثت في زمن متأخر نتيجة بحث الأصوليين عن التأسيس الفقهي لما يتفق عليه المسلمون. كما أنها ليست حججا مباشرة على شرعية الإجماع[6]، ونفى بعضهم الآخر وجود نص قرآني واضح ودقيق حول الإجماع باعتباره عملية حية وقرارا يتخذ بعد نقاش أفراد الأمة ومداولاتهم. وحاول أن يبين أن الأصوليين يثبتون سلطة الإجماع المستندة إلى القرآن بالاستعانة بمبدأ منطقي هو عدم التناقض : فهم يبحثون عن آيات تجعل قبول المفهوم وقبول سلطته باعتباره مصدرا للأحكام أمرا ممكنا[7].

ومن جهة أخرى توقف بعض المحدثين عند أول آية استخدمت لتأصيل الإجماع وهي الآية 115 من سورة النساء. وهم يقرون أنها غير مذكورة في “رسالة” الشافعي (ت. 204 هـ) لكن رواية اعتماده هذه الآية تظهر في مصادر أخرى. وهذه الرواية تنصّ على أن الشافعي بقي ثلاثة أيام يبحث في القرآن عن آية يمكن أن تصلح حجة تؤصل الإجماع. وهذه المدة التي قضاها هذا الفقيه في البحث استنتج منها البعض أن الشافعي لم يكن يعتقد أن هذه الآية حجة مهمة[8].

إلا أن بعضا آخر من الباحثين اعتبر أن بقاء الشافعي هذه المدة لا يدل على أنه ظلّ يبحث عن الآية الأكثر دلالة بل أيضا على تردده قبل قبول الآية حجة[9].

وهكذا يبدو مجهود تأسيس مشروعية الإجماع على القرآن غير مجد لأنه لا يوجد في القرآن نص قطعي واحد يصلح لتأصيل الإجماع وكل ما هنالك آيات متفرقة وعامة اعتمدها بعض الأصوليين وهمشها آخرون. ونلاحظ أن عدد الآيات والأحاديث التي تؤصل الإجماع قد تطور بشكل ملحوظ منذ ق4 هـ، ومع الجصاص (ت. 370 هـ) خاصة بالمقارنة مع زمن الشافعي وهذا الارتفاع سيكون ذا أهمية كبيرة للفقهاء المتأخرين.

كما نستخلص أخيرا أن الأصوليين سعيا منهم إلى تشريع الإجماع احتكموا إلى آلية التأويل الذي خضع لتوظيف مذهبي فكل فريق من المسلمين طوع النص القرآني لخدمة أطروحات. وهذا ما أدى إلى تثبيت معنى وحيد في هذه الآيات بالرغم من أن هذا المعنى كان مختلفا فيه منذ تلك العصور القديمة. وهذا ما تفطن إليه بعض الدارسين المحدثين فاعتبروا أن كل آية من الآيات التي يحتج بها لتأصيل الإجماع مفتوحة على أكثر من تأويل واحد. وهذا ما يظهر من خلال اعتراضات القدامى والمحدثين على تأويل هذه الآيات وعلى هذا الأساس فإن هذه الآيات ليست قطعية الدلالة لأن الآية القاطعة الدلالة حسب تحديد الفقهاء هي التي يكون معناها واضحا إلى درجة أنها لا تقبل أكثر من تأويل واحد[10].

وبما أن القرآن لا يوفر حجة قاطعة اتجه الأصوليون إلى الأحاديث فكيف نظر المحدثون إلى استخدام الحديث لتأصيل الإجماع؟ وما هي محاور نقدهم لهذا الاستخدام ؟(يتبع)


[1] – القاضي النعمان، اختلاف أصول المذاهب، تحقيق وتقديم د. مصطفى غالب، دار الأندلس.

[2] – ارجع مثلا إلى مهدي فضل الله : الاجتهاد والمنطق الفقهي في الإسلام، ص 152-154، وانظر محمد تقي الحكيم : الأصول العامة للفقه المقارن ص ص 257-261.

[3] – راجع مهدي فضل الله، المرجع نفسه، ص 154.

[4] – الغزالي، المستصفى في علم الأصول، ص 138.

[5] – الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، 1/278 يقول : “واعلم أن التمسك بهذه الآيات وإن كانت مفيدة للظن فغير مفيدة للقطع”. وانظر هذا الموقف عند ابن حزم في الإحكام في أصول الأحكام، 4/131.

[6] – Marie Bernand : l’Accord unanime de la communauté, p. 117.

[7] – Camille Mansour : l’Autorité dans la pensée musulmane, p. 61.

[8] Hallaq : Authoritativeness of Sunni consensus, p. 432.

[9] – Hourani : The Basis of authority, p. 23.

[10] – حلاق، ص 438.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق