نموذج آخر من القَهْر اللغوي. (عبد العلي الودغيري).
قد يصدّق البسطاء من الناس ما يُروَّج له من مزاعم وافتراءات لا أساس لها من الصحة والمصداقية، تُصوّر اللغة العربية وكأنها عاجزة أو فاشلة في تدريس المواد العلمية التجريبية والرياضية والطبّية، ولكن الأمر الذي لا يمكن تبريره وتعليله على الإطلاق هو القرار المتخَذ من الأعلى بالاستمرار في تحرير العقود المختلفة في كل المعاملات والالتزامات (باستثناء الأحوال الشخصية) باللغة الأجنبية. هل العربية، هنا أيضًا، عاجزة وقاصرة حتى عن تحرير عقد من عقود البيع والشراء والرَّهن والشَّراكات وغيرها من الأمور العادية التي يتعامل بها الناس؟ لا. أبدا. ليس هنالك أي سبب وجيه لذلك على الإطلاق، ولاسيما أن العربية منذ كانت وهي تُستخدَم في هذا المجال بدقة عالية وجودة متناهية، وفقه العقود والالتزامات من الفروع الكبرى في الفقه الإسلامي (والفقه هنا بمعنى قانون التعامل اليومي بين المسلمين في كل أمور حياتهم ومعاشهم، لا بمعناه الديني المألوف). ومن المعلوم المشهور أن نابوليون بونابرت حين غزا مصر في نهاية القرن الثامن عشر، عاد ومعه مدوَّنات الفقه المالكي فبنى عليها مدونتَه في القانون المدني، المعروفة باسمه، وخاصة في مجال الأحكام والعقود والالتزامات، فأحدث ذلك ثورة في التشريع الفرنسي والأوروبي عامة. لا مبرِّر يقبله المنطق للاستمرار في هذا النهج، سوى الإذعان لسياسة الفرَنْسة المجّانية المفروضة على المجتمع بالقوة والقَهْر بغاية تدمير قيَمِه وثقافته ولغته وكل ما يربطه بتاريخه وحضارته وهويّته وأصالته. وهذا مثال واحد من عشرات الأمثلة الأخرى التي تفضح زيف الأطروحة التي تسعى لفرض الفرنَسة بحجة ضعف العربية وعدم تأهيلها. قصة فرنَسَة العقود في المغرب بدأت مع فرض الحماية الفرنسية. حينها عمَد المحتل إلى إحداث طابور خاص من الموثِّقين الأجانب الذين يشتغلون باللغة الفرنسية، للتعامل مع الفرنسيّين والأجانب عموما. ثم توسَّع هذا الجهاز بعد أن جُرّدت المحاكم المغربية الأصيلة من اختصاصاتها الواسعة التي كانت لها، باستثناء الأحوال الشخصية (الزواج، الطلاق، الإرث …الخ)، وأعطيت الاختصاصات الأخرى المدنية والجنائية، وهي واسعة جدا، إلى المحاكم الجديدة التي أحدثت وفق نظام فرنسي، وأصبحت اللغة الفرنسية فيها هي لغة التقاضي والتعامل العادي. فكان من الطبيعي، والحالة هذه، أن يتوسَّع جهاز التوثيق المتعلق بمجالات هذه المحاكم الجديدة، وأن تصبح اللغة الفرنسيةدون غيرها هي لغة تعامله الطبيعية. وسار في هذا الركب أيضا كل الأجهزة القضائية ذات العلاقة. وفي المقابل تقلصت كثيرا مجالات الموثقين الأهليّين (العدول) المرتبطين بالمحاكم الأهلية (الشرعية). ومنذ ذلك الوقت أصبح نظام التوثيق في المغرب منقسما إلى: توثيق تقليدي يتولاه العدول، واختصاصهم يكاد يكون منحصرا في قضايا الأحوال الشخصية ولاسيما في الحواضر والمدن، إلا في حالات ضيقة، وهؤلاء يحرّرون عقودهم (رسومهم) بالعربية، وإلى توثيق عصري يتولاه موثِّقون جدد (Notaires) يتلقون تكوينا قانونيا خاصا باللغة الفرنسية، واختصاصاتُهم واسعة جدا، ما عدا الأحوال الشخصية، وهؤلاء يحررون كل وثائقهم بالفرنسية وحدها. الغريب في الأمر أن هذا النظام الموروث عن الحماية، توسَّع بشكل رهيب في مرحلة الاستقلال، رغم أن قطاع العدل بكامله، تمَّ تعريبُه، في فلتة من فلَتات الزمان، منذ ستينيات القرن الماضي، على عهد وزير العدل يومها المرحوم عبد الهادي بوطالب أستاذ الحسن الثاني وأكبر مستشاريه لمدة طويلة. والأضرار المادية والنفسية الناجمة عن استمرار تحرير العقود باللغة الأجنبية في دولة عريقة، لها لغتان وطنيتان ورسميتان، أضرار فادحة لا حصر لها ولا عدّ، ولاسيما حين يتعلق الأمر بعقود الإذعان التي يُجبَر المواطنون على توقيعها في تعاملاتهم الكثيرة مع البنوك وشركات التأمين والعقار والماء والكهرباء والهاتف والبريد والمواصلات وغيرها من الشركات والقطاعات الحساسة الخاصة والعامة، وهم في أغلبيتهم الساحقة، لا يفهمون مضمونها، ولا مصطلحاتها وتعبيراتها القانونية الغريبة عنهم، فتضيع عليهم بسبب ذلك حقوق كثيرة مادية ومعنوية، ويكلّفون جراء ذلك ما لا يطيقون. مع أن أبسط الحقوق التي ينبغي للمواطن الحصول عليها هو حق استعمال لغته التي يفهمها ويتقنها في كل الأمور المهمة وأولها كتابة العقود والالتزامات التي تربطه بغيره من المتعاملين، لأن هذا الحق، يضمن له قدرًا من العدالة والكرامة والمعرفة الدقيقة بما يتعاقد عليه مع غيره. فلا كرامة للمواطن الذي يجد نفسه مجبَرًا بحكم الواقع الذي لا خيار له فيه، على توقيع عقد من هذا النوع والمصادقة عليه. فهو حتى ولو كان يعرف تلك اللغة، لا بد أن يُحسّ بالمهانة والازدراء، إذ مجرد إجباره على توقيع عقد بلغة مفروضة عليه داخل بلده، حتى ولو كان يفهمها، هو في حد ذاته إهدارٌ لكرامته وتحطيمٌ لنفسيته. أما إذا كان لا يفهم تلك اللغة ولا مصطلحاتها القانونية، فالخسارة المادية أكبر، والأُثر النفسي عليه أسوأ. فهو لا شك سيجد نفسه قد تحوّل في تلك اللحظة إلى شخص أمّي وجاهل، حتى ولو كان من كبار العلماء في وطنه وبلده، وقد يكون من المتضلعين بلغة أو لغات أجنبية أخرى، غير لغة المحتل المفروضة عليه. فهو بعلمه ومعرفة ورفعة شأنه في نفسه وبين أفراد مجتمعه، يتحوّل في لحظة قاسية إلى أمّي جاهل حين يُطلب منه على جهة التعسّف توقيع عقد ضروري لمصلحته، مكتوب بلغة لا يفهمها وليس مجبَرا على فهمها ولا تعلمها. مثل هذا الضَّيم وهذا الحَيف، لا يمكن أن يقبله إلا شخص مقهور مسحوق، مهدور الكرامة، مجروح القلب، محطَّم النفس والوِجدان. هذا الأمر، مع الأسف الشديد، يُراد له أن يستمر، ويتغلغل، حتى يصبح شأنًا عاديا، وواقعا مألوفا لا يثير أي إنكار أو استهجان، فلله درّ القائل : ما لجُرحٍ بميتٍ إيلام). ولله الأمر من قبلُ ومن بعدُ.